17 نوفمبر، 2024 11:48 م
Search
Close this search box.

الاغتراب العربي في زمن الاسلاموين

الاغتراب العربي في زمن الاسلاموين

استعمل الفيلسوف الالماني هيجل مصطلح الاغتراب    
بصورة مزدوجة فهو في البعض من معالجاته يستعمله في سياق الانفصال وفي مواقع اخرى من بحوثه يعطيه معنى التخلي او التنازل

لقد استعملت فكرة الانفصال من قبل المفكرين القدامي بمعنى يشير الى تحلل العلاقة بين الفرد واعضاء مجتمعه وهذا الاستخدام لاينسجم مع المعنى الذي اراده هيجل فالمعنى الذي اراده هيجل هو انفصال بين الفرد وجوهره الاجتماعي غير الشخصي وهذا الاستعمال يعد ابتكارا يؤمن اساسا مثمرا لدراسة الاغتراب ويودي استعماله بهذا المعنى الى مفهوم الانفصال عن النفس او الاغتراب الذاتي.
لقد استمد هيجل المعنى الاول للاغتراب بصورة مباشرة نسبيا من الاستخدام العادي لكلمة غريب في اللغة الالمانية وماتعنيه الغربة والانتماء الى ماهو اجنبي والاختلاف واللاتطابق ، اما المعنى الثاني فمستمد من فكرة غالبا مانصادفها في نظرية العقد الاجتماعي وهي فكرة تسليم ونقل حق ما الى شخص اخر ، وفي ملاحظة اجدها مهمة وهي ما قاله هيجل ( ان الحب  يتطلب التنازل عن الاستقلال ولايتفق مع انفصال الفردية ) ، لكنه يتفق مع ماذهب اليه عالم الاجتماع الفرنسي جان جاك روسو من انهما يرفضان التخلي عن الحب حينما يسفر عن الخضوع او الاعتماد على شخص اخر(مااقصده بالحب هو الحب العام ).
ويربط هيجل بين الثقافة والاغتراب فالثقافة عنده ان يعارض الفرد ذاته ، ذلك ان الذات الفردية تسلب ذاتها من اجل الحصول على حقيقتها الشاملة وحقيقتها الشاملة هي الثقافة ولان الثقافة هي كل ماينتجه الانسان وهذا الانتاج يشمل عنصرين هما الدولة والثروة ، فالدولة توحد بين الافراد من خلال الكل ، اما الثروة فانها توحد بين الافراد من خلال الفرد، والدولة عند هيجل تنطوي على ثلاثة عناصر وهي الاسرة او الدولة في شكلها المباشر والمجتمع المدني او دولة الاقتصاد الحر ، والدولة بالمعنى الدقيق تمثل الوحدة العضوية للحياة السياسية وهذا المعنى الثالث للدولة والذي يقابل الفكرة الشاملة عنده. 
يرى هيجل ان الكل سابق على الاجزاء وان الاجزاء موجودة من اجل ان يحقق الكل وجوده الواقعي ومعنى ذلك ان التناقض القائم بين المجتمع والحياة السياسية ، قائم بين الفرد المنشغل بحياته اليومية والمواطن المدرك لحقيقته الخالدة في حياة المدنية، ولارادته المماثلة لارادة العامه، وهذا التناقض يولد( الوعي التعس) او ( الاغتراب).
ان الاغتراب السياسي عند هيجل يلازمه اغتراب ديني لان الفرد حين يغترب سياسيا يلجأ الى الاحتماء في طبيعة ابدية تجاوز ذاته ، لقد حاول هيجل رفع هذا التناقض بين الفرد والدولة من خلال تصوره امكانية تحول الفرد الى مواطن، والنزول بمملكة السماء الى مملكة الارض وهذا التصور تصور غير واقعي من وجهة النظر الماركسية على اعتبار ان التناقض ليس بين البرجوازية والدولة انما هو الصراع الداخلي للمجتمع البرجوازي اي (الصراع الطبقي).
