26 نوفمبر، 2024 12:43 م
Search
Close this search box.

فاتن

كانت لي صديقة من أيام الدراسة الثانوية المسائية المختلطة تدعى “فاتن”، وعلى الرغم من أنها تتمتع بجمال قلما تجد مثيله كان ثمة عيب واحد في وجهها، عيب واحد لا أكثر؛ حرق صغير على جانب رقبتها بحجم غطاء علبة دواء كبيرة. كانت فاتن بالغة الطيبة وبذكاء واضح لكن ذلك الحرق اللعين أصبح مشكلتها المُنَغِّصة، ملحقا بها عذابا لا نهاية له، فتراها دائما تجلس أو تقف بأوضاع مضطربة، محاولة تجنب نظرات الطلاب المتطاولة الخبيثة التي تريد أن تعرف بالضبط مدى الضرر الذي أحدثه الحرق اللعين.
كنت أقف على الدوام في الجهة المضادة للحرق حينما التقيها، ولم أسالها أبداً عن الكيفية التي حدث بها مع أنها أخبرتني بأنها وقعت حينما كانت طفلها من السرير على منقلة كانت مركونة في الأسفل. لم يكن الحجاب شائعا أو مقبولا آنذاك في العراق ولم يكن شعرها من الكثافة الكافية لتجعله يسترسل ويغطي تلك البقعة المشوهة.
ويبلغ الصراع ذروته في أعماقها حينما يسألها الأستاذ أن تكتب شيئا على السبورة فتنهض فاتن مجرجرة خطواتها من المقعد الأخير بجسمها المتوتر، لدرجة تبدو بأنها لا تستطيع تحمل حتى الضوء القليل، محاولة عبثا تجنب النظرات الفضولية المنصبة على عنقها. وكلما حاولت إخفاء ذلك كلما أمسى الفضول المزعج قويا في نفوس الطلاب.
قلت لها في إحدى المرات بعد أن جاءت لتقف إلى جانبي وأنا أقف متكئا على السياج قدّام باب الصف وهي تبث لي شجونها وآلامها: فاتن أنت جميلة جداً، فتاة محبوبة وذكية وهذا الحرق لا يبدو عيباً في نظري بالمرة ولا في عيون الناس حسب ما أعتقد، لكن قلقك هو الذي يجعل الآخرين يدققون بالنظر إليك، إلا أنها ردت إنك تقول هذا الكلام بدافع الشفقة لتجعلني أشعر بالارتياح لا غير، قلت لها إني صادق في قولي، لكن سلوكها المشوش لم يتغير.

وفي أحد المساءات نزلنا السلم أنا وهي من الطابق العلوي بوقت مبكر إلى مختبر المدرسة في الأسفل لكي نحضر درس الفيزياء. جلسنا في جانب الصف وحدنا وكانت ساحة المدرسة شبه مهجورة بسبب مناسبة أو احتفال ما والمدرس قد تأخر وضوء الفلورسنت المعلق بالسقف ينشر نوره المتقطع بشكل مزعج، قالت لو أن المسألة باختياري لتجنبت التعامل مع أغلب الناس ولا أحضر إلى المدرسة، طوال حياتي وأنا أعيش في قلق، لا أشعر بالارتياح من نظرات الغير المتفرسة سواك أنت وحدك لكونك تتفهمني.
ثم استطردت أنا قبيحة وغير جديرة بحبك. فقلت لها فاتن لماذا لا تنظرين إلى مفاتنك الأخرى؛ استدارة وجهك، عينيك، أنفك الجميل، شفتيك وطولك الرشيق، وفوق كل ذلك طيبتك. هذا الحرق لا شيء في نظري. هل بوسعي أن ألمسه؟ قالت لماذا؟ قلت حتى أثبت لك أنه ليس منفّرا بالضخامة التي تتصورينها ويبالغ خيالك في تجسيمها، فعلقت: طيب انظر لكن بسرعة، فرفعت أطراف شعرها وأمالت وجهها جانبا نحو النافذة. لاح نسيج اللحم البني منكمشا في دوائر مشدودة بجوار بشرتها البيضاء، ثم سألتني هل رأيت ما فيه الكفاية؟ قلت لا، واقتربت منها أكثر وهي ماتزال بتلك الوضعية ووضعت شفتي على مكان الحرق نفسه وقبلته.

عندئذ انتفضت واقفة وهي تبكي بنشوة لتقول: لا أدري بأن سلوكك بهذه الغرابة وأنك مجنون لهذا الحد! فتطلعت إلى وجهها مبتسما بهدوء وأنا أومئ برأسي، فشكرتني ثم قالت: أنت حقا اكتسبت ثقتي،الآن أستطيع أن أتقبل نفسي، لم أتخيل أن شخصاً بمقدوره أن يلمس ذلك الموضع دون أن يشعر بالاشمئزاز ناهيك عن تقبيله. بعدها قدم بعض الطلاب بصحبة الأستاذ وسأل فاتن أن تقوم بشيء ما على السبورة فنهضت بثقة وخطت للأمام وأزاحت بعضا من خصلات شعرها الأسود إلى الخلف. تغير سلوك فاتن منذ تلك اللحظة ولاحظتُ أن العذاب أو الكآبة المهيمنة تبددت عن مُحَيّاها وأخذت تختلط بالطلاب أكثر فأكثر من غير ذلك القلق القديم.

أحدث المقالات