أفي كل يوم تحت ضبني شويعر
ضعيف يقاويني قصير يطاول
في بيت المتنبي أعلاه شبه، أراه كبيرا لما يحدث باستمرار على الأرض التي عرفت بأنها مهد الحضارات، ومهبط الرسل والأنبياء، ومقام الأولياء والأوصياء. إذ لم تمر حقبة من حقب الدهر إلا وهناك غمامة تعلو سماء وادي الرافدين، تنغص عيش قاطنيه وتقض مضاجع ساكنيه. من تلك الغمامات ماتجيء به تقلبات جيوفورمولوجية لاعلاقة للإنسان في صيرورتها، فالطوفان.. أخذ من الزرع والضرع مأخذه من هذه الرقعة الجغرافية حتى كاد ينفي كل شيء حي. والجفاف.. أسهم في تفاقم وجع العراقيين إيما إسهام، حتى أحرق اليابس والندي مما يقتاتون عليه. والجدب هو الآخر.. ظل شبحه يلوح بين الفينة والأخرى على ما تطأه أقدام العراقيين، ويتحين الأسباب والدواعي ليثبت أقدامه على فيافي العراق وسهوله الخصبة، فكان به إتمام مافات الطوفان والجفاف الإجهاز عليه. أما الحريق فكما يقول مثلنا: (لو من أول.. لو من تالي) فـ (من أول) نجا وادي الرافدين من اندلاع الحرائق -المفتعلة وغير المفتعلة- في تاريخه القديم، إذ لم نسمع من قبل عن حرائق كبيرة شبت في بقاعه، في حين يروي لنا التاريخ بضع عشرات من الحرائق في نواحٍ كثيرة من المعمورة منها؛ حريق طوكيو في اليابان عام 1923. وحريق هاليفاكس ونوفا سكوتيا في كندا عام 1917. وحريق مدينة تكساس في أمريكا عام 1947. وحريق روما عام 64م. وحريق لندن عام 1666. وكذلك حريق بوسطن عام 1872.
أما (من تالي) فالحرائق في وادي الرافدين أخذت طابعا آخر، وعلى وجه التحديد بعد “عام السعد” 2003..! إذ أن يد الإنسان سجلت حضورها الكامل في اندلاع الحرائق، وكانت -ومازالت- هي الطولى في أحداث إضرام النيران، لاسيما في دوائر الدولة وعلى وجه الخصوص الحساسة منها، والتي تضم في طوابقها ودهاليزها أرشيفا، يتمثل بملفات وأوراق ومستندات ووثائق، يكمن بين طياتها سر مسببات نشوب الحرائق، وتنم خصوصيتها عن اليد الفاعلة، وتشير بإصبع الاتهام بما يفند تقييد الجرم ضد جهات مجهولة. وعلى مايبدو أن اليد الفاعلة تلك، أرادت محو أدلة او إخفاء معلومات او إضمار حقائق، لاينفع في تضييعها الحك، ولا يمحوها الشطب، ولا يموهها الحبر الأبيض.
وبذا تكون الزلازل والبراكين وتسونامي بعيدة كل البعد عن وادي الرافدين، كما أن التقلبات الجيولوجية والجيوفورمولوجية بأصنافها ودرجاتها، بريئة من إحداث مصائب وكوارث في بلدنا، ولكن، كما قال الشاعر:
ليس البلاء عندي صنفا واحدا
عندي بحمد الله منه صنوف
وأعود الى متنبينا فيما ذكرته في بادئ سطوري هذه، فقد استخدم مفردة “ضبن” والضبن هو منطقة مابين الكشح والإبط، ولوذعي مثل المتنبي لم ينتقِ هذه المفردة اعتباطا، فبإمكانه ذكر مفردة “خصر” ولايضير هذا بعروض البيت، إلا أنه خص فيها المتقولين الأسوياء طولا، مع ذلك فهم لايطالون قامته في الشعر، فوصفهم بلفظة التصغير “شويعر”. وارى أن ماقاله أبو الطيب يقترب الى ما قصدته من مقالي في مقامي هذا، إذ أن المتقولين الذي يتشدقون بين الفينة والأخرى بتصريحات سمجة، يتقيأون فيها مايدور بعقولهم، ويجترون سنن السيئين الذين سبقوهم في سدة الحكم، باتت لهم الغلبة، وأضحت يدهم هي العليا، وكذلك كلمتهم، إذ أمسى لها الدور الفاعل رغم ابتعادها عن الفعل والتطبيق، وكأن إدارة أمور البلد تبلغ من السهولة حدا لايستوجب الحكمة والكياسة، وقدرا كبيرا من السياسة، فضلا عن النزاهة والأمانة وشرف المهنة.
يروى أن الخليفة العباسي ابو جعفر المنصور، سأل أحد حكماء بني أمية عن سبب سقوط دولتهم فأجاب الأخير:
“أمور صغيرة سلّمناها لكبار، وأمور كبيرة سلّمناها لصغار، فضعنا بين إفراط وتفريط”