من الغرابة حقاً، والمصادفة اللا متوقعة، بل التي لا يمكن تخيلها، أن يقع بين يدي كتاب عن “رحلات المغامر العربي ـ الحاج عبدالله وليمسون المسلماني”.
وقد يسألني سائل، ما الغرابة وما المصادفة في ذلك؟ أليس الأمر عادياً في أن تقرأ كتاباً عن رجل عربي يحمل صفة الحاج واسم عبدالله ومسمى المسلماني، ولكن تبدو تسمية “وليمسون” غريبة لم يألفها قاموس الأسماء العربية، حتى لو أراد أحدهم أن يتشبه بالإنجليز في مسمياتهم، ولهذا لابد لنا أن نعرف من أين جاء هذا الاسم؟.
الجانب الآخر الغريب واللامتوقع هو أن الرجل عاش في أواخر حياته في مدينة البصرة (جنوب العراق) والمطلة على الخليج العربي من جهة الفاو وأم قصر والتي يشقها نهر شط العرب نصفين، بعد أن يلتقي دجلة والفرات في مدينة القرنة، ويأتي هذا النهر الذي يحمل اسم شط العرب ليصب في نهايته عند منطقة رأس البيشة في الخليج العربي، حيث تواجه البصرة إيران من جهة عبادان عند مدينة “السيبة”.
كل ذلك استهلال لما أريد قوله من أن هذا الرجل المدعو الحاج عبدالله وليمسون المسلماني كان أحد أهم الرحالة الإنجليز الذي هاجر من بريطانيا وهو الرجل الأشقر الذي ولد لأبوين بريطانيين، وتم تعميده باسم وليم ريتشارد وليمسون في مدينة بريستول غرب بريطانيا عام 1872 ومات ودفن في البصرة عام 1958.
وأيضاً نقول ما الغرابة في ذلك؟
الغرابة حقاً أن هذا الرجل كان بعد أن جاب الخليج العربي والهند واليمن جاء إلى البصرة وسكن في قرية “كوت الحجاج” حيث امتلك المزارع الغناء المليئة بأشجار النخيل بكافة أنواعها والتي كنا نسميها نحن أبناء قرية “صبخة العرب” المجاورة لقرية “كوت الحجاج ـ بساتين الحاج عبدالله” ولا نعرف ـ حتى لحظة قراءتي هذا الكتاب ـ أنه كان إنجليزياً.
كنت في طفولتي وحتى وقت متأخر إذا أردت أن أشعر براحة البال وجمال الطبيعة وفيء ظلال النخيل الوارفة، ما عليّ سوى دخول بساتين الحاج عبدالله والتي ظلت قائمة حتى نهاية الستينيات، عامرة بخضرتها، فارهة بأنهرها التي تأتي بالماء الحلو من نهر ينبع من شط العرب، متألقة باصطفاف مساطر النخيل المحملة بعذوق التمر وهي تنوء بحمله، باردة برودة الماء الرقراق الذي كانت النواعير تغرفه من النهر صاعدة به باتجاه السواقي الصغيرة المتشعبة بين أشجار النخيل ذاهبة بالماء باتجاه بقع صغيرة مزروعة بما لذ وطاب من خضرة تفوح منها روائح عذبة.
“روضة” إنجليزية
كان كل شيء في بساتين الحاج عبدالله مباحاً للجميع، لا أحد يمنعنا من أن نقطف التمر أو نقتلع رؤوس مختلف أنواع الخضار من تلك الأرض الرطبة، كنا نشعر أن تلك البساتين الغناء والتي تتوزع فيها بيوت من الطين بأسيجة من سعف النخيل لمزارعي تلك الأرض من فقراء المدينة، ما هي إلا أرض لم تكن معزولة عن مشاعرنا وأقدامنا الحافية التي تقفز بين أنهارها الصغيرة كالسناجب، ولست هنا في باب التصويب لما عرضه الكتاب، بل أقول إن بساتين الحاج عبدالله كانت مفتوحة للريح والناس والماء الآتي من شط العرب، مليئة بالنخل والتمر والبرتقال، وكأنه قد زرع “روضة” إنجليزية في قلب البصرة.
