إعداد/ سعيد سلطان الهاشمي
مقدمة
تسعى هذه الورقة لتسليط الضوء على أبرز الأسئلة المسكوت عنها في الراهن العُماني: “سؤال التغيير”؛ وذلك من خلال تتبُّع جدلية الدولة والسلطة من جهة، وقراءة الرغبة في التغيير والقدرة على ذلك من جهة أخرى. ويجتهد الباحث في استدعاء بعض الإشكالات لفهم راهن السلطة السياسية في البلاد في ملفات محورية كالدستور، والأمن، والتعليم، والاقتصاد، والعمل، والمجال العام؛ حيث يبدو أن تلك القضايا تكشف الخلل البنيوي وتدل عليه على المديين القريب والمتوسط. هذه الإشكالات لا تعني بالضرورة كل المشكلة، ولا يُعَدُّ تقويمها صكًّا مضمونًا للإصلاح، بقدر ما هي محاولة للتفكير بصوت مسموع؛ إذ لا يخفى على أحد أن طريق التغيير والإصلاح طويل وشاق، ويحتاج إلى الاعتراف بالخلل أولًا، ويستوجب الصبر والعمل المخلص الدؤوب على تدارك أخطاء الماضي بالحوار والتفكير في الفضاء الرحب ثانيًا.
تساؤل أولي
نقعُ في ذات الفخ المنصوب للفهم الجمعي العربي عندما نعفي أنفسنا من مهمة التفريق بين مفهومي الدولة والسلطة السياسية. وسلطنة عُمان ليست استثناءً على الإطلاق؛ فمسألة التفريق بذاتها مهمة بالغة الصعوبة والتعقيد؛ لا بسبب ما أُنجز من مقاربات علمية ونظرية لفهمها، في العالم عمومًا، وفي الوطن العربي خصوصًا، بل نتيجةً لعقود من الممارسات السلطوية الشاملة والمركَّبة على أدق تفاصيل المشهد السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي في البلاد.
هذا الخلط الواقع على مفهوم الدولة، يبدو أنه نتيجة متوقعة لما يُمارَس على الإنسان في الوطن العربي من فيض السيطرة والتحكم من قِبل السُلطات الحاكمة تجاه الشعوب المحكومة بجميع الوسائل والأطر لضبط الفرد والجماعة. بمعنى أنها –السلطات- تتحكم في مناهجهم التعليمية، وطرق تفكيرهم وتعبيرهم وتربيتهم، وتحدِّد شكل تنظيماتهم ولقاءاتهم واجتماعاتهم، وتعمل على توجيهها لخدمة مصالحها، وليس بالضرورة مصالح الفرد والمجتمع، لأنها لا ترى فيهما إلا ذاتها؛ تلك الذات الخاصة ببقاء ووجود السلطة لا أكثر.
إن هذه السلطة/الدولة ترتكز على عامل وجودي تروِّج له وتشتغل لأجله باستماتة؛ ألا وهو تخويف الناس دائمًا من أن زوالها، أو حتى تغييرها، أو تبدلها من سلطة تحكُّم وضبط إلى سلطة تداول وتشارك؛ يعني انحلال الوحدة الوطنية، وتفكك منظومات المجتمع الساكنة الراضية وتناثرها.
ولعلَّ راهن أمثلة كالعراق واليمن وسوريا والصومال تُغذي هذا الطرح الذي تتبناه السلطة في سلطنة عُمان عبر أطروحات خطابها الإعلامي والأمني، والذي يلقى آذانًا مُصغية من الناس؛ إذ لا يمكن حتى المجادلة في الواقع المرير الذي يعانيه الإنسان في تلك الدول.
إن الدولة بوصفها كيانًا يُعبِّر عن إرادة جماعة المواطنين، داخل الوحدة الترابية التي ارتضوها على أرض محددة، في مرحلة تاريخية معينة، يُسيِّرهم فهم سياسى مُؤَطَّر بتعاقد واضح، يُيسر روابطهم الاجتماعية والقانونية. إنَّ مفهومًا كهذا، لا نجد له قائمة في الواقع العُماني اليوم؛ حيث إن فكرة أن الشعب هو صاحب السيادة العليا على مؤسساته التنفيذية والتشريعية والقضائية لم تكن مطروحة لا للنقاش العام عبر وسائل الإعلام، ولا في المناهج التعليمية؛ الأمر الذي يحتاج في قادم الأيام لجهد كبير، وحفر عميق، وتفكيك صبور من جانب المجتمع ليبحث عن مساحاته الطبيعية وعلاقته المتوازنة مع السلطة التي تحكمه.
