18 ديسمبر، 2024 11:40 م

14 تموز 58 .. نكسة أم ثورة

14 تموز 58 .. نكسة أم ثورة

يختلف العراقيون فيما بينهم بتقييم هذا التحول فمنهم من يرى أن هذا اليوم هو ثورة ضد الاستبداد والظلم والخضوع للاستعمار البريطاني وهو تحول وطني كبير انطلق من رحم الوطن على يد قادة وطنيين والقسم الاخر يعده انقلابا عسكريا على الشرعية الملكية والديمقراطية السائدة حينذاك وهو نكسة ألمت بالدولة العراقية بعد أن انطلقت في خطى متصاعدة كانت أوجها في الخمسينات..
من الواضح أن الدولة العراقية كمثيلاتها من الدول العربية نشأت على أسس الاستعمار الذي كان ولا يزال يجيد استعمال قاعدة فرق تسد ولذلك لم يستطع الوطنيون المخلصون رغم تضحياتهم الكبيرة من تأسيس دولة ذات قرار وطني ولا زلنا في العراق حتى هذه اللحظة لا نمتلك هذا القرار..
هذا ماكان يطمح اليه الزعيم قاسم حينما قاد انقلابا غادرا على الدولة ومؤسساتها ونجح في ذلك بعد أن فشل اخرون قبله..
اعتقد قاسم أنه سيبني دولة للفقراء لكنه غفل عن أن هذا الاستعمار لن يترك هذه الثروات النفطية والموقع الأعلى بيد قائد نزيه يحب الخير للعراق..
وهنا تكمن المفارقة والإشكالية فالدولة الملكية التي بناها البريطانيون بضغوط الجماهير بدأت تشق طريقها في إطار عام مرسوم ولكنه يحقق التقدم والإزدهار تؤكده فترة الخمسينات المزدهرة في كل شيء.. فالفكرة التي حملها قاسم ليست بريئة ووطنية كما اعتقدنا لأول وهلة وإنما هي مصممة لتحطيم هذا العنفوان المتصاعد في الدولة الملكية.. ولعل وثائق لندن تكشف يوما ما أن الانقلاب لم يكن لينجح لولا مباركة البريطانيين أو على أدنى تصور غض البصر كونه يحقق مآربهم وإن لم يكن هناك تنسيق ما بينهم وبين الزعيم وصحبه وقد يؤكد هذا التصور ماجرى بعد ذلك من حركة قاسم واغتياله أخيرا على يد البعث..
هذه التصورات هي التي تدفع جل المثقفين الى اعتبار 14 تموز نكسة وليس ثورة.. فالثورة كما يقول الدكتور محمد القريشي هي عملية تغيير النظام السياسي بشكل مفاجئ من خلال خروج جزء من الشعب على السلطات الحاكمة وصولاً لتغيير هذه السلطات والحلول مكانها..،
بينما ما جرى في حركة قاسم لا يمكن اعتباره الا انقلابا بناء على رغبة شريحة عسكرية !!
الثورات تنطلق عادة من حاجات مادية كتعبير عن تباين طبقي حاد .. ويضيف الدكتور القريشي.. قد تكون هناك أسباب اخرى لاندلاع التمرد وتتطور الى ثورة ومنها الأسباب الأيديولوجية ولكنها غالبا ما تكون ممنهجة وغير عفوية وتنتهي بانظمة شمولية !! ويعتقد القريشي أن قدرات الشعوب على الثورات متباينة فمنها من تثور بسبب تردي بسيط في حياتها الاقتصادية ( أو الحريات ) كالشعب الفرنسي ( تساعده في ذلك مساهمات المفكرين من إعداد للراي العام والقيادة في بعض الأحيان ) ومنها من يمتلك قدرة تحمل كبيرة للتباين الطبقي أو الظلم كالشعب العراقي ! الموروث والعادات والتقسيمات القبلية والمذهبية وأدلجة الجمهور لا تعين بمجملها الشعب العراقي على ( امتلاك قلق جمعي في لحظة تاريخية واحدة !!) تعينه على اتخاذ قرار التمرد وصولا الى الثورة !! ولهذا نرى الشعب ينزف ( بالأقساط ) بسبب حاكم فاسد ولا ينزف ( مرة واحدة )من اجل تغيير واقعه !!!
الناشطة المدنية السيدة أمل الجبوري تعتقد أن
يوم ١٤ تموز أسس وشرعن لحكم العسكر والانقلابات العسكرية فيما بعد و أنه كان بداية تشريع شعبي ((الحاكم الأوحد)) مؤكدة قولها..