شهد الدرب الآخذ إلى كوت الحجاج طبعات أقدامي على ترابه، حيث تحسست يداي جداره الطيني الطويل الذي اختبأ خلفه اللصوص في الليالي الحالكة، وبعرق أمهاتنا وهن يأتين من سوق المدينة عابرات الشارع المجاور للسياج الطيني وقد تصبب منهن عرق لهيب شمس البصرة وهن يضعن فوق رؤوسهن ما تسوقنه ذلك اليوم.
نعم.. لم يذكر لنا أحد من أبناء “كوت الحجاج” يوماً أن صاحب هذه الأراضي والبساتين والمزارع كان رجلاً إنجليزياً، تزوج من امرأة عربية وسكن مدينة البصرة في روضة غناء، حيث كان واسع الثراء، بعد أن جاب البحار والمدن والصحراء والدول البعيدة، وصاحب الأمراء وجلس مع الملوك والشيوخ وأدار دفة عالم عربي ينفتح آنذاك على ثروة جديدة اسمها النفط.
ولكن ما هي قصة هذا الرجل وكيف ارتحل من بريطانيا في عمر لم يتجاوز الـ 13 عاماً؟
المغامرات والمخاطر
نعم، قصة كتاب “رحلات المغامر العربي.. الحاج عبدالله وليمسون المسلماني” التي كتبها ستانتون هوب وترجمتها إلى العربية الدكتورة أنعام أيبش وقدمها وعلق عليها الدكتور أحمد أيبش والصادر عن هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، فيها من الغرابة ما يستحق أن يقال عنها “قصة عجيبة لرجل إنجليزي طوّحت به الأقدار شرقاً وغرباً، وتناقلته المغامرات والمخاطر حتى وقع بين إشداق الموت غير مرة، إنه وليم ريتشارد وليمسون معاصر وصديق لورنس العرب وغرتود بل وهاري سنت جون فيلبي وغلوب باشا “أبي حنيك” ومرافق الجنرال مود في حملته على العراق وهو الرجل الذي درس الإسلام وارتضاه ديناً فنطق بالشهادتين وحطت به الرحال في جنوب جزيرة العرب، في عدن أولاً، ثم انتقل إلى الكويت، وطاف ببوادي شرق الجزيرة ثم بساحل الخليج يتصيد اللؤلؤ في أبوظبي ودبي والبحرين وغيرها، إلى أن حط أخيراً رحاله في البصرة وعاش بها حتى وفاته عام 1958″.
تعيش ذرية الحاج عبدالله المسلماني الآن في الكويت والبصرة وتحمل الاسم ذاته، وهو اسم رجل ذي طموحات عميقة وأحلام وعشق لحياة العرب ولقيم البداوة حيث انتقل بين الخيام العربية منذ مطلع تسعينيات القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين، شهد أواخر أيام الدولة العثمانية والانتداب البريطاني في العراق والعهد الملكي فيه وتعرف إلى أكثر أمراء وشيوخ منطقة الخليج العربي فربطته بهم صداقات حميمة ومحبة متبادلة.
تبتدئ تلك القصة الغريبة منذ لحظة بحث ستانتون هوب كاتب ومؤلف الرحلة عن الرحالة “الحجي عبدالله” في أزقة البصرة حيث يقول:
“كنت قد سمعت اسمه مرة بطريقة غامضة أثناء وليمة في قصر شيخ المحمرة” ويقصد به الشيخ خزعل بن جابر الكعبي (1863 ـ 1936 م) حيث كان حاكماً للمحمرة والأحواز في عربستان خلال الفترة الممتدة بين 1897 ـ 1925م إلى حين أسره الإيرانيون عام 1925 وتوفي عام 1936، وأما قصره الذي ذكره هوب فهو الذي بناه عام 1971 فبقي ماثلاً للعيان إلى أن قامت السلطات الإيرانية بهدمه مؤخراً في عام 2010.
وظلت قصة وليمسون “الحجي عبدالله المسلماني” هاجس ستانتون هوب وقد عرف بان الحجي قد سكن البصرة في “كوت الحجاج” ولذا كان لابد أن يصل إليه ليأخذ منه سيرته ليكتبها، حيث اكتشف أن الحجي هو الذي أدخل الشركات البريطانية الباحثة عن النفط إلى منطقة الخليج وبخاصة شركة النفط الإنجليزية الإيرانية، في وقتها كان ستانتون هوب قد سكن في فندق شط العرب في “الماركيل” أو “العقل”.