إن الدولة كُلٌّ، أمَّا السلطة السياسية فما هي إلا جزء، بل هي إحدى وسائل الدولة للقيام بوظائفها المختلفة سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، ولا ينبغي أن تتجاوز ذلك. أزعم أننا في الحالة العُمانية أمام “دولة سلطة” أكثر منها “سلطة دولة”، والحال هكذا مؤيَّدة بممارسات احتكار السيطرة الذي تقوم به السلطة المركزية السياسية وتحويل هذا الاحتكار إلى مؤسسة قائمة بذاتها: مُنَظَّمة، مُختَرِقة للمجتمع، مُجيدة للسيطرة على مكوناته، ومُحيِّدة لكل محاولات المواطنين للمراقبة والمحاسبة المستقلة الفاعلة، حتى الآن على الأقل.
بحسب هنري لوفيفر، “إن محافظة السلطة السياسية على نفسها رهينة بوجود موارد من البشر والسلاح والمال، مع توفر مجتمع منظم يعيد إنتاج العلاقات التي تكوِّنه، وصياغة ضوابط تكفل لها خرق كل الشروط، وفي الوقت الذي ترتضيه” (1). وهذا ما تمارسه بذكاء “دولة السلطة” في سلطنة عُمان منذ أربعة عقود: حُكم فرد (السلطان رئيس مجلس الوزراء (السلطة التنفيذية)، رئيس المجلس الأعلى للقضاء (السلطة القضائية)، رئيس مجلس عُمان (السلطة التشريعية)، القائد الأعلى للدفاع (السلطة الأمنية والعسكرية)، رئيس المجلس الأعلى للتخطيط، رئيس مجلس المالية وموارد الطاقة، رئيس المجلس الأعلى للدفاع…). تحكُّم كامل في الثروات الطبيعية عن طريق التملك الشامل للحكومة المُنتج لـ”رأسمالية المحاسيب”؛ القائمة على المحاباة والشراكة بين التُّجار والمسؤولين في السلطة. هم من يوفرون فرص العمل ويتحكمون بالأجور، بل يُشرِّعون القوانين والنُّظم التي تحفظ منظومة مصالحهم المشتركة. وأخيرًا، قدرة لا ينافسها أحد على إعادة إنتاج وتأطير الروابط الاجتماعية كالقَبَلية والمذهبية والثقافية.
لذلك، ليس من العجب في شيء عدم استقرار مفهوم المؤسسات والقانون؛ فمن يراقب؟ وكيف تتحقق “الغاية الأساسية للدولة وهي الحرية” بحسب سبينوزا؟ وهل تستطيع جماعة المواطنين فعل المحاسبة بكفاءة وحياد؟ وهل المال العام محمي ومصون لاحتياجات اليوم واستحقاقات الغد؟ وهل التشريعات والقوانين القائمة هي حقًّا تعبير عن إرادة الشعب عبر من يمثِّلهم في المجالس النيابية؟
حاولت احتجاجات العام 2011 أن تُسلِّط الضوء على الكثير من أوجه الخلل البنيوي والهيكلي الذي تعانيه الدولة العُمانية المعاصرة في المجمل، وعلى أزمة السلطة السياسية المركزية فيها، والتراكمات المؤجَّلة لهذا الخلل منذ أربعة عقود. بيد أن السلطة لم تُمهل هذا التحول لحين إتمام مهمته؛ إذ داهمته سريعًا ببعض المعالجات السطحية التي كانت مسكونة بامتصاص الأعراض أكثر من معالجة الأمراض.
لعله من المفيد، لفهم راهن الدولة والسلطة السياسية في سلطنة عُمان، بسط بعض الملفات كأمثلة، ثم تتبع مسألة الرغبة في التغيير والقدرة عليه:
أولًا: في فهم طبيعة ملفات السلطة السياسية في عُمان وأدواتها:
• الدستور
لم يكفَّ العمانيون عن مطالباتهم بدستور يكفل لهم دولة آمنة، وحقوقًا وحرياتٍ مستقرة، بخلاف ما يتم ترويجه من صُوَر تنميطية تسطيحية تحاول أن تصنِّف المواطن العُماني بأنه إنسان بسيط ومنعزل يسعى لقوت يومه دون أن يكترث بالسياسة وأمور الحكم. وفي المجمل تعاملت السُلطة مع هذا الملف إمَّا بالتجاهل أو بالالتفاف عليه؛ ففي الخمسين عامًا الماضية على الأقل، يمكننا التوقف عند المحاولات الموثَّقة التالية:
في يونيو/حزيران 1955، تقدمت مجموعة من المواطنين العُمانيين للسلطان سعيد بن تيمور بعريضة تطالبه بتشكيل هيئة تأسيسية تمهيدًا لوضع دستور “يراعي مصالح الشعب، وينظِّم اقتصاد البلاد، ويكفل الحريات السياسية، وحرية القول والتعبير، وإيجاد نوع من الحكم الديمقراطي والعدالة الاجتماعية”(2).
