18 نوفمبر، 2024 6:03 م
Search
Close this search box.

العراق والمواطنة

قال د. مهدي الحافظ ، عضو البرلمان العراقي ، في كلمة برائته من القائمة الثانية لرئيس الوزراء حيدر العبادي: ان الأساس ان تقوم الدولة على المواطنة. والمواطنة تعني تكافأ الفرص ، وتعني المساواة بين الجميع. ثم قال الحافظ: الى متى تستمر الطائفية والى متى يستمر الانقسام الداخلي؟

انه وصف دقيق وصادق للحالة المزمنة التي يمر بها حاليا العراق. ولكن ، بنفس الوقت ، هل نكتفي بما قاله الحافظ ونقف عند حده؟ طبعا لا ، لان الكلمات مهما كانت قوية ومعبرة ، لا تستطيع ان تنفذ من الحائط الأصم من اول مرة وبسهولة. طريق الحرير لم ترسمه خرائط وإنما رسمته اقدام القوافل.

ان دعوة الحق تقابلها دائما أبدا دعوة الباطل. البشرية فتحت عينها على هذه الحقيقة وستغمض عينها عليها. فقصة هابيل وقابيل غير غائبة عن الاذهان. ودعوة الحق ، وان كانت حق ، فهي لا تثبت وتنتشر ما لم تمتلك الارضيّة القوية والعمل الجاد. والرسالات السماوية تعطينا الأمثلة الواضحة على ذلك. فليس منها ولا واحدة قد مضت في طريقها الحق ومن البداية من غير ان يصادفها الصد.

وقد يبدو انه من المفيد ان نسأل ، لماذا وكيف تنتهي الطائفية وينتهي الانقسام الداخلي؟ ان الدعوة الى المواطنة والمساواة والتعايش الاجتماعي السلمي ، يقابلها الدعوة الى المحاصصة والدعوة للانقسام والتنافر الثقافي والاثني. ورغم قوة حجة الحق ، غير انه يقابلها دائما قوة مضادة لا يستهان بها ، قوة الباطل، ولها أدواتها الفاعلة الخاصة بها.

أليس العملية السياسية ومن بدايتها تقوم على المحاصصة من ألفها الى يائها؟ اليس الحكومة والبرلمان يقومان على المحاصصة من ألفهما الى يائهما؟ اليس التنظيمات والأحزاب السياسية القائمة حاليا تقوم على المحاصصة؟ اليس الإنفاق الحكومي يقوم على أساس المحاصصة؟ وهل فاتني شيء لم اذكره لا يقوم على المحاصصة؟ ثم اليس المحاصصة هي الطائفية والعنصرية بعينها؟ فمن يفكك من؟ دعوة الحق تفكك دعوة الباطل بما تملكه من أدوات متواضعة؟ ام دعوة الباطل تفكك دعوة الحق بما تمتلكه من أدوات قاهرة؟ فماذا تملك دعوة الحق بوجه الأدوات التي تمتلكها دعوة الباطل؟

ووفق هذه الصورة ، دعوة الحق ضعيفة رغم قوة حجتها ، ودعوة الباطل قوية بأدواتها ، فهل ان الانسان العراقي الان وهو عند هذه المنزلة او على هذه الحالة ، يتمكن من استيعاب المأزق الذي نحن فيه ويستطيع التعامل بعقلانية وضمير مع ما يجري حوله؟ لا يكلف الله نفسا الا وسعها. فهل لنا ان نكلف الانسان العراقي الان بما ليس بوسعه؟ الفقير لا يحس بأنه فقير الا عندما ينظر الى الأغنياء. فكيف حال الانسان العراقي وكل من يحيط به فقراء؟

الطائفية مرض اجتماعي عضال ، لا علاقة له بالدِّين ، اي دين ، بل انه اعتقاد باطني قائم بذاته ، ولا يشفى الانسان منه مهما طال الزمن ما لم يتخلص الانسان او ينتشل من هذا الإنتماء. واوربا خير مثال على ذلك ، فأنها شقت طريقها صوب التقدم والرقي عندما اختارت طريق المواطنة الحقة المناقضة للطائفية تماما. المواطنة التي تساوي بين الجميع في الحقوق والواجبات ولا تأخذ التنوعات الثقافية والعرقية كمعيار للتفريق بين المواطنين. المواطنة التي انهت الانقسامات الداخلية ، بعد ان عرف كل مواطن ما له وما عليه وبالتساوي مع المواطن الاخر. ومن حينه بدأ الانسان الغربي يتسلق طريقه خطوة خطوة نحو بناء مجتمع عادل وواعي ورصين. ان المواطنة بمفهومها الحالي لم تحققها ولم تدركها المجتمعات الغربية وبقية المجتمعات المتطورة من اول خطوة او من الوهلة الاولى ، بل تحققت تدريجيا. فكان ما يحرزه المجتمع في الخطوة الاولى ، يعززه في الخطوة الثانية ، ومازالت المجتمعات تواصل مشيها على هذا الطريق الى يومنا هذا.