اللقاء المرتقب
صمم ستانتون هوب أن يلتقي به بالرغم من حرارة الجو في صيف البصرة اللاهب، فاتصل هوب بالسفير السعودي الذي كان صديقاً للحجي عبدالله حيث كانت القنصلية السعودية في العشار، فأرسل معه دليلاً ليوصله إليه، وكان بحثاً مضنياً يتذكره هوب الذي لا يعرف من اللغة العربية غير “السلام عليكم” و”امشيِ”.
وبين أشجار النخيل والعنب والبرتقال والظلال الوارفة في البساتين كان بيت الحجي عبدالله مع عائلته وأولاده أحمد بن عبدالله الفضل المسلماني والذي توفي في 31 يوليو 2010 في البصرة حيث بقي في المدينة عقب وفاة وليمسون في منطقة الجزائر، وكذلك الابن الأكبر عبدالمطلب بن عبدالله الفضل المسلماني وأخوه محمد بن عبدالله الفضل المسلماني”.
ويصف “هوب” لحظة لقائه بالحجي عبدالله” فيقول:
“كان هذا هو الحجي وليمسون الذي أتيت لأتعرف عليه شخصياً: رجل مسن حذر، هادئ الكلام، قد حظي باحترام كبير من قبل المجتمع المحلي حيث يمضي فترة تقاعده، ومن خلال الصداقة التي توطدت في العراق، أصبحت تدريجياً على معرفة بوليم ريتشارد وليمسون ذلك الشاب الإنجليزي الجسور المفتول العضلات الذي كان قد دخل الولايات المتحدة الاميركية نهاية القرن التاسع عشر، هذا الشاب وليمسون هو نفسه الذي ـ بعد مغامرات مذهلة تتدرج من القطب الشمالي إلى البحار الجنوبية ـ وقد تقاعد من خدمة شرطة عدن ليعتنق الإسلام ويعيش حياة “بدوية جديدة باسم “عبدالله فضل المسلماني”.
يلتقي هوب بالحجي عبدالله في داره بالبصرة حيث يقول: “كان الديوان رطباً ومعتماً، هنا يقف الإعرابي المقاتل وتاجر الجمال والأسلحة ومستخرج اللؤلؤ والعميل السري – الرجل الإنجليزي الذي شكلت المغامرات الجامحة بأدواره الإخادة فيها الهواء الذي يعيش فيه، كان الرجل قد تقدم في السن وغزا ثلج الشتاء لحيته، أما عيناه اللتان طالما حدقتا في البحار والصحاري وشاهدتا الكثير من هزل الحياة ومآسيها، فهما الآن بحاجة إلى مساعدة نظارات ذات إطار فولاذي”.
بداية المغامرة
يقول هوب: “لقد تيقنت إنه ولد في 1872 وترك انجلترا في سن الثالثة عشرة وبعد ذلك بما لا يزيد عن سبع سنوات كان قد انقطع في جزيرة العرب عن كل ما يعتبره الغربيون حياة المدنية”.
ويواصل هوب “من خلال زياراتي لمسكن الحجي عبدالله في كوت الحجاج وجدت أنه كان يتحدث بلغة إنجليزية راقية فيها نكهة فيكتورية، لكن شذوذات اللغة العامية العصرية قد تسربت إلى كلامه بشكل طبيعي بعد أن غادر بريطانيا عام 1885”.
هل كان الحاج غنياً؟
يقول هوب “سادت إشاعة بأنه كان غنياً بشكل لا يصدق، حيث مزارعه في كوت الحجاج بألف نخلة فقد منها 400 نخلة في طوفان شط العرب بالإضافة إلى العديد من أشجار البرتقال وكروم العنب”.
يقول هوب وهو يكتب هذه المذكرات، حيث كانت أمامه مسبحة قد أهداها الحجي وليمسون له وهو ينظر إليها فتذكر فقال “إن حبل الحبات السوداء والكهرمانية المبتاع من مكة، والذي كان الحجي يعبث به أثناء أحادينا في ديوانه يقبع أمامي على المكتب وأنا أدون هذه الكلمات، كانت هدية الفراق، وقد حاولت رفضها ببراعة مدركاً قيمتها المعنوية له، لقد أعطى في هذه المسبحة شيئاً من ذاته، عندما أنظر إليها أستطيع رؤيتها ثانية وهي ملتفة حول معصمه، بينما تمر أصابعه فوقها، وهنا يبرز الحجي حياً في مخيلتي بطريقة غير عادية”.