ومع تولي السلطان قابوس الحكم، في يوليو/تموز 1970، وتعيين عمِّه، طارق بن تيمور، رئيسًا للوزراء جرى الحديث عن وثيقة أُطلق عليها “الدستور المؤقَّت للمملكة العربية العُمانية” إلا أن السلطان لم يقبل بالفكرة نظرًا “لعدم جاهزية الشعب لهذه الخطوة”(3).
في نوفمبر/تشرين الثاني 1996، أصدر السلطان مرسومًا بإصدار النظام الأساسي للدولة الذي يَعدُّه الكثيرون بمثابة “دستور” للبلاد.
في مطلع العام2010 ، نشرت مجموعة من المواطنين العُمانيين من شرائح مختلفة من مثقفين ومهنيين عريضة موجهة للسلطان مباشرة تطالبه بتشكيل مجلس وطني مهمته صياغة دستور للبلاد “قوامه الشراكة والتعاقد بين الشعب والسلطان”.
وعلى إثر الاحتجاجات الواسعة التي شهدتها البلاد، في مطلع العام 2011، والتي كان من ضمن مطالبها “توسيع صلاحيات مجلس الشورى ليكون مجلسًا تشريعيًّا ورقابيًّا يحاسب مجلس الوزراء لحين اعتماد الدستور الوطني العُماني”(4)، أصدر السلطان، في مارس/آذار، من نفس العام المرسوم رقم (39/2011) بشأن منح مجلس عُمان الصلاحيات التشريعية والرقابية، وظلَّ هذا المرسوم مبهمًا بلا تفاصيل حتى انحسرت الاحتجاجات وفُضَّت الاعتصامات. وفي عشية إعلان انتخابات مجلس الشورى، في أكتوبر/تشرين الأول 2011، تمت إزاحة الستار عن التفاصيل والتعديلات، والتي أقل ما يقال بشأنها أنها كانت مسكنات وقتية دون الطموحات الشعبية بكثير.
يتضح مما سبق أن السلطة السياسية المركزية في البلاد لم ترغب بإتاحة الفرصة لميلاد مفهوم للدولة يُبنى على صيغة تعاقد اجتماعي بين شعبٍ يُفوِّض بإرادته الحرة وبين فرد أو جماعة تُدير شؤونهم العامة، وتضمن حرياتهم الفردية متذرعةً بـ”الوحدة الوطنية” تارة (كما حدث إبَّان حرب الجبل الأخضر، عام 1958، وثورة الجبهة الشعبية لتحرير عُمان والخليج العربي خلال الفترة (1965-1975)) أو بذريعة “النضج السياسي” تارة أخرى (كما حدث في مطلع العام (1970))، أو بذريعة “أولويات التنمية الاقتصادية والاجتماعية”. إن هذا التأجيل -رغم كل التقدم المُحرَز على مستوى دليل التنمية البشرية(5)- والذي تحقَّق نتيجة تعاون الشعب مع القيادة، أنتج في المقابل: مؤسسة تنفيذية، أمنية، رعوية، غدت جهازًا مُرعبًا لا يحق للناس محاسبته، ولا نقده، ولا التفكير في تطويره. بل استطاع أن يقلب معايير الفهم لدى كثير من الناس؛ فغدا الواجبُ فضلًا وزيادة، تتكرم به السلطة على “رعاياها”.
• الأمن
يستحوذ قطاع الدفاع والأمن الوطني على أكثر من 30% من موازنة المصروفات السنوية العُمانية؛ حيث وصلت ميزانيَّة هذا القطاع منفردًا في العام 2011 مبلغًا وقدره (أكثر من 4 مليارات دولار أميركي) أي ما يعادل 1.65 مليار ريال عُماني(6)، توزعت على صفقات سلاح وتزويد الأجهزة الأمنية العُمانية المختلفة بتقنيات متقدمة للمراقبة والتحكم والتنصت على الفاعلين في المجتمع المدني في الداخل. وتُعتبر الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا في طليعة الدول المستفيدة من صفقات الأسلحة وبيع البرامج والتقنية عالية المستوى(7). حيث يُصنِّف معهد ستوكهولم لأبحاث السلام الدولي (SIPRI) سلطنة عُمان من أعلى الدول في العالم إنفاقًا على القطاع الأمني والعسكري من إجمالي ناتجها المحلي(8). في بلد محدود الموارد، يعتمد اعتمادًا أساسيًّا على مصدر رئيس هو “النفط”، ولا تُشكِّل الإيرادات غير النفطية فيه أكثر من 13% فقط من إجمالي الدخل العام، تحرص السلطة السياسية العُمانية على الإنفاق ببذخ على أذرعها الأمنية المتعددة والنافذة، حتى في أصعب مراحل التقشف العام وإن استدعى ذلك تقليل النفقات العمومية، وذلك لضمان بسط السيطرة على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد.
