16 نوفمبر، 2024 3:46 ص
Search
Close this search box.

الليلة التي جُرِحَتْ فيها مَنارةُ الحَدْباء قبلَ أنْ تُعْدَم

الليلة التي جُرِحَتْ فيها مَنارةُ الحَدْباء قبلَ أنْ تُعْدَم

دون مراعاة لمشاعر طيف واسع من العراقيين دعا شاعر عراقي(حسين قاصد)يعمل استاذا جامعيا عبر صفحته في موقع الفيس بوك الى تحويل جامع النوري الكبير مع منارة الحدباء الى مرافق صحية عامة(wc )وجاءت هذه الدعوة وسط جدل حاد كان قد اشتد قبل وبعد تفجير منارة الحدباء في 21 حزيران (يونيو) 2017 بين رواد صفحات مواقع التواصل الاجتماعي غالبيتهم من العراقيين وفي مقدمتهم سكان مدينة الموصل( 450) كم شمال بغداد .
ما كان وارداً من شخص يُحسب على النخبة المثقفة ان يستهين بمشاعر طيف واسع من العراقيين،في مقدمتهم يأتي المسلمون،خاصة ابناء مدينة الموصل الذين يرتبطون بعلاقة وجدانية عميقة مع هذا المكان الذي شهد معهم تقلبات الازمان طيلة تسعة قرون من عمر المدينة التي واجهت فيها تحديات وغزوات اجنبية ارادت النيل من سكانها الذين دفعوا الثمن باهظا من ارواحهم إلاّ ان المنارة بقيت شامخة في مكانها دون ان تنكسر وكأنها شاهد على تمسكهم بارضهم ومدينتهم ،حتى اصبح الجامع والمنارة هوية الناس والمدينة معا وماعاد ممكنا فك الارتباط الرمزي بينهما،فاينما اتجه الموصلي في حدود الجغرافية كانت المنارة تحرسه روحه وتشعره بالاطمئنان وهي تقف بارتفاعها الشاهق (55 م)بذلك انفردت الموصل عن بقية مدن العراق بهذا الصرح الديني والتاريخي،وغالبا ماكان يقرن ميل المنارة من قبيل التشبيه مع ميلان برج (بيزا) الشهير في مدينة روما الايطالية.
لاقت دعوة الشاعر ردود افعال عاصفة بين اوساط المثقفين على صفحات التواصل الاجتماعي بعضهم عبر عن رفضه واستهجانه لهذه الدعوة وما وصل اليه الوعي بالتراث الى هذا المستوى المتدني خاصة وان مطلق الدعوة شاعر واستاذ جامعي وليس شخصا عاديا لم يكن متوقعا منه ان يلجأ الى استعمال الفاظ اقل مايمكن ان يقال عنها بانها سوقية لاتليق بمثقف واكاديمي للتعبيرعن رأيه في قضية رأي عام وعلى درجة من الاهمية والحساسية سواء من الناحية الدينية او التاريخية او الاخلاقية،وهذا مادفع عدد من المثقفين الى ان يطالبوا اتحاد الادباء والكتاب في العراق بأن يكون له موقف ويتخذ اجراء يدفع الشاعر الى ان يعتذر عن موقفه ، وبعضهم طالب الاتحاد بما هو اكثر من ذلك .
في الجدل الذي تمحور حول هذا الموضوع لايمكن تجاهل تأثير العامل الطائفي بقدر ما ـ هذا اضافة الى عوامل اخرى ـ بالشكل الذي القى بظلاله الثقيلة على حالة الانقسام التي سادت تلك الحوارات الساخنة.
ومما زاد من حدتها ان جامع النوري كان قد شهد في شهر تموز(يوليو) 2014 الظهور الاول لزعيم تنظيم الخلافة ابي بكر البغدادي عندما القى خطبته الشهيرة من على منبر الجامع والتي اعلن فيها قيام دولة الخلافة ونصّب نفسه خليفة على المسلمين .
الموصل باتت تعرف بمدينة الحدباء تيمناً بمنارتها التي تميل الى جهة الشرق،أما عن سبب الميلان فهناك اقاويل وتحليلات كثيرة،بعضها يعزو ذلك الى العوامل الطبيعية، وبعضها الى خطأ ارتكبه البناؤون اثناء تشيدها،وهناك من يفسر الميلان الى ان الذي تولى بنائها كان قد تعمد ذلك لتوحي وكأنها تلقي بالتحية على المصلين وهم يدخلون الى المسجد.
