22 ديسمبر، 2024 11:45 م

في رواية “قليل من الموت” .. الخوف من العدم يعطي معنى للحياة

في رواية “قليل من الموت” .. الخوف من العدم يعطي معنى للحياة

قراءة – سماح عادل :

في رواية (قليل من الموت) للكاتب السوري الشاب “مناف زيتون”، نشعر بالاقتراب المقبض للموت.. الرواية تبدأ برجل يستيقظ ليجد نفسه في تابوت خشبي، يتخيل أول الأمر مع الظلمة الحالكة أنه في غرفة في مستشفى، لكن مع تحسسه للمحيط حوله وشعوره بالضيق الشديد للمكان الذي هو فيه يفهم ببطء أنه مدفون في تابوت خشبي.

يبدأ الهلع يتمكن منه، معتمداً على حاسة اللمس في البداية ثم يتذكر أنه يرتدي ساعة بها إضاءة أهدتها أمه المتوفية له وكان يحبها كثيراً، يستطيع بعد تنظيم هلعه وتداعي أفكاره أن يفتح التابوت لكن الظلمة لا تنقشع، ويظل يتحسس القبر من حوله، يعلم أن هناك غطاء ثقيلاً لن يستطيع دفعه يغطي قبره، تدور في ذهنه أثناء لحظات الهلع تلك أفكاراً وجودية حول الموت، أفكار جديدة التناول، حول أن الأحياء يغلقون القبور بإحكام وكأنهم يخشون من عودة الموتى، وخوفه من أن يكون دفن أمه حية عندما ماتت، وتصل أفكاره إلى حد تخيل أنه مات بالفعل وأنه يشعر كميت، وأن الموتى ربما يشعرون ويتكلمون ويرفضون موتهم، يصرخ صرخة أخيرة يملأها بآخر طاقة له على الفعل ثم يغيب عن الوعي، وتشاء الظروف أن ينقذ من قبره على يد عامل القبور الذي يستعين بأحد رجال الدين من الكنيسة، ويودعون البطل “أنور” في مستشفى محاولة منهم لتخفيف صدمة عودته من الموت ودفنه في قبر مظلم.

الحياة بعد تجربة الموت..

حين يتيقن “أنور” أنه حي تبدأ نظرته للحياة تختلف، يتوهم في البداية أنه تعرض لمؤامرة أو محاولة اغتيال، ثم يكتشف أن الأمر حدث بالصدفة، لكنه رغم ذلك لا يعود لأسرته، فهو بطل أربعيني لديه فتاتان في عمر المراهقة وزوجة، تتشوش أفكاره ويخاف مواجهة أسرته فيقرر العيش في أحد منازله التي يملكها، وتأجيل إعلان خبر عودته من الموت، من خلال حكي الراوي نكتشف خلفية حياة “أنور” وأسباب خوفه من العودة لأسرته، فقد كان هناك نفور حدث بينه وبين زوجته، بدأ من عنده حين هاجمته مخاوف الشيخوخة، والندم على الزواج وترك مساحة الحرية التي كان يتمتع بها أثناء شبابه، جعله يبتعد عن زوجته التي بدورها شعرت بالإهمال وأخذت تحاول لفت انتباهه وإثارة غيرته، حتى وصلت لحد مغازلة رجل آخر وإظهار دلائل على ذلك له، مما زاد الأمر تعقيداً وجعله يبتعد عنها أكثر وكان قبل موته الوهمي ينتوي الانفصال عنها.

الشخصيات..

هناك تنوع في الشخصيات مما يعطي الرواية ثراء، يحكي عنهم راوي عليم، “أنور” البطل تاجر غني يكتشف معناً جديداً للحياة بعد تجربة موت يتعرض لها، وزوجته “سلوى” الذي يحكي عنها الراوي ويصف شعورها بالإهمال ثم حزنها على موت زوجها، لكنه حزن متخبط لا تعلم أثناءه أهو حزن من فقدانه, أم حزن لأنها ستحرم من حريتها التي كانت ستنالها عند الانفصال، وصديق الزوج “رامي” وهو في نفس الوقت محامي يدير شؤونه القانونية وهو الرجل الذي غازلته “سلوى” لكن “أنور” لن يعرف ذلك أبداً، يحاول “رامي” إخفاء خيانته عن “أنور” بكل ما استطاع من قوة, ويؤكد لـ”سلوى” حين تتقرب منه أن ما حدث بينهما مجرد نزوة عابرة، و”بيسان” ابنة “أنور” فتاة في المدرسة الثانوية تتمتع بالذكاء وتكتشف أن أبيها لا زال حياً، وتنهار عند ذلك لكنها تتصالح مع أبيها رغم كل شئ وتقدر تخبطه بعد تجربة ثقيلة على نفس الإنسان، و”بأنه” الابنة الأخرى التي تحظى بقدرة على التنبؤ وتكتشف من الأيام الأولى أن أبيها ما زال حياً بحدسها.

وشخصية الطبيب “نزار” الذي فحص “أنور” بعد خروجه من القبر، اهتم الراوي بحكي شئ قليل عنه رغم عدم أهميته في الأحداث، كما حكي عن “عمر” عامل القبور وخلفية حياته، وكذلك أعطى للكاهن الذي صاحبه أثناء إنقاذ “أنور” من القبر بعض الوقت ليحكي عن مخاوفه من الموت، ومن أن تكون كل تصوراته الدينية التي يلقنها لشعبه في الكنيسة محل شك.

وهناك شخصية أعطاها الراوي مساحة كبيرة قاربت مساحة الأبطال في الرواية، وهي “ندى” الممرضة التي تساعد الطبيب “نزار”، حكي عن خلفية حياتها وكيف تغيرت بعد مقابلتها لإحدى الدجالات في باريس أثناء زيارة ترفيهية، كانت قد أنهت المرحلة الثانوية وتستعد للتقديم في كلية الطب حين تعرفت بالصدفة