يصوغ جهاز المكتب السلطاني، الذي لم يعد دوره مقتصرًا على الاستخبارات الخارجية بل طال الحياة المدنية والعسكرية في الداخل، السياساتِ العامة ويضع رجاله الأوفياء في الأماكن الحيوية. وهناك جهاز الأمن الداخلي المعروف بتغوله في اليومي والتفصيلي في حياة العُمانيين، وهناك “القسم الخاص” ووحدة “المهام الخاصة” في جهاز الشرطة اللذان أصبحا أداتين محوريتين للتحكم والسيطرة والمراقبة في كل شؤون ممارسة المواطنين لحقوقهم المدنية والسياسية كحقِّ التجمع السلمي وحقِّ حرية التعبير. لقد كان لهذه الأجهزة مجتمعة دور مفصلي في محاصرة الاحتجاجات التي شهدتها البلاد، في العام 2011، وما تلاها من أحداث.
هذا التمكين الأمني غيَّب مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الراسخة كالبرلمان والقضاء، ولم يسمح إلا بإنشاء هياكل شكلية في كافة القطاعات تحت نظر وسيطرة المؤسسة الأمنية. كما جرى تعطيل الإرادة السياسية لدى المواطنين من خلال ضرب الثقة في أي عمل وطني خارج إذن وسيطرة المؤسسة الأمنية، التي تحكمت بالرأي العام وأجادت تشتيت اهتماماته بتصريحات وقضايا هامشية؛ الأمر الذي تجاوزت فيه هذه الأجهزة دورها الوظيفي القائم على تجفيف منابع التآمر الداخلي والخارجي، إلى أن أصبحت محور أساس في وضع السياسات وتنفيذها، والاستحواذ على الفرص والثروات؛ حيث تُمسك شبكاتُها ورجالاتُها، المتقاعدون أو الذين على رأس عملهم، بعصب الاقتصاد والإعلام والتعليم والسلك الدبلوماسي والأكاديمي من باب حرية السوق وإتاحة الفرص للجميع، بينما هي، كأجهزة، تمتلك الحماية والانحياز والمعلومات(9).
• التعليم
لا يتجاوز الإنفاق الحكومي على التعليم في سلطنة عُمان أكثر من 8,7%، كما تبيِّنه أرقام العام 2014 الرسمية(10). ورغم النقلات الكمية المشهودة في هذا القطاع خلال العقود الأربعة الماضية كأعداد المدارس والطلبة والمعاهد، وتوزُّع مؤسسات التعليم المختلفة، إلا أن المأزق الكبير الذي يواجه البلاد هو في نوع وجودة هذا التعليم لا في كمِّه وعدده. فعلاوة على ضعف المناهج وعدم مواكبتها لأسئلة العصر المتجددة، والتقتير على تكوين وتدريب المعلم بوصفه محور العملية التعليمية، تبرز وسائل التحكم والسيطرة التي تمارسها السلطة على هذا القطاع منذ السنوات الأولى للدراسة إلى المراحل الجامعية والدراسات العليا. فلا وجود يُذكَر في المناهج لتعليم ثقافة سياسية، ولا يتم تعليم مواد الفلسفة والمسرح والفنون الحُرة بشكل نظامي. كما يندر تناول أفكار المواطنة والحرية وثقافة حقوق الإنسان بشكل منهجي في النظام التعليمي العُماني.، إضافة لغياب أي دور نقابي مُنظَّم للمعلمين على كافة المستويات، أو أي نشاط لاتحادات طلابية في الجامعات والكليات المختلفة(11).
• الاقتصاد والعمل
يعاني الاقتصاد الوطني العُماني من أزمة هيكلية مُزمنة لاعتماده الرئيس على إيرادات النفط والتي تشكِّل 86% من إجمالي دخل الحكومة، كما توضحه أرقام المركز الوطني للإحصاء.
وفي ظل الاهتزازات الكبيرة التي تشهدها سوق الطاقة فقد تراجعت مساهمة إيرادات النفط في الموازنة العامة للدولة بما نسبته 46%، في سبتمبر/أيلول 2015، أي ما يعادل النصف عمَّا ساهم به في العام الذي سبقه 2014 (12). كما أن الحكومة بأجهزتها التنفيذية لم تستطع خلال أكثر من أربعة عقود تحقيق تنويع راسخ لمصادر دخل أخرى تكفل الاستدامة والأمان.
