17 نوفمبر، 2024 7:41 م
Search
Close this search box.

لعنة الذهب الاسود – 20 – الجيش الشعبي

لعنة الذهب الاسود – 20 – الجيش الشعبي

لقد تم توزيع القواعد الثلاثة للقاطع على الربايا المطلة على طريق بغداد- كركوك في منطقة قريبة من قضاء طوزخورماتو التركمانية. كانت بعض هذه الربايا تقع على قمم التلول والجبال المحيطة بقضاء طوزخورماتو من الجهة الشرقية وكان نصيبنا من التوزيع ربيئة تقع في بداية تفرع الطريق الذاهب إلى قضاء كفري من الطريق الرئيسي.

كان الواجب المناط بافراد ربيئتنا إضافة إلى حماية الطريق الرئيسي الإشراف على نقطة السيطرة المجاورة للربيئة وكذلك حماية ناحية سليمان بك الواقعة في الجهة الجنوبية الغربية من الربيئة.

كانت ربيئتنا منشأة في ارض سهلية تقابلها عبر الشارع في الجهة الشمالية سلسلة جبال طوزخورماتو الجرداء وعلى مبعدة كليومتران.

كانت هذه الجبال تضم قواعد الاكراد بقيادة جلال الطالباني والذين كانوا يشنون منها غارات مستمرة على الاقضية والقصبات المجاورة.

كانت الربيئة عبارة عن ساتر ترابي شبه دائري تعلو متران من الارض المحيطة بها وضم الساتر الترابي في داخلها ثلاث غرف متلاصقة مبنية من الطين المجفف في الشمس (اللبن باللهجة العراقية) ومسقفة بصفائح معدنية مضلعة. إحدى الغرف كانت مخصصة لزمرة عسكرية منسوبة للدفاع الجوي مكونة من نائب ضابط وعريف وجنديان، كان نائب الضابط من قرية آمرلي أما العريف فكان من قرية ينكيجة، سكنة الناحية والقرية والقرى المجاورة هم من عشيرة البيات التركمانية.

كان الواجب المناط بالزمرة العسكرية مراقبة حركة طيران العدو بالعين المجردة وإخبار قيادة الدفاع الجوي بواسطة جهار اللاسلكي بالمعلومات حول اعداد الطائرات المعادية المحلقة في المنطقة وانواعها وإتجاهاتها.

تم تخصيص الغرفة الثانية لآمر الربيئة وتم تخصيص الغرفة الثالثة الكبيرة كمنام لبقية افراد المجموعة المكونة من ستة عشر مقاتلا.

كانت هذه التشكيلة من المقاتلين في الربيئة من اغرب التشكيلات المقاتلة، فالاعمار متفاوتة فبجانب الشباب كان يضم شيوخ في العقد الخامس من العمر. إنّ الفترة الطويلة التي استمرت بها هذا الحرب الضروس والخسائر البشرية الجأت القيادة للإستعانة بجميع من يقدر على حمل السلاح حتى وإن لم يكونوا من منتسبي الحزب الحاكم.

تجربة ميليشيا الجيش الشعبي تميزت بسلبيات عديدة فأسلوب الإجبار للمواطنين أدى بكثير من المواطنين للتهرب من الإلتحاق والإختفاء في بيوت غير بيوتهم او الإلتجاء إلى مدن أخرى. بالنسبة للهاربين من الخدمة العسكرية في الجبهة شكلت القيادة مجموعات للإعدامات وأصدر صدام حسين قرارا بقطع الأنوف وألآذان لمن يتم القبض عليه من الهاربين من الخدمة، وكانت عمليات القطع هذه تُجرى في المستشفيات ويتم إجبار الجراحين لإجراء هذه العمليات الوحشية، حتى انّ بعض الأطباء الذين رفضوا إجراء هذه العمليات أضطروا للهروب إلى خارج العراق لتجنب العقاب.

كان التفاوت الآخر في التشكيلة العجيبة التفاوت الثقافي والمهني فبجانب المهندس المعماري والمدرس والموظف كانت مجموعتنا تضم البقال وعامل البناء والنجار والخباز وخريجي إحدى السجون وسائق لسيارة أجرة والذي تم تعيينه كآمر للربيئة.

لقد كانت فترة التسعة الشهور التي قضيتها في هذه المعايشة الإنسانية فريدة من نوعها وعلمتني اساليب كثيرة في التعامل مع اناس من نفسيات متباينة وذو خلفيات ثقافية متناقضة.

