” لم يكتف ، من خلال السفر، باكتشاف أجنَبَةِ العادات الأخرى، بل وكذلك بأن ثقافة المرء بحد ذاته لا تقل غرابة، بل وإثارة للضحك، فيما لو رآها بعيني الآخر. هذه هي، برأيي، نقطة الصفر في الفلسفة. كل فيلسوف يتبنى لحظة التهجير هذه.”1[1]
ليست الترجمة ضرورية ولازمة للفكر الذي يشتغل عليه الكائن البشري في وجوده في العالم فحسب وإنما هي أمر حيوي وتجربة حاسمة قصد بلورة فهم الذات وبلوغ التفاهم مع الغير.
لذلك يمر ردم الفجوة بين الأنا والآخر ورفع اللبس الحضاري بين النحن والهم وإزالة سوء التفاهم التاريخي بين العرب والغرب عبر تمتين جسور الترجمة التوليدية وتنقية مقاصدها.
في هذا الإطار تحتل الترجمة الفلسفية مكانة مرموقة في سبيل بناء مشروع استراتيجي للأمة وتحيين العقل العربي والوحي الإسلامي في راهن الدراسات المعرفية وحاضر الفلسفة الحية وفي اتجاه عقد محادثة كونية بين مختلف الألسن التي لازالت تشارك في كتابة نص الوجود.
بيد أن الترجمة في الزمن مابعد الحديث لا تعتمد على نظرية معلومة ولا ترجع الى معيار معروف يحدد بدقة الخطأ والصواب ولا تمتلك جملة من الخصائص الكبرى وبرنامج من القواعد المضبوطة وإنما هي حركة تأويلية تقوم بانتقالات نوعية بين ثقافات ومحاولات تقريبية بين اللغات وسرديات نصية وتخيلات قصصية ضمن شبكة من الصور ونسق من الرموز.
وبالتالي لا تتحقق الأمانة الدلالية للنص الأصلي في النص المنقول عبر فعل الترجمة إلا من خلال تحويل المبنى التركيبي إلى نسيج لغوي يفيض بالحقيقة المعرفية والعلامة الواقعية ولا ينتقل الكلام من طوره المكتوب إلى سياقه اللساني الملفوظ سوى عن طريق هجرة المعاني والأفكار عبر فضاء المصطلحات والمفاهيم وكذلك بالاستعارات الحية والمجازات المرسلة.
لهذا برزت الترجمة كممارسة عملية بالأساس وإنتاج مادي للمعرفة الكامنة دون الاستناد إلى عقلنة مسبقة وتخطيط فكري مبرمج ودون الحاجة إلى تنظير منهجي وتصور معرفي قبلي.
لا تعود الترجمة إلى ما قبل ميلاد النص ولا ترجع الى الزمن الذي سبق تشكل النص قصد التعرف على بذوره وإدراك جذوره والإحاطة بعناصره الجنينية وإرهاصاته البعيدة ولا تهتم بالسياق التاريخي والشروط الاجتماعية والملامح السياسية والظروف الثقافية التي أحيطت بالمؤلف أثناء كتابته ولا تفكر في الأوضاع المعرفية والأنساق الرمزية والأنماط الإدراكية التي تسيطر على عالم الفكر وتشكل براديغمات العلم في عهد الكاتب وإنما تضع كل ذلك في مقام ثان وتولي عناية أساسية في مرحلة أولى بالوضعية الهرمينوطيقية للنص وتبحث عن الوسائط من أجل استيفاء عملية العبور وتأمين حركة النقل بالمعاني من لسان إلى لسان.
بطبيعة الحال تقتضي عملية الترجمة الالتزام بعدد من البروتوكولات الرسمية من أجل تنظيم العمل المعرفي وترتيب الورشة الميدانية والارتقاء بها من حالة وجدانية إلى موقف نضالي:
– الترجمة عملية ممكنة ومكابدة وجودية مضنية.
– الترجمة تجربة حدوث للحقيقة وإنتاج للمعنى.