ويقع المواطن العُماني تحت ضغوط اقتصادية متزايدة؛ فمستوى دخله لا يتناسب مع مستويات التضخم المتصاعدة، ويواجه عدم عدالة في توزيع الدخل؛ إذ إن هناك تباينًا كبيرًا بين نصيب الفرد العُماني من إجمالي الدخل القومي وبين مستوى دخله الحقيقي، يصل إلى ثلاثة أضعاف؛ مما أدَّى إلى تزايد نسبة الفقر؛ الأمر الذي يضع مسألة السلم الوطني والعدالة الاجتماعية على المحك(13). وما كانت احتجاجات 2011 إلا مقدمة “سلمية” و”ناعمة” لموجات قادمة من الاحتجاج والرفض قد تتطور بالتراكم والتجاهل إلى عواقب وخيمة.
أمَّا قطاع التشغيل فيشهد هو كذلك “تشوهات هيكلية”، وتراكمات مؤجَّلة نتيجة سياسات فاشلة في حُسن استثمار “الهِبة السكانية” التي تتمتع بها البلاد، خاصة وأن أكثر من نصف عدد السكان من الشباب في مرحلة العمل والعطاء(14). ولم تنجح القرارات اللحظية باستيعاب العمالة الوطنية والتي استخدمتها السلطة لامتصاص تمدد الاحتجاجات الغاضبة في مطلع العام 2011، بل على العكس تمامًا؛ حيث عمَّقت تلك السياسة تأزم سوق العمل على المستوى الجذري؛ فقد انسحبت أعداد كبيرة من المواطنين من القطاع الخاص (الصناعي والحِرَفي على وجه الخصوص)، بل ومن مقاعد التعليم النظامي (المتوسط والثانوي والعالي) للظفر بالفرص المعروضة وبالرواتب الآمنة. غير أن جُل فرص التوظيف، التي عُرضت، وما زالت، كانت في القطاع العسكري والشُرَطي، وهو ما يعني حلًّا سياسيًّا مؤقتًا وعبئًا مُعقدًا على الموازنة العامة أكثر مما هو حل اقتصادي يسهم في إضافة حقيقية في اقتصاد وطني مُنتج. إضافة إلى الكُلفة الباهظة لعسكرة المجتمع وتجميده في الثكنات، بدلًا من تعليمه وتشجيعه على الحياة المدنية بفضاءاتها الحُرة والمفتوحة على الوعي والثقافة.
كما شهد موقع عُمان تراجعًا كبيرًا في مؤشر التنافسية العالمية الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي 2015/2016، وهو مؤشر يقيس قوة اقتصادات الدول من خلال تنوعه، وقدرته على المنافسة، والثقة في جذب الاستثمارات، والتأسيس المُيَسر للمشروعات، وزيادة الإنتاج، وتعزيز مستويات المعيشة للأفراد والمجتمع. فقد جاءت عُمان في المركز الـ62 عالميًّا متراجعة 16 مركزًا عن تقرير عام 2014/2015، و29 مركزًا عن العام الذي سبقه(15).
• المجال العام
يتجلى أبرز مظاهر الحصار والسيطرة التي مارستها السلطة السياسية المركزية في عُمان في المجال العام بكل قطاعاته عمومًا.
ورغم استماتة السلطة في عدم الظهور بمظهر القامع للحريات العامة، وحرصها على إظهار صورتها بشكل حضاري، عملت وبشكل مُنظم ودؤوب على إعادة الوضع الساكن إلى ما قبل حراك عام 2011، داعمةً تحركها المضاد، وحصارها الممنهج بنتائج “الثورات المضادة” في بلدان الربيع العربي كمصر وليبيا وتونس واليمن مذكِّرةً المجتمع وأفراده في خطابها الرسمي الإعلامي والديني والثقافي بالعواقب الوخيمة التي تعانيها هذه المجتمعات من جرَّاء السكوت أو التهاون مع أفكار وممارسات الحراك الثوري التي اجتاحتها. لذلك، لجأت السلطة إلى أساليب “مبتكرة” للحدِّ من توسع الحراك المدني والثقافي، خاصة في كل ما يتعلق بالشأن الفكري والسياسي، ومن هذه الأساليب:
الاستدعاءات والتحقيقات الأمنية المباشرة والمتواصلة مع أصحاب المبادرات المدنية والأصوات المستقلة، وإشعارهم بأنهم يمارسون نشاطًا غير مرخص، و”يحرِّضون المجتمع على الحكومة”؛ مما سيُودي بهم للمحاكمات والسجون.
