إتصلت بك تلك الصبيحة الشتوية المشمسة وانا في طريقي الى الكلية في باب المعظم. دعوتك للتمرد على كل شيء والتمتع بجمال الشمس.. لم اخبرك يومها بانني كنت أكلمك وأتحسس بكفي الاخرى صورة صبي ألصقت على جدار، متحدية الامطار وبقايا ملصقات الساسة ووعودهم على جدار أكلح لخص قصة العراق وتنازع ساسته على كعكعته بينما صمدت ابتسامة الصبي ونادتني كي اتصل بك ايها الحالم. كان الصبي مايزال “سعيدا” لكن على جدار مثل كل الضحايا!
اردتك ان تشاركني الصباح قبل تلوثه باخبار الانفجارات والاغتيالات وكنت حينها على وشك ترك اوراقك وخططك وبريد لا يكترث غيرك في الوزارة بتفحصه أو الرد عليه.
كنت اعرف، شأني شأن صديقاتك واصدقائك، ان لديك انشغالك بمشروع ورؤية لثقافة عراقية انغمست بالعمل عليها مثل بستاني في وسط صحراء جرداء ممتلئة بالاشواك والحيوانات غير الصديقة.. كنت منكبا على ايجاد طريق لمشروعك وانت لا تملك غير ان تحلم بانها ستمطر ذات يوم وان تتحول الوحوش الضارية والعقارب الى كائنات صديقة حال سماع لحن محبتك وموسيقى الجمال التي كنت تبشر بها.. واصلت عزف لحن الحياة وسط طبول الحرب والاحقاد والثارات والكذب الذي كنت تكرهه وتترفع عن ذكر ممارسيه.
كنت اكثرنا ادراكا لقسوة الصحرا ء وغدرها لكنك لم تكن ترى في الامل غير ضرورة اخلاقية وليس خيارا.. عشت مقولاتك حتى اخر لحظة وانت في شارع المتنبي تجول سعيدا بكتب ابتعتها في ذلك اليوم الذي ترصدتك فيه الصحراء وغدرت بك بين نقطتين: بين الشارع الذي احببت وبين امك التي عاشت انتظارك ربع قرن ولم تزل حتى اللحظة.
الصحراء التي اختارت اغتيالك عند ” محمد القاسم ” وليس عند ” المتنبي “!!
بين ابتسامة الصبي على الجدار وابتسامتك التي اصبحت ايقونتنا نحن صديقاتك واصدقاؤك لم تكن سوى ستة اشهر فقط. لم ارك من غير ابتسامة او كلمات سوى يوم شيعنا شهاب التميمي.. يومها لم تخفف غضبي كشأنك دائما وانا اردد “كامل لن يوفروا احدا.. راح يجي دورنا واحد واحد ” لم تفعل غيرالاشاحة بنظرك مبددا اللحظة بتتبع شهاب وهو يغيب عن الانظار بفوضى و”شو” لم ينجح في اخفاء مسرح الجريمة والقتلة..!
*****
مفعما بالحماس تتبعت انشغالاتنا واغانينا او النشيد الوطني لكل واحد منا كما كنا نطلق عليه: اسماء جميل ونشيدها “جيه مالي والي “، وشروق العبايجي واغنية “اتوبه من المحبة “، ونهلة النداوي وبحثها في تلك الايام عن نشيدها واغنيتها الخاصة، وانا التي اخترت نشيدي منذ ثمانينيات القرن الماضي “هذا مو انصاف منك غيبتك هلكد تطول “، ويحيى الكبيسي المبتسم الذي ظلت اغنيته غامضة حتى اللحظة، وحيدر سعيد المولع بايجاد اغنية عراقية لم تكتب بعد!
من بين مئات الصور الفوتوغرافية التي التقطتها لرحلاتي بين بغداد والبصرة وما فيها من بؤس وخراب بين عامي 2006 و2007 لم تستوقفك غير اشجار النخيل. كنت تفكر بالجمال وسط الخراب فعرضت علي اختيار صور للنخيل تناسب تقويما عراقيا!
اتراك كنت تتعمد تجاهل تقاويم الموت المتناسلة في العراق كي تنفذ من تقاويم المنفى وقساوتها؟
كنت تعرف جيدا ان اللحظة قادمة لامحال لكنك اثرت ان تعيشها على انتظارها. لم يكن ذلك استسلاما منك لها بل محاولة للقفز عليها.. للتغلب عليها.لم تكن تريد للحظة ان تتغلب عليك مرتين: مرة قبل ان تحين ومرة عندما تحين!