المسجد مع منارته يعود تاريخ بنائه الى العام 1172 م في عهد الامير السلجوقي نور الدين زنكي وقد خضعا الى اعادة تعمير وترميم لاكثر من مرة خلال رحلتهما من عمر المدينة التي ناهزت 850 عام.
مايلفت الانتباه ان الشاعر حسين قاصد لم يكن وحده من دعا الى تفجير المنارة إذا ما اصبحت عقبة امام تقدم الجيش العراقي في احياء المدينة القديمة ووصلت العملية العسكرية التي تدور في حدود المنطقة الجغرافية المحيطة بالجامع ضد عناصر تنظيم داعش الى لحظة خيار صعبة ربما تفرض على قيادة الجيش العراقي لكي يحسم المعركة لصالحه إماالتفريط بدماء الجنود في مقابل الحفاظ على المنارة او العكس .
كان الى جانب دعوة (القاصد)عديد من الاصوات كانت هي الاخرى تنظر الى المنارة على انها مجرد طين مفخور كما انها ترمز الى الاحتلال التركي ،على اعتبار ان من بنى جامع النوري ومنارة الحدباء هو الامير نورالدين زنكي( 1118 – 1174م) الذي يرجع في اصوله الى السلاجقة الاتراك.
إلاّ ان (قاصد) تفرّد عن الاخرين بالايغال في الاساءة المتعمدة لابناء الموصل بجميع مكوناتهم ولم يقتصر الامر على المسلمين فقط وهذا مايمكن ملاحظته في مشاعر الحزن التي خيمت على بقية سكانها بكافة انتماءاتهم الدينية بعد حادث تفجيرالمنارة .
اصبح الانقسام هذه الايام سمة واضحة يفرض حضوره وبقوة على مواقف وردود افعال العراقيين في كل صغيرة وكبيرة وفي مقدمتهم المسلمون،ولاأظن ان اسباب ذلك تنحصر بماخلفه التغيير السياسي في العراق بقيادة الولايات المتحدة الاميركية بعد العام 2003 بقدر ما تعود بنا اوليات هذا الانقسام الى ماهو ابعد واعمق من ذلك بكثير الى تلك اللحظة التاريخية من عمر المسلمين عندما اجتمع اصحاب النبي محمد بعد وفاته مباشرة 632 م تحت سقيفة بني ساعدة لاختيار من يتولى خلافة المسلمين من بعده، بمعنى ان الحدث التاريخي البعيد مايزال يلعب دورا حاسما في تشكيل الوعي لديهم ويفرز المواقف وتحديد الخصوم والاعداء في ما بينهم سواء على المستوى الفردي او المجتمعي.
اشكالية المسلم في علاقته مع التاريخ بكل التباساته انعكست على الانسان العراقي المعاصر واعتقلت وعيه بإطاره الثقافي والسياسي في لحظة زمنية خارج التاريخ في بعده الديالكتيكي،وعلى مايبدو فإن هذه الانتكاسة في الوعي اخذت تطفح على سطح الحياة العامة وبدأت تمارس دورا سيئا في تعميق الانقسام المجتمعي خاصة بعد ان شهدت الاعوام التي اعقبت سقوط نظام البعث في 9 نيسان (ابريل ) 2003 تمدد الاحزاب والتنظيمات الدينية الاسلاموية (شيعية وسنية )وهيمنتها على الحياة السياسية في مقابل تراجع ملحوظ ومخيف للقوى والاحزاب اليسارية العلمانية والقومية في المشهد السياسي لعل الحزب الشيوعي العراقي الذي لم يعد له اي تأثير في المشهد السياسي بعد ان كان ابرز القوى السياسية الوطنية التي لعبت دورا كبيرا في قيادة الشارع العراقي وتوجيهه بالشكل الذي يصبح عامل ضغط كبير على الحكومات العراقية المتعاقبة منذ الاعلان عن تأسيسه عام 1934 .
من هنا يبدو الحاضر غائبا بكل متغيراته عن العراقين بعد ان غيبته سلطة الماضي،ومتى ما تخلوا عن الدوران برقابهم الى الخلف إذا ما ارادوا السير الى الامام عندها سيكون من الممكن ان يعقدوا صفقتهم الرابحة مع المستقبل .

 

أحدث المقالات

أحدث المقالات