جلسات “مناصحة” يقوم بها ضباط أمن متخصصون، بحُللهم المدنية، مع كل اسم يبرز في منصات الحوار العمومي عبر وسائل التواصل الاجتماعي (فيسبوك، تويتر، واتس آب، يوتيوب، إنستجرام) يلفتون انتباههم لعواقب مُضيهم في طرح الأفكار المختلفة.
اعتقال ومحاكمة من يمارس حق التجمع السلمي لدعم قضية عامة، وتوجيه الصحف ووسائل الإعلام التقليدية بالتشهير اجتماعيًّا بكل من قام بهذا الفعل وتجريمه.
الضغط على أماكن احتضان الفعاليات الثقافية والمدنية كالمقاهي والمسارح والمدارس والجمعيات لكيلا تتعاون مع المبادرات الشبابية إلا بعد الحصول على ترخيص من الجهات “المختصة”. ولا يُسمح في المنابر الثقافية والإعلامية الرسمية إلا بتناول الموضوعات واستضافة الشخصيات التي توافق عليها السلطات مسبقًا.
تضييق دائرة الدعم المالي بعدم السماح للشركات بتقديم دعمها لأي فكرة خارج المُرخصة من قبل السلطة.
تتبُّع كل الآراء المخالفة للرأي الرسمي (داخليًّا) وملاحقتها “قانونيًّا” (وفق قانون المطبوعات والنشر، وقانون الاتصالات، وقانون الجرائم الإلكترونية)، وتخصيص عدد من الموظفين “المتوارين وراء الشاشات والأجهزة اللوحية، مهمتهم كتابة كل ما من شأنه التقليل من أهمية هذه الآراء، والنيل من شخوص وذوات من يُبديها، تحت مسميات ومعرِّفات وهمية.
كل ما سبق من أساليب وغيرها، ما هو إلا جهد منظَّم يراهن على عاملَي الزمن وخفوت رُوح العمل والمبادرة لدى الفاعلين في المجال العام، اللذين لا يلبثان أن ينفدا بمجرد تكالب المعوقات الذاتية والنفسية الداخلية، مع ضغط المعوقات القانونية والاجتماعية ليركن أفراد المجتمع للسائد الآمن، ويؤثِروا السلامة والهدوء وعدم الاكتراث بالشأن العام(16).
ثانيًا: بين الرغبة في التغيير والقدرة عليه
إذًا، والحال كما هي بادية، ليس بمقدورنا التفكير في سؤال التغيير ومستقبله في سلطنة عُمان بعيدًا عن إعادة فهم الملفات السابقة، وبشكل جاد وجذري. لأن إشكال التغيير مرتبط بسؤال الدولة، لا بالإجابات الجاهزة التي قدمتها وتقدمها السلطة السياسية عن ذاتها طوال العقود الأربعة الماضية. إن هذه الإجابات تحولت في الحالة العُمانية إلى “دولة سلطة” قائمة، ومهيمنة، إلى الحدِّ الذي تُشكِّل فيه خطرًا حقيقيًّا على راهن الدولة ووجودها، وبالتالي على المواطنين الذين ينتظرون منها حماية حرياتهم الفردية، واحترام مجالهم الخاص، وكفالة حقوقهم في المشاركة في صناعة القرار، وصيانة قيم العدالة الاجتماعية والإنصاف والتوزيع العادل للثروات ومعالجة الفساد، وضمان حياة كريمة مستقرة للإنسان في المرحلة الحالية وللأجيال القادمة.
إن سؤال الدولة يتطلب بالضرورة الإرادة الشعبية، كما أن مستقبل التغيير في عُمان -في المرحلة القادمة- مرهون بهذه الإرادة؛ إرادة شعب يكون سيد قراره في بناء دولته الحامية للحريات، والحارسة لحقوق الإنسان، وتدار بطرق ديمقراطية، وتراقب سلطاتها بأمانة، وتحاسب مؤسساتها وأفرادها بشفافية ونزاهة، دون انتظار منح أو مكرمات من فرد أو سلطة؛ فالتاريخ البشري يقول لنا: لا وجود لمستبدٍّ آمَنَ بحق المشاركة في الحكم وأصبح ديمقراطيًّا من ذات نفسه، ولم تخبرنا التجربة الإنسانية عن تنازل سلطة ما غارقة في الامتيازات والفساد والاستئثار بالثروات لأجل بناء دولة القانون والمؤسسات.
مستقبل التغيير في عُمان اليوم، لن يكون مرتبطًا بإرادة الشعب في التغيير فحسب بل بالقدرة على هذا التغيير. إن الهوَّة الصعبة بين الرغبة والقدرة يمكن ردمها بالتالي:
دستور وطني: فالسُلطة، أي سُلطة تحتاج لكي تعيش وتنجح إلى “التوافق”، الذي هو أصل وحدتها وقوتها وكفاءتها. من هنا، تنبع آلية التعاقد بين الناس لإدارة شؤون الدولة. ولا يمكن للسُلطة السياسية في عُمان تجاهل المطالبات بدستور وطني، يمثِّل الشعب فيه مصدر السلطات، ويمارسها عبر مؤسسات مستقلة، تراقب وتحاسب بعضها البعض، وتحمي من خلاله قيم المواطنة والعدالة والمساواة والتعددية، وتوفر الاستدامة لها سواء على مستوى النصوص أو الممارسات. ولا يمكن لذرائع “عدم النضج” أو “الوحدة الوطنية” أو “أولويات التنمية” أن تصمد طويلًا لبلوغ هذه المرحلة. إن الحريات والحقوق الإنسانية لن تكون في حكم المُدرَك إن لم تُمارَس، ويُساء استخدامها، ويعاد تدويرها مرارًا وتكرارًا، ويُراجع النظر في وسائل وطرق استقرارها. ولن يطمئن الناس لها إلا من خلال التعلُّم من التجربة العملية، وعلى الميدان، لا في أوهام رجالات السلطة ولا عبر تمثُّلاتهم وحدهم تجاه المصلحة العامة.
أمن إنساني: المفهوم التقليدي للأمن القائم على المراقبة والتحكم والسيطرة واختراق الحياة الشخصية للناس، تجاوزته المجتمعات المتقدمة منذ زمن إلى مفهوم أوسع وأرحم للأمن الإنساني. فالأمن الذي يخدم الدولة ويرقى بها ليس أمن الدولة إنما هو أمن الإنسان المنطلق من محورية أن الإنسان قيمة لذاته. يُوفَّر له كل السبل الكفيلة بأمنه الاقتصادي والتعليمي والسياسي والغذائي والصحي والبيئي والثقافي، وحمايته من أي عنف يطوله سواء من غيره من الأفراد أو من مؤسسات الدولة ذاتها.
تعليم عصري: البلاد في حاجة إلى تعليم مدني، يضع معايير جودة مخرجاته نصب عينيه، يُكوِّن الأجيال القادمة تكوينًا معرفيًّا على ثقافة السؤال والنقد والبحث العلمي الجاد. تعليم يحببهم في الفن والجمال والفلسفة كمعطيات ضرورية لفهم الحياة والوجود، ويغرس فيهم القيم الأخلاقية الإنسانية الكبرى والمشتركة مع باقي الناس في هذا العالم؛ قيم الحرية والعدالة والمساواة والتعددية والحوار وقبول المختلف من الثقافات والأراء والأديان.
اقتصاد المعرفة: أوضحت تجربة العقود الماضية كارثية الاعتماد الكلي على مصدر أوحد وناضب كالنفط. ولن ينجو أي اقتصاد من مقامرات العرض والطلب والتعرض لمخاطر الإفلاس والكساد والتضخم وسحق حياة البشر إلا بالاستثمار في الإنسان. إن بناء اقتصاد وطني قائم على المعرفة؛ تأهيلًا، وبحثًا، وإنتاجًا؛ يستوجب بالضرورة الإيمان بدولة الحقوق والحريات، التي تصون المال العام، وتحمي تبديده على الامتيازات، وتستثمر فوائضه، وتوجهه توجيهًا راشدًا لحياة الناس، وتذلِّل كل التحديات من أجل تعليمهم وصحتهم وبحثهم وإنتاجهم.
مجتمع مدني فاعل: التغيير لا يأتي إلا بالعمل، والتحول الديمقراطي للدول هو نتيجة تراكم مهارات مكتسبة لمجتمعه المدني وأفراده. جميع المعوقات الموضوعة من قبل السلطة اليوم في وجه نمو طبيعي وآمن للمجتمع المدني العُماني ينبغي ألا تتحول إلى معوقات للتقدم والنضال من أجل التغيير بل هي تحديات تُحفز العاملين في هذا المقام لمواصلة اجتراح أفكار جديدة ومبتكرة ومستدامة لأجل التغيير المنشود.
الخاتمة
يدرك العُمانيون اليوم أنهم يملكون جملة من المقومات تُعزز محورية إرادتهم الشعبية في مستقبل عملية التغيير في بلادهم؛ فالانسجام والتعايش الذي تعيشه مختلف شرائح المجتمع -في وسط محيط إقليمي هائج- يُمكِّنهم من بناء دولتهم المدنية المتسامية على الطائفية والقبلية والمذهبية. السلم الاجتماعي، والوئام الوطني، والتنمية البشرية المعقولة التي عاشها الناس طوال حكم السلطان قابوس خلال الـ 45 عامًا الماضية يُمكن البناء عليها كأساسات متينة ومستقرة للبدء في تأسيس دولة الحقوق والحريات، لا بانتظار قرار فوقي من ذات السلطة، التي تروِّج أن الشعب “لم ينضج بعد”، ولا بفعل تدخل خارجي لن يكون مجانيًّا بالتأكيد، ولا بانتظار ذات الفئات المنتفعة من الوضع الحالي. بل بمواصلة النضال السلمي، ونحت ثقافة سياسية ملتزمة بحقوق الإنسان المدنية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وحماية مصالحه العامة وفرص أجياله القادمة.
__________________________
سعيد سلطان الهاشمي – باحث عُماني
الهوامش
1 هنري لوفيفر، الدولة والسلطة، ترجمة: حسن أحجيج، مجلة فكر ونقد 1997. متاحة على موقع حكمة على الرابط التالي:
2 سعيد سلطان الهاشمي، عُمان الإنسان والسلطة: قراءة ممهِّدة لفهم المشهد السياسي العُماني المعاصر، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثانية 2015، ص 53.
3 لمزيد من التفاصيل، انظر: بسمة مبارك سعيد، التجربة الدستورية في عُمان، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2013.
4 مجموعة مؤلفين، الربيع العماني: قراءة في الدلالات والسياقات. تحرير أعداد: سعيد سلطان الهاشمي، بيروت: دار الفارابي، 2013، ص 369.
5 التقرير على الرابط:
http://hdr.undp.org/sites/default/files/reports/270/hdr_2010_en_complete_reprint.pdf
6 الخليج 2014: الثابت والمتحول، مركز الخليج لسياسات التنمية، 2014، على الرابط التالي:
https://www.gulfpolicies.com/index.php?option=com_content&view=category&layout=blog&id=188&Itemid=444
7 في 4سبتمبر/أيلول 2013، كشف موقع الوثائق الشهير “ويكيليكس” عن عديد من الوثائق المؤكِّدة على شراء الأجهزة الأمنية العُمانية لتقنيات متطورة لأغراض التنصت والتتبع لفعاليات مجتمعية ومدنية. التفاصيل على الرابط التالي:
https://search.wikileaks.org/?q=Oman
8 (Military expenditure as a share of GDP, 2005-2010 (table)، على الرابط: إضغط هنا.
9 انظر: حيدر إبراهيم علي، تجدد الاستبداد في الدول العربية: الدور المستقبلي للأمنوقراطية، مجلة المستقبل العربي، السنة 27، العدد 313 (مارس/آذار 2005)، ص 57-80.
10 الكتاب الإحصائي السنوي، أكتوبر/تشرين الأول 2015، الإصدار رقم 43،
https://www.ncsi.gov.om/Elibrary/LibraryContentDoc/
https://bar_Statistical_Year_Book_2015_00fad854-a091-4607-ae33-b705bb8f829b.pdf
11 هل ستكون “المجالس الاستشارية” الصوت المسموع لطلبة التعليم العالي؟، صحيفة البلد الإلكترونية،
http://albaladoman.com/22641
12 النشرة الإحصائية الشهرية، سبتمبر/أيلول 2015، المركز الوطني للإحصاء :
https://www.ncsi.gov.om/Elibrary/LibraryContentDoc/bar_Monthly%20Statistical%20Bulletin%20%20September%202015_ed7789ed-1046-4007-bbf2-7fb5a763f048.pdf
13 في هذا المقام حاول بعض مؤسسات المجتمع المدني خلق حالة من النقاش العام والتفكير العمومي المسموع لتدارك الكثير من الأخطاء التخطيطية والتنفيذية في الماضي، مثل الجمعية الاقتصادية العمانية ووثيقتها الموسومة بـ”عُمان التي نريد” لكنها لم تجد آذانًا مصغية من السلطة. للمزيد هنا رابط الوثيقة (تاريخ الدخول 11 أكتوبر/تشرين الأول 2015):
http://oea-oman.org/Booklet.pdf
14 الكتاب الإحصائي السنوي أكتوبر/تشرين الأول 2015، الإصدار رقم 43 المركز الوطني للإحصاء:
https://www.ncsi.gov.om/Elibrary/LibraryContentDoc/
bar_Statistical_Year_Book_2015_00fad854-a091-4607-ae33-b705bb8f829b.pdf
15 انظر تفاصيل التراجع على الرابط التالي:
http://reports.weforum.org/global-competitiveness-report-2014-2015/economies/#economy=OMN
16 لمزيد من التفصيل، انظر:
سعيد سلطان الهاشمي، قراءة في مبادرات المجتمع المدني العُماني بعد حراك عام 2011، مركز الجزيرة للدراسات، على الرابط التالي:
http://studies.aljazeera.net/issues/2014/03/20143594339143167.htm
المصدر/ الجزيرة للدراسات