لقد توفي الحجي عبدالله عام 1958 ويأتي هذا الوصف بعد ثلاث سنوات من وفاته فيقول “كان هذا هو الحجي عبدالله فضل المسلماني كما رأيته آخر مرة، البدوي العربي المسن الذي يحيا في سلام ـ بعيداً عن العالم الصاخب ـ في جنة لا تبعد إلا ساعة عن الجنة الموصوفة في سفر التكوين والقرآن، إنه رجل هرم ناضج بالحكمة هادئ بإيمانه الراسخ بالله وكلام النبي تؤويه محبة ووفاء زوجته وأبنائه وأحفاده”.
ويتابع هوب قصة الحجي منذ أن كان طفلاً يوم “قسى عليه أبوه وعلى جورج أخيه، وكره الولدان الأب حيث تمرد وليم وهرب مرتين من البيت قبل أن يبلغ الثانية عشرة من عمره، وبتحريض من العم ديك أحد أخوة ريتشارد الأب استقل وليم سفينة ذاهبة إلى أميركا”.
ارتحال مفاجئ
لقد كان شتاء عام 1885 وكان الصبي وليمسون في 13 عاماً، وهو يوم مشهود له عندما انعطفت السفينة خارج رصيف بريستول، بينما كان يتأمل الأفق حيث سيعيش كل حياته بين العرب بدون أن يعرف ذلك.
وجد نفسه أصغر البحارة سناً، وعندما تخاذل في عمله يوماً، ربطه قائد السفينة بأعلى الساري خلال إعصار بحري شديد، وعندما حطت السفينة في ميناء سان دييغو على ساحل كاليفورنيا في اميركا، هرب وليم شاعراً بلذة الحرية، بالرغم من المستقبل المجهول في الغرب الأميركي.
التحق ببعض أقاربه في سان فرانسيسكو في أواسط 1885 أي قبل 20 عاماً من تحول كاليفورنيا إلى هدف للألوف من الساعين وراء الأصفر الرنان “الذهب” ، فخاض هذه التجربة وهو في الخامسة عشرة، لكنه ذهب بعد ذلك إلى نيويورك حيث مشروع فتح قناة بنما.
كان عمر وليم حوالى 19 عاماً عندما حصلت اضطرابات بسان فرانسيسكو وهروبه بمساعدة القنصل الأميركي من مانيلا التي وصل إليها حيث أبحر بعد ذلك إلى هونج كونج ومنها إلى بومباي ومن ثم إلى جنوب جزيرة العرب، وعين شرطياً في مدينة عدن.
استقر في عدن وانتابه شعور بالألفة مع العرب، وقادته الصدفة أن يقرأ لمرات عدة كتاباً عن الدين الإسلامي ألفه شخص يدعى “كوبليم” كان قد اعتنق الدين الإسلامي فتمكن من رؤية الحياة اليومية في المجتمع الإسلامي بوضوح.
كان معلمه الأول ومرشده ومترجمة صديقه الصومالي “حسن علي” الذي أعد له مراسم اعتناق الدين الإسلامي، ففي صباح أحد الأيام من عام 1892 امتطى الرجلان دابتيهما واتجها نحو ولاية لحج القريبة من عدن وحلا ضيفين على السلطان الفضل بن علي، وفي اليوم التالي وبحضور أولاد السلطان والقاضي الشرعي اعتنق وليمسون الدين الإسلامي وله من العمر “20” عاماً، وأضحى اسمه عبدالله فضل وليمسون، وقد أخذ اسم الفضل من اسم السلطان الذي يعده ابنه المتبنى، ولم يندم أبداً على فعله هذا، واستمر طوال حياته ممارساً الدين الإسلامي دون مغادرة الأراضي الإسلامية، أما الجالية البريطانية في عدن فقد أصابها الهلع من تصرفاته ومن إسلامه، وتساءلوا عن خطوته التالية والمشاكل التي سيثيرها، ولذلك قرروا ألا يترك سلك الشرطة فحسب، بل عليه أن يغادر عدن أيضاً وان يقدم استقالته في بومباي من قسم شرطة عدن، كون ذلك هو النسق او النظام الوظيفي المتبع، وأخفق وليمسون في الحصول على مكان في المراكب العائدة نحو بلاد العرب فسافر بطريقة سرية وباسم مستعار.