عندما حدد ذوي الاطلاع والمعرفة الفرق او التباين الحضاري بين المجتمعات الغربية او المتطورة والمجتمعات البدائية او المتأخرة بنحو ٣٠٠ – ٤٠٠ سنة ، هذا يعني ان المجتمعات رسمت لنفسها من حينه مسارين ، المسار الاول مسار المواطنة الحقه ، والمسار الثاني تهديم المواطنة وإضعافها. ان التاريخ المذكور يُبين مسافة تأخر الانسان العراقي او العربي او غيرهما ممن هو على مستواهما عن الانسان الاخر في المجتمعات المتطورة. التأخر يكمن في ضعف الإدراك والوعي الذي يعيقه عن فهم نفسه واحتياجاته وما يدور حوله. اي ان المواطن العراقي او العربي او الاسلامي متخلف كل هذه المسافة عن ادراك مفهوم المواطنة مقارنة مع المواطن الاخر في المجتمعات المتقدمة. وعند ادراكه لهذا النهج ، الامر الذي لا يلوح في الأفق لحد الان ، لابد له ان يبدأ نفس مسيرة التقدم والازدهار التي بدأها غيره قبل ٣٠٠ او ٤٠٠ سنة وأكثر.

ابتلى المجتمع العربي لنحو ١٤٠٠ سنة بمرض الوراثة في الحكم. لا سامح الله من ابتدعها. انها سابقة استندت وتستند اليها ، الكثير من الطموحات السقيمة ، في بناء الأنظمة السلالية ، مهما اختلفت تسمياتها ، وكلها تنمو وتكبر على حساب المواطنة ، بل تأكل من جرفها. فقد دمر صدام في العصر الحديثِ العراق والمجتمع العراقي ناهيك عن انعكاساتها على بقية الشعوب العربية ، بل ودمر المواطنة ، من اجل ان يحفظ الحكم والسلطة بيده ويد عائلته وقريته. وفعل حافظ الأسد وابنه بشار نفس فعلة صدام ليحطمان سوريا والمجتمع السوري. وفعلها حسني مبارك ليحطم مصر. وفعلها علي عبد الله صالح ليحطم اليمن. وفعلها معمر القذافي ليحطم ليبيا والقائمة تطول.

ان القوة التدميرية في هذه الدول المذكورة أعلاه التي يمتلكها الحكام العرب ، استمدت روحها من المراكز الطامعة بدولهم. فهؤلاء الحكام ، وغيرهم لم نسميهم ، ومن غير استثناء ، فقدوا الأمل بأن يلقوا الاستجابة لطموحاتهم المريضة من شعوبهم ، فأستعانوا بمراكز النفوذ العالمية لتحقيقها ، ولهذه المراكز بدون اي شك ، برامجها الخاصة بها ، ففرضت إملاءاتها عليهم ، الاملاءات التي في الاخر ، لا تلبي ولا تخدم غير مصالح مراكز النفوذ.

لا يربى ويعزز الشعور بالمواطنة ، الا عبر طريق واحد ، عبر تحقيق المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات ، وعبر تحقيق التعايش السلمي والعدالة الاجتماعية. وهذا ما يتقاطع وتطلعات الحكام العرب المريضة ، فبان الاختلال في العلاقة بين الحكام وشعوبهم ، وهذا الاختلال لا يأكل الا من صوب المواطنة وبالتالي يأكل من صوب علاقة المواطن بمجتمعه ودولته.

كاد العرب في العصر الحديث ، ان يخطوا خطوات إيجابية في طريق تبني المواطنة كأساس لبناء مجتمعاتهم. وهذا ما كان واضح تماما في المجتمعين المصري والعراقي في الفترة التي سبقت سنة ١٩٥٢ في مصر وسبقت ١٩٥٨ في العراق. فكان هناك هامش من الديمقراطية في كلا البلدين وكان هناك قدر لا بأس به من احترام الحقوق والحريات. وكان هناك ايضا برامج تنمية في كل المجالات. نعم كانت الديمقراطية ضعيفة ويشوبها الكثير من المعوقات. وكانت العدالة الاجتماعية بعيدة عن ان تلبي طموحات المجتمع المصري وكذلك المجتمع العراقي ، او توازي العدالة في المجتمعات الغربية والمتطورة ، ولكنها كانت موجودة ويمكن البناء عليها للوصول الى مجتمع يقوم على المواطنة.

غير ان الانقلاب العسكري في مصر سنة ١٩٥٢ والانقلاب العسكري الاخر في العراق سنة ١٩٥٨ قد قطعا مسيرة الانسيابية البسيطة التي كانت قائمة نحو تحقيق المواطنة ، واستبدلا ذلك بشعارات حركيّة رنانة لم ينال الشعوب العربية منها غير الصورة التي نشاهدها الان في هذه الدول.

اللوحة المرسومة أمامنا الان بائسة ، لم ترسمها احداث اليوم وحدها ، بل رسمها التراكمات التي تجمعت عبر اجيال وليس جيل واحد. الخطأ لا بد ان يتبعه انحراف. والانحراف لابد ان يسبقه خطأ. وبمقدار حجم الخطأ يكون حجم الانحراف. وما لم يتم تصحيح الخطأ لا يتم تصحيح الانحراف.

أحدث المقالات