قلت لك هذا وانا اقف عند نعشك في ذلك اليوم الصيفي اللاهب. كانت نهلة النداوي الانيقة دائما مهمومة بجنازة تليق بك، منزعجة من الطريقة التي وضعت فيها صورتك على علم العراق الذي لف تابوتك. كنت هناك في تابوت وكانت الخطب والكلمات التي اعرف كم كنت تكره فائض الانشاء الذي فيها تزعجك.. التفت الى بسمة الخطيب وقلت لها: فظاظة ان يكون كامل مضطرا لسماع كل هذه الخطب وهذه الموسيقى النشاز!
كلمتك حينها بسمة ” كامل.. تسمع الموسيقى.. دتسمع اشكد نشاز؟”
ذهبت يومها على ظهر سيارة الى مكان لم نتمكن من منعهم من اخذك اليه.. كنا نعرف انك لم ترد ان تنام غير في بغداد التي احببت.. بالتأكيد ليس في مقبرة جامع براثا الذي ذهبت يوما الى المسؤولين فيه من اجل الحفاظ على قبور بعض من رموز العراق، طه باقر وعلي الوردي، وكيف قابلك القابضين عليها بوصفها مركز قوة وملك لا ينبغي لأحد ان يحاسبهم عليه او ينازعهم فيه!
عدنا يومها، هناء ادور وبسمة الخطيب ونهلة النداوي وانا، نذرع الطرقات متجنبات الحديث عنك واكتفينا بالحديث الى متسولة شابة كانت تتردد على المحلات لتعود نهاية اليوم بنقود الى والدها السكير!
كنا نعرف انك كنت معنا في ذلك الحوار وذلك الانشغال بكل ما اريد له ان يكون “هامشيا”: الاقليات والنساء والاطفال.
كنت تراهن على نهوض الهامش يوما ما وعلى صنع حياة دينها الانسانية وبلد يؤمن بالمواطنة. لم تكن تلك شعارات تتاجر بها كما الكثير ممن عادوا الى العراق وحرصوا على العزف على لحن الضحية. قبلت بالجميع ولم تكن تنشد سوى السلام والعدالة.
برغم انشغالاتك التي لاحدود لها كنت تجد الوقت للاستماع الى أحلام ” أُسيد” ابن نهلة النداوي وابن النسويات. أُسيد الذي اريد له ان يكون علامة على قسوة “المركز” وخطاب “السلطة ” المتوحش. كانت نهلة ترتبك لاندفاع “أسيد” المحروم من نعمة الاب ومن نعمة التواصل الاجتماعي نحوك.. كان يحاول ان يتواصل مع ابتسامتك، يحاول ان يقول لك شيئا لكن اللغة تخذله وارتباك نهلة يزيد من خذلانه فتشير لها بحركة من يدك ” اتركيه”
تلتقط نهلة انفاسها ويروح ” أسيد” يردد اسماء بلاد صار اليوم يتقن اسماء عواصمها! تتسع ابتسامتك وتتسع خريطة أسيد فتقرر نهلة وقف رحلة طفلها ابن السبعة اعوام وتسألني عن النص الذي اعمل عليه.
تنتبه وتسألني: الم تنتهي بعد؟
– هذا نص لن يكتمل على الاقل في الوقت الحالي.. نص مفتوح مادامت الارقام قوت الاخبار.
تبتسم وترد ” كافي.. خلي صدق الله العظيم وانهي النص”.
لم يدر في بالي يوما ما ان تكون انت الـ full stop في نص اتجنب النظر فيه منذ اربعة اعوام! لم اكن اتوقع ان تكون انت اخر قصة في who is the numbers ? “” مثلما لم نتوقع تلبية دعوتك لنا لتطعمنا من طبخك في بيتك الذي ندخله اول مرة بعد اسبوع من اغتيالك.
فكر يحيى الكبيسي ان نلبي دعوتك ونكون في ضيافتك وكانت شروق العبايجي تحول غضبها الى يوم يجتمع فيه كل الاصدقاء والصديقات المؤمنين بانسانيتك ومشروعك الثقافي. سبقتنا نهلة النداوي الى البيت وصارت توجه السيدة التي استقدمتها لحفل استقبالك لنا الى اماكن وضع الشموع وازالة الغبار عن الاثاث. كنت مأخوذة ووجلة من دخول بيتك وابتسامتك ليست فيه. بيتك الذي وجدته اخيرا ليكون مستقرك الدائم. كل شيء في مكانه لم يمس مذ تركته تلك الجمعة الى المتنبي.. اتجهت الى طاولة الكتابة فوجدت ورقة كتبت عليها اسماء مواضيع عدد” الثقافة الجديدة” المقبل ورقم موبايل صاحب المولدة بينما كان اليأس يخرج من اطار الصورة ويتفقد حضورك في المكان. ناديت يحيى ليرى آخر ماكتبته على المكتب.
توقف يحيى قليلا ثم تركني ليغلق باب غرفة نومك ويفتح باب البيت لاستقبال ضيوفك.