تجارة متعددة
كان عبدالله قد صادق تجار الخيول من الكويت والبصرة، وتعرف على الشيخ “يوسف الإبراهيم” من أقرب أخصاء أمير الكويت آنذاك، الشيخ محمد الصباح وخليفته الشيخ مبارك الصباح، وتمكن وليمسون الذي بدا عربياً بكل معنى الكلمة بلباسه العربي ولحيته السوداء وبشرته البرونزية وبمساعدة الشيخ يوسف الإبراهيم، من السفر على ظهر المركب التجاري بانكورا المتجهة إلى البصرة، واعترضته المراقبة البريطانية من خلال وشاية إلى السلطات البريطانية تفيد بأن العربي المسافر على ظهر المركب ما هو الإ وليمسون، وفوراً توجهت فرقة من الموظفين الرسميين لكشف هويته وأخبروه بأوامر رسمية مفادها عدم ترك المركب إلا لدى عودته إلى بومباي.
يقول هوب “تذكر وليمسون في السنوات اللاحقة قول الشيخ يوسف الإبراهيم “يا عبدالله إنك بين يدي الله القدير الرحيم، فلماذا لا تذهب إلى البصرة؟ ولماذا لا تأتي معي إلى الكويت؟ إنك من ديننا ولن تخالف التقاليد خلال ضيافتي”.
لبى وليمسون الدعوة ولدى وصول البانكورا في طريق عودته إلى بومباي بمحاذاة شاطئ الفنطاس في الكويت فر وليمسون من المركب متخفياً بلباس سائس خيل وتمكن من الخلود إلى الراحة في الكويت، إذ أصبح غير ملاحق، لأن الاتفاق بين البريطانيين وإمارة الكويت كان لم يتم بعد، ولذلك لن يستطيعوا طلب تسليم بريطاني، خاصة وأنه ضيف الشيخ يوسف تحت حماية حاكم الكويت.
استقر وليمسون في الكويت بصفته مواطنا فواظب على دراسة وقراءة اللغة العربية والقرآن الكريم يومياً، كما أنه راح يستكشف المدن المجاورة متنقلاً شمالاً إلى الزبير في البصرة، مما أدى إلى زيادة اهتمامه بالعرب والصحراء.
أصبح وليمسون بعد معاشرته لأتباع الشيخ يوسف الإبراهيم ومشاركتهم في صعوبات الحياة اليومية من المعجبين بعادات قبائل البدو وتقاليدهم، وعكف على دراسة هذه العادات والتقاليد ولهجات البدو.
الذهاب إلى مكة
أدى وليمسون فريضة الحج في مكة المكرمة ولدى بلوغه سن 24 عاماً اغتنم هذه الفرصة وتوجه بحماس إنسان معتنق الدين حديثاً إلى مكة وانضم إلى حملة قوامها ثلاثة آلاف حاج بلباس البدو. وقطع الحجاج مسافة 800 ميل سيراً على الأقدام إلى مكة.
يقول هوب “ولم ينس وليمسون طيلة حياته هذه الرحلة الرائعة وخاصة كرم وحُسن ضيافة محمد بن عبدالله الرشيد حاكم حائل في إمارة جبل شمّر الذي كان في ذلك الوقت في ذروة حكمه لجزيرة العرب، إذ أكرم قافلة الحجاج لدى وصولها بوليمة غداء تضم ثلاثة آلاف حاج”.
اشترك وليمسون لدى وصول القافلة في جميع مراسم فريضة الحج من غسل الكعبة المشرفة إلى الطواف والسعي، وكان أول غربي يؤدي مراسيم فريضة الحج علنياً وجهاراً وبإخلاص، ومن هنا اكتسب لقب “الحجي عبدالله”.