ببساطة هذا اليوم قضى على دولة عراقية لها مؤسسات دستورية راقية ومجلس أعيان ونواب وهوية مدنية الدولة العراقية وتعايش مهم بين الديانات الخمس الموجودة آنذاك
وهذا مايؤكده المحامي والسياسي علي كامل إذ يقول.. 14 تموز كان انقلابا عسكريا وليس ثورة ( حتى الدستور حينها يٌعّد من الدساتير الانقلابية ) وان تعاطف معها بعض شرائح المجتمع العراقي وهي نكسة لأنها أنهت الحياة الديمقراطية وفتحت الباب على مصراعيه للأنقلابات الدموية ودكتاتوريات أوصلتنا إلى نيسان 2003
الدكتور والأكاديمي فضل الفضل يقول أن 14 تموز هو نكسة بكل تاكيد ..فالذي حققته الملكية في زمن الباشا نوري وبفترة زمنية قليلة لازالت بعضا من اثاره شاخصة الى يومنا هذا …فقد انحدر العراق الى الهاويه بمقتل الملك ..
بينما يختلف الشيخ مزاحم التميمي وهو ضابط متقاعد بوصفه لهذا اليوم إذ يؤكد..
نعم هذه الثورة بدأت بحركة انقلابية قادها بعض ضباط الجيش لكن ألم يحتضن الشعب تلك الحركة وألم يفرح الشعب بالتغيير الذي طال انتظارُه ؟ هل كان العهد الملكي عهدَ عدالةٍ وكرامة للعراقيين وهل كانت الدولة في ظله تامةَ السيادة أم كانت شبه دولة. الظروف التي كانت قبل الثورة هي التي دفعت اليها. كانت الحاجة ماسة للتغير وكان المسيء الأول لذلك النظام والمتسبب الأول فيه هو نوري السعيد الذي تسيد المشهد السياسي منذ اغتيال جعفر العسكري ويأتي عبدالاله في الدرجة الثانية من بعده وجميع من ظهر على المشهد حينها إنما كانوا أدوات بيد هذا أو ذاك والاثنان نوري وعبد الاله كان يتصرفان بمشورة وخطط المحتل البريطاني. الوضع الاجتماعي كان متأزما والظرف كان مناسبا للتغيير لكن القوى السياسية آنئذ لم تكن بمستوى ذلك بسبب اجراءات السعيد وضغطه وكان الجيش هو القوة الوطنية الوحيدة القادرة على القيام بحركة تغييرية ولعل أحد أسباب اندفاعه في ذلك هو أن أول انقلاب عسكري في المنطقة بأجمعها حصل على يد هذا الجيش بقيادة بكر صدقي وبتشجيع من الملك غازي. وأحسب لو أن غازي كان حيا أو أن فيصل الثاني كان على درجة أكبر من النضج لكلف الجيش باحداث التغيير ولكن باسلوب آخر. أما ما جرى بعد ذلك من سحل وجر وتنكيل فلا أحسب البريطانيين بعيدين عنه وليس لديَّ ما يثبت رعايتهم لحركة التغيير العسكرية تلك. لست هنا في موضع تبرير ما جرى من أخطاء فضيعة بعد الثورة والتي هي نفسها كانت تحمل معها أسباب سقوطها لكني أجد أنها كانت ضرورية ومناسبة. وأقول ما قلته صباح هذا اليوم على صفحتي : في هذا اليوم الرابع عشر من تموز 58 صار العراق دولة بعدما كان شبه دولة.
إلا إن الإعلامي والكاتب علاء الخطيب يرى بأنه لا يمكن محاكمة التاريخ بمعطيات الزمن الحالي فلكل مرحلة او مقطع زمني ظروفه الخاصة.. ولكل حركة اسبابها وحيثياتها. فلايمكن بأي حال من الأحوال ان نتجاهل البعد الزماني في التحليل التاريخي ، قد نتفق مع ان نتيجة ما قام به الزعيم شرعن حكم العسكر , ولكن العراق لم يكن منعزلا عن واقعه العربي ، بالاضافة الى ان العقل السياسي العراقي آنذاك لم يكن قادرا على بناء مشروع حكم..

في الختام سيبقى العراقيون منقسمين مابين مؤيد ومعارض ولكن الحكمة التي يجب أن نخرج منها وبخاصة اليوم أن الحاكم النزيه مهما اختلفنا حوله فإننا نبجل ونحترم نزاهته وهذا ما تميز به الزعيم عبد الكريم قاسم..