مايهمني في ماتقدم  كمواطن عربي يعيش حالة من ابشع حالات (الوعي التعس) و( الاغتراب) في هذه المرحلة التاريخية من تاريخ امته  هو البحث عن الخلاص فاذا كان هروب الفرد عندهيجل من اغترابه في ذوبانه في الكل او الهروب من الاغتراب السياسي الى الاحتماء بمملكة السماء اي الى (التدين) ، فانا اجد ان الكل لايؤمن لي حياة انسجم فيها مع نفسي لان الكل مهموم بالحال المزري التي اوصلنا اليها العالم الغربي الاستعماري الشره الذي يهدف ان تحويلنا الى عبيد بعد ان تمكن او في طريقه ليتمكن  من السيطرة المطلقة على ثرواتنا الطبيعية والبشرية المادية والمعنوية هذا من جانب ومن الجانب الاخر فان ديننا الاسلامي الحنيف الذي ملأ الدنيا نورا قد تحول الى مايشبه الكابوس جراء التناقضات التي نراها اليوم بين الملل والنحل ( الطوائف وامراء الحرب والذين ينفذون ارادة الاستعمار الجديد وشرق اوسطه المزعوم) و بالتالي فقد تم افراغه من محتواه لانه لم يعد يؤمن لنا الملاذ الامن من اغترابنا السياسي ،فما معنى الفتاوي المتناقضة التي يطلقها المتفقهين بالدين والتي تبيح المحرمات وكل منهم يترجم او يفسر شريعةالسماء السمحاء التي تدعو الى الحكمة والموعظة الحسنة الى ذبح الانسان المسلم وغير المسلم على (الطريقة الاسلامية) لا لذنب اقترفه سوى التعبير عن رأيه الحر الذي لايتناقض مع قوانين الارض والسماء او لانه يقف بوجه الاستعمار الجديد الذي تمثله امريكا والكيان الصهيوني.
لقد استفاد الالماني كارل ماركس من هيجل عندما اخذ فكرة (صيرورة الانسان التأريخية ) عنه، واستفاد من الفيلسوف فيورباخ الذي اخذ عنه افكاره المادية ومفاهيمه عن  ( الانسان العياني ) و(صيغة النزعة الانسانية ـ النزعة الطبيعية) وصاغ تصوره الخاص الذي نظر فيه الى الانسان واغترابه في كليته الديالكتيكية، اي ان ماركس تجاوز الجدل الهيجلي المثالي والمذهب الانثربولوجي الفيورباخي الى الجدل المادي في تحليل ظاهرة الاغتراب  وكان للماركسية رأي بتصور هيجل الذي حاول رفع التناقض بين الفرد والدولة من خلال امكانية تحول الفرد الى مواطن، والنزول بمملكة السماء الى مملكة الارض وهذا التصور غير واقعي من وجهة النظر الماركسية على اعتبار ان التناقض ليس بين البرجوازية والدولة انما هو الصراع الداخلي للمجتمع البرجوازي اي الصراع الطبقي ، فالماركسية ترد مشكلة الاغتراب الى الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي اولا ، وان البحث عن اسباب هذه المشكلة ونتائجها واثارها على الاشياء ياتي من خلال تحليل النظام الرأسمالي وتناقضاته ثانيا.
يؤكد اوغست كورنو بأن ماركس هو اول من اثار مشكلة الاغتراب في المجال السياسي والاجتماعي ، كما واعتبر الاغتراب التعبير السلبي للنظام الاجتماعي ، واكد كذلك على ان الاستلاب الاقتصادي هو مصدر استلاب الحياة الواقعية للانسان باعتباره وجودا نوعيا واجتماعيا ومن الملاحظ ان ماركس كثيرا مااستخدم مصطلح الاغتراب في مؤلفاته المبكرة (المخطوطات)ومن الملاحظ ايضا ان ماركس عالج الاغتراب في ( المخطوطات باعتباره المشكلة الفلسفية لجوهر الانسان وظروف وجوده).
لقد طور ماركس مفهوم الاستلاب في كتابه ( رأس المال) من خلال معالجته طبيعة الانسان الاجتماعية ونشاطه السياسي وممارسته الاجتماعية ولقد اكد ماركس على ان الانسان حين تستلب قواه ، تنزع عنه انسانيته اي ان العامل حين يغترب عن قوة عمله ونشاطه الانساني يتحول الى مجرد سلعة ، وهذا مااطلق عليه ماركس (التشيؤ) ، وكما كان لهيجل تصور في الحد من الاغتراب الذي يعانيه الانسان فأن الحل الذي جاء به ماركس للتغلب على هذه المعظلة ياتي عبر الثورة الموضوعية الجذرية التي تشمل الذات والعالم ذلك لان الاغتراب ظاهرة تاريخية تولدها الشروط الموضوعية ولادخل للذات فيها، لذلك يجب ازالة الاغتراب عبر الثورة.  