بقي الحاج وليمسون مقيماً في الصحراء بين القبائل منذ مطلع القرن الحالي، وكان ملماً باللغة العربية بطلاقة، ويملك جواداً عربياً أصيلاً وثلاثة جمال وصقراً وعبداً نوبياً، وأصبح خبيراً بالجياد العربية وعمل بتجارتها كمصدر رزق يشتري الجياد من سوريا والعراق وبلاد فارس ويبيع معظمها للجيوش البريطانية في الهند.
وصل في إحدى رحلاته إلى بلوشستان عبر بلاد الفرس ومنها إلى ممر خيبر ومن ثم إلى أفغانستان، كما انتقل خلال رحلة أخرى إلى عُمان وظفار ثم حضرموت فصنعاء ونجران والحجاز، إلى أن استقر به المقام في القدس الشريف مما وضعه في صدارة الرواد المستكشفين لجزيرة العرب.
الجاسوس الفقير
بقي وليمسون يلتزم الصمت حول أيام الحرب لكن السيدة فيوليت ديكسون زوجة المستعرب الكولونيل ديكسون أشارت إلى حكاية نادرة عن مغامرات الحجي عبدالله خلال الحرب قائلة:
“أخبرني الحاج وليمسون أنه عاد إلى بغداد خلال الحرب العالمية الأولى ليجد الكثير من المتسكعين على ضفتي أرصفة مركب نهر دجلة، فشعرت بأن دوري يقترب لأصبح مثلهم، ففي إحدى الأمسيات، تمكنت متنكراً بزي الخدم من دخول حفلة القائد التركي، وتمكنت من خلال الحديث الذي دار في الحفلة من جمع معلومات مهمة والخروج دون أن ينتبه لي أحد”.
عين وليمسون بعد الحرب مفتشاً لوكالات الخليج التابعة لشركة النفط الإيرانية البريطانية وساعدته شهرته ومعرفته لحكام الجزيرة وشعوبها واتساع تجواله في المنطقة كدليل ومستشار للجيولوجيين العاملين في عمليات التنقيب عن النفط. وكان عمل الحاج وليمسون خلال خدمته مع شركة النفط الإيرانية الإنجليزية، بين 1924 و1937 لقيادة تلك البعثات وإنشاء الوكالات على جانبي الخليج العربي وتفقدها والإشراف على بناء مستودعات النفط الصغيرة، وكانت درايته بالسواحل تساعده على اختيار الأمكنة ومسحها وإعدادها لتصبح مهابط طائرات تستخدم في الأحوال الطارئة قبل إنشاء الطريق الجوي المنتظم إلى الهند، وعمل الحجي وليمسون كمساعد ومترجم لآرتشي تشيزم في شركة النفط الإيرانية الإنجليزية بالكويت خلال مرحلة المفاوضات للحصول على امتياز التنقيب عن النفط، ولنجاحه في مرحلة التفاوض الصعبة اكتسب وليمسون شهرة عالمية وشخصية رئيسية لعبت دوراً هاماً في تطوير المنطقة ودخولها عصر الذهب الأسود “كما جاء في كتاب ستانتون هوب”.
في فترة شراء وليمسون “البغلة” و”الدو” وبحثه عن اللؤلؤ في الخليج كان من الدخلاء الذين لا يرحب بهم عند حيود اللؤلؤ، ويذكر أنه قد رسا في الشارقة ودبي مرة أو مرتين للإصلاح والتموين، وفي إحدى الأمسيات جلس على مقعد واضعاً رجلاً فوق رجل في مقهى بدبي مع تاجر يدعى حامد كان قد أسدى له عدة خدمات في الماضي، وكان خبير لآلئ ويملك مركب دو صغير يقوده بنفسه.
صائد اللؤلؤ
وفي الحديث مع وليمسون ذكر حامد أنه كان سيغادر في صباح اليوم التالي مبكراً قاصداً صيد اللؤلؤ، وعرض عليه أن يشتري له لآلئ أو يحجز له بعضاً مما يصطاد إذا شاء الله وقدر له النجاح حيث لم يحظ عبدالله بصيد جيد، فوافق الحاج على استثمار بضع آلاف من الروبيات نزولاً عند رأي مالك الدو، ثم ينسى الحاج الأمر بعد ذلك.
في اليوم التالي، بعد أن ساوم على شراء مؤن لفتح الخير “سفينة الحاج” عاد في المساء إلى المقهى للاسترخاء، ومما فاجأه وجود القبطان حامد هناك، وقد بدت عليه الكآبة بشكل غير اعتيادي حيث تعرض لحالة هزلية، إذ أضرب كل عبيده.