– الترجمة علاقة ترابطية تفاعلية بين اللفظ والشيء والدلالة.
– الترجمة مران على التطبيق وتدرب على الفهم.
– الترجمة محادثة مزدوجة بين الأنا ونفسه والآخر.
– الترجمة عملية لفظية لنوافذ مفتوحة تسهل نقل المعلومات.
– الترجمة تشكيل عالم مشترك للتلاقي والتعارف بين الذوات.
– الترجمة طريقة لمقاربة اللغة وصيانتها من التحريف.
– الترجمة ذروة التجربة التأويلية وفهم نابع من الحياة.
– الترجمة موقف نقدي تقويمي ووجهة نظر منفتحة وعلاجية.
– الترجمة سعي للتملك دون هيمنة وتلاقي للأصلي مع الأجنبي.
– الترجمة جدل بين أسئلة القارئ وأجوبة الكاتب يسجد الوعي المتأثر تاريخيا.
– الترجمة إعادة بناء للتراث من خلال امتلاك الماضي وتوسيع آفاق الحاضر.
– الترجمة قراء تفاعلية عبر أصوات متعددة للزمن التاريخي للذات الحضارية.
– الترجمة إبداع للفضاء النصي وإعلانا يتكلم فيه الكائن عن العهد ويعظ بالوعد.
– الترجمة وجود نحو النص الخاص بنا يتلاحم فيه الصوت والمعنى.
– الترجمة تخلي عن السلطة وخلع عن المركز وتشكيل حر للهامش المختلف.
– الترجمة اتفاق جوهري بين اللغة والفكر والوجود على وضع الاختلاف في الهوية.
– الترجمة معاصرة التراث وتقليد حديث وانتصار على الغرابة وتوطين للهجين.
– الترجمة كيفية للكلام وأسلوب فني في التنضيد وصناعة الحياة ضمن لغات أجنبية.
“وهكذا ، كل ترجمة هي، في الوقت نفسه، تأويل. حتى أننا يمكن أن نقول إن الترجمة هي ذروة التأويل الذي يكونه المترجم للكلمات”2[2].
بهذا المعنى يستوجب طرح سؤال : ماذا يعني فعل الترجمة؟ البحث في التجربة اللغوية التي ينخرط فيها الكائن البشري مسافرا بين الألسن وواصلا وفاصلا الفكر عن اللغة والواقع.
خلاصة القول أن الترجمة عملية دقيقة يجريها الفكر على نظمه المعرفية تتراوح بين المنحى الأدبي والمقاربة العلمية وترتكز على حدث في الكلام يقوم على لعب بالألفاظ ضمن انصهار آفاق مفتوحة على إيقاع تعزفه الجمل والأفكار والأشياء وتترجمه في فعالية إبداعية أصلية.
لكن ماهي الشروط التي يوفرها الفكر الحضاري من أجل تحويل الترجمة إلى فعل إبداعي؟
المراجع:
1-آلان باديو وسلافو جيجيك، الفلسفة في الحاضر، تحرير بيتر إنغلمان، ترجمة يزن الحاج، دار التنوير، بيروت، طبعة أولى، 2013. ص70.
2-غادامير (جورج هانز)، الحقيقة والمنهج: الخطوط العامة لتأويلية فلسفية، ترجمة حسن ناظم وعلي حاكم صالح، دار أويا، طرابلس، ليبيا، طبعة أولى، 2007، ص506.
كاتب فلسفي
[1] آلان باديو وسلافو جيجيك، الفلسفة في الحاضر، تحرير بيتر إنغلمان، ترجمة يزن الحاج، دار التنوير، بيروت، طبعة أولى، 2013. ص70.
[2] غادامير (جورج هانز)، الحقيقة والمنهج: الخطوط العامة لتأويلية فلسفية، ترجمة حسن ناظم وعلي حاكم صالح، دار أويا، طرابلس، ليبيا، طبعة أولى، 2007، ص506.