والسؤال هنا هو ، هل يستطيع كل من هيجل بمثاليته وفيورباخ بماديته وماركس بالاستفادة من مثالية الاول ومادية الثاني وخروجه علينا بالديالكتيك والصراع الطبقي والتطور التاريخي  ان يحللوا ظاهرة الاغتراب المتعددة الجوانب التي يعيشها الانسان العربي الذي يعيش في عصر ، اقل مايقال عنه انه مفزع؟ فالانسان العربي  يعيش اليوم حالة من حالات الاغتراب الفريدة والنادرة فهو غريب عن نفسه ومجتمعه وارضه  وهذا الطرح لايمثل الصورة السوداوية القاتمة بل يمثل الحد الادنى من الواقعية ، فمن هو العربي ومن هو الذي يمثل تطلعاته المستقبلية في حياة حرة كريمة ، وهل هناك حقيقة مطلقة يعيشها هذا الانسان؟
ان الانسان العربي الذي اجتاز اخطر مراحل انهيار امته ابتداء من سقوط بغداد على يد التتر مرورا بالحقبة العثمانية والاستعمارية الغربية ومرورا بما يمر به هذا الانسان في العصر الحديث الذي يتشابه الى حد كبير بالعهد الجاهلي الذي سبق الاسلام ، ذلك العهد الذي كانت تضطرم في داخله تفاعلات الحياة وتنمو في اعماقة بذور النهضة الحديثة وتتحفز في جنبات الانهيار الثورة على كل القيم الجاهلية وواقعها ، ففي عيوبنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية اليوم بذور نهضتنا في الغد، وفي سؤ اوضاعنا وكثرة العقبات التي تعترض حياتنا، تقوم امكانات الخصب لبذور الحياة الجديدة والافكار والمفاهيم والمصطلحات الفلسفية مطالبة اليوم بدراسة وادراك طبيعة الشعب العربي الذي خلقت فيه ووجدت لتمثله ولابد لها من ان تدرك مسار تاريخه وطبيعة تطوره ولابد لها من ان تفهم روحيته لتمثل بالتالي مثله واماله وطموحاته وان تعي الشروط الحياتية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي ينبغي ان تتوفر لهذا الشعب العربي حتى يحقق ذاته ويتخلص افراده من مرض الاغتراب.
اننا لانطلب مستحيلا في حياتنا او مستقبلنا ذلك ان كل نهضة مهما صغرت وكل تقدم مهما كان بسيطا يبدو مستحيلا بل وخياليا اذا قيس بمنظر التاخر والخمول والانحلال ومن ضمن المقاييس الجامدة والانحطاط ، ولكن كل نهضة يمكن ان تقع في نطاق الممكن حينما تقاس بمقياس سير التاريخ واتجاهاته ونهضة امتنا وانسانا العربي الذي ابتلاه الله بالاستعمار والصهيونية والرجعية العربية والاسلامويون الجدد هي اليوم اقرب الى التحقق والممكن اذا قسناها بمقاييس تاريخنا واذا اخذناها بمقتضى حقائقه ، انها  نهضة واقعية اذا فكرنا بروح واعية ، ثائرة على مفاسد التاخر والانحطاط ،، انها نهضة واقعية اذا قيست بروح الايمان والثقة بالنفس.

علينا ان نرفض سموم الكفر بمعتقداتنا والقيم الاصيلة التي تربينا عليها ، فامتنا العربية مقبلة على ولادة جديدة لايمثلها هذا الزبد الذي تبثه الفضائيات المسمومة والتي لاتنتمي الى العرب ، علينا تحقيق الثورة في نفوسنا على القيم البالية والامال الخداعة وان نقضي على التردد والاغتراب في نفوسنا وان لا نتلفت الى الوراء  ، مستقبلنا لايبنيه احدا غيرنا علينا ان ننفصل عن الجسم المريض ونتطهر من اجل تحقيق الهدف المنشود ، فليس بالبعيد ولابالعجيب ان ينقلب الواقع الفاسد في نفوسنا وفي واقعنا كما حدث في الجزيرة العربية عندما حمل العرب راية السماء.

أحدث المقالات