انقضت هذه الفترة من الخدمة الإجبارية بأيامها العصيبة بدون حوادث تُذكر ماعدا بعض الهجمات من قبل الاكراد على الربايا المتواجدة في قمم التلال والجبال، كما تفاجأنا في إحدى الأيام بوجود افعى بطول متر داخل غرفة نومنا وبعد مناوشات تمكنا من قتلها بإطلاقات من بندقية الكلاشنكوف التي كانت تسليح معظم افراد المجموعة وكان من ضمن اسلحتنا ايضا بندقية قنص تدربت عليها في معسكر النهروان إضافة لمدفع هاون تدرب عليها آمر الربيئة.

في الشهور الاخيرة تم زرع حقل الغام حول الربيئة من قبل الهندسة العسكرية كإجراء دفاعي وكانت بعض الألغام تنفجر نتيجة لدخول الكلاب السائبة إلى حقل الألغام.

كان الساتر الترابي مليئا بجحور حشرة سوداء لم أرها من قبل يشبه العنكبوت ولكن بذيل عقرب ذو ابرة سامة تستعملها الحشرة للدغ.

في إحدى زيارات شقيقي يلماز للربيئة ابلغني بفوزي بالمرتبة السابعة في مسابقة تصميم دار الأستراحة في قرية العوجة وهي محل ولادة صدام حسين وكنت قد اشتركت في هذه المسابقة قبل الالتحاق بالجيش الشعبي، نتيجتها استلمت حصتي من الجائزة التي بلغت اربعة آلاف دينار وكنت بحاجة ماسة لهذا المبلغ لتسديد ديون السيارة التي اشتريتها في اوائل صيف من عام 1981.

في اوائل الصيف من عام 1986 استفحل الإلتهاب والالم الذي كان يعاني منه شقيقي يلماز في معدته منذ فترة طويلة وبدأت الشكوك تراود الأطباء حول إصابته بمرض السرطان في جهازه الهضمي وتأكدت هذه الشكوك بعد إجراء عملية جراحية لإستئصال القرحة المزمنة في امعائه الدقيقة.

لقد علمت بهذا النبأ الفاجع بعد ان رقد في إحدى مستشفيات كركوك نتيجة لتدهور حالته الصحية بعد فترة من إجراء العملية الجراحية.

بدأ هذا الداء الخبيث يستشري في جسمه الذي بدأ يذبل يوما بعد آخر وكنت ازوره في المستشفى وارقد بجانبه عدة ايام كلما تمكنت من الحصول على إجازة من قاطع الجيش الشعبي.

في منتصف تموز بدأ النزيف الداخلي يزداد يوما بعد آخر ولم تفد محاولاتنا ومحاولات الأطباء لتعويضه بدماء أخرى. كانت الأيام الاخيرة ليلماز وصراعه مع المرض الفتاك من احلك الايام واشدها إيلاما لي، فبعد أن قضيت هذه الأيام معه في المستشفى قررت نقله إلى البيت بناء على نصيحة الأطباء بعد ان اقترب من حافة الموت.

لم يمهله المرض الخبيث إلا ساعات معدودات لفظ بعدها انفاسه الاخيرة في فراشه.

لقد عصف هذا الفراق الاليم وبهذه الصورة الدرامية بكياني وبالرغم من تكرار هذه النكبات وتراكمها في حياتي، فإنّ الجرح الذي تركه فراق يلماز في اعماقي كانت من اعمق الجراح واشدها إيلاما وسلمتني إلى حزن سرمدي صامت.

إنّ شجرة عائلتي تعرضت خلال السنوات السابقة إلى عواصف الردى بعنف وقسوة تخطت القياسات المألوفة وتساقطت معظم ثمارها قبل اوان النضوج وهذا هو الجانب المؤلم في هذه المأساة الإنسانية.

في اوائل الخريف من نفس العام تسرحت من الجيش الشعبي بعد ان قضيت في الخدمة تسعة شهور عدت بعدها إلى ممارسة عملي في دائرتي مهموما ومثخنا بالجراح التي لم اصب بها في معركة ولكنها جراح سهام القدر.

وكما يتعاقب الليل والنهار فالموت والميلاد يتعاقبان، ففي منتصف الربيع من عام 1987 رزقنا بطفل ثالث ذكر سميناه ساركان.

في صيف عام 1988 وضعت الحرب اوزارها بعد فترة عصيبة من حرب المدن تبادل الطرفان المتقاتلان فيها إطلاق العشرات من صواريخ سكود التي كانت تطلق من منصات ارضية وكانت تدمر عند سقوطها عشرات من الدور السكنية ومناطق تجمع السكان.

بعد وقف إطلاق النار انزاح من صدورنا كابوس ثقيل جثم عليها ثمانية اعوام مرت بطيئة ومليئة بالمآسي والآلام تاركا في نفسية المواطن العراقي اخاديد من الجراح غائرة في أعماقه.

من مسودة كتاب (لعنة الذهب الأسود)

يتبع

أحدث المقالات