لقد كان الحجي عبدالله يراعي الأصول في النزول إلى أراضي ساحل الإمارات المتصالحة، أبوظبي ورأس الخيمة والشارقة ودبي، إذ لا أحد ينزل إلى الشاطئ دون تصريح من الشيخ، ورغم أنه معروف للشيوخ وعامة الناس، فقد كان الحاج وليمسون حريصاً على العمل وفق العادات المحلية المتبعة.
تلك هي حياة وليمسون، الصبي المفعم بالحرية والتحدي والذي غادر بريستول على ظهر سفينة متجهة الى آخر العالم حيث تحول إلى راعي البقر “الكاوبوي” الشاب، والمنقب عن الذهب والطواف في مزارع كاليفورنيا، وحقول الذهب في نيفادا، إلى العامل في قناة بنما، إلى البحار المجبر على ظهر سفينة صيد الحيتان في القطب الشمالي، إلى المتاجر في بحر الشمال، والى سجين الإسبان في مانيلا، وإلى الشرطي المتدين في شرطة عدن، والى ربان الدو، ومهرب السلاح والذخيرة وصياد اللآلئ، وفي خدمة الاستخبارات العسكرية البريطانية في الحرب العالمية الأولى وبين الحربين، والوكيل المحلي والمستكشف لصالح الشركات النفطية المشهورة عالمياً، ودليل القوات البريطانية الداخلة الى جنوب العراق، وأخيراً المواطن الذي يسكن بين بساتين قرية “كوت الحجاج” الوادعة الغناء بكل شيء آنذاك والتي لم يبق منها سوى الاسم الآن “كوت الحجاج
زوجة بدوية للحجي
بعد مضي عدة سنوات أعطى شيخ قبيلة المنتفق في العراق لوليمسون السلطة الكاملة لمكافحة مرض الكوليرا الذي تفشى بين أفراد قبيلته فعزم عن عدم مغادرة القبيلة وقبول تحدي هذه المهمة، وبالتالي شرع في ممارسة سلطته في مكافحة المرض، وأمر أفراد القبيلة بالمحافظة على حياة نظامية تختلف عن حياة البدو التقليدية، وذلك لحصر هذا الوباء وإزالته وبالرغم من نجاحه فقد كان الثمن إصابته بالوباء، لكن سرعان ما شفي منه.
عرض الشيخ حسن شيخ قبيلة الظفير إحدى بناته على وليمسون ليتزوجها، وكان سبب ذلك إعجاب الشيخ بوليمسون وشجاعته وجرأته في القتال في صفوف رجاله خلال الغزوات واستيلائه على بعيرين، فاعتذر وليمسون عن قبول العرض، لكن بالرغم من ذلك تزوج وليمسون فيما بعد عدة نساء عربيات آخرهن تدعى سارة من آل السعدون، وقد خلف منهن أحفاداً من بينهم من هو لا يزال حياً يرزق في العراق وواحد في الكويت بحسب ستانتون هوب.
تلاشت المعارضة ضد ولاية الشيخ مبارك الصباح على إمارة الكويت بعد وفاة صديق وليمسون الشيخ يوسف الإبراهيم عام 1908، مما أفسح المجال أمامه للعودة إلى الكويت فاشترى قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى بيتاً بالقرب من بوابة الجهراء، وحينها عمل في تجارة اللؤلؤ فابتاع قارباً يطلق عليه “البغلة” واستأجر آخر يطلق عليه “دو” وكانت بحمولة 30 طناً واسمه “فتح الخير” وراح يمخر عباب الخليج العربي، وبتشجيع من قبل تاجر اللؤلؤ الشهير هلال المطيري تحول وليمسون ومساعده مصطفى إلى صناعة صيد اللؤلؤ، وتتناقل الشائعات أنهما عملا في تهريب الأسلحة، كما يقول هوب: “أجبر اندلاع الحرب العالمية الأولى الحاج وليمسون على العودة إلى العراق وبدلاً من أن تعتقله السلطات البريطانية، رحبت به وأكرمته لاحتياجها إلى معلوماته وخبراته الواسعة وعينه عميلاً سرياً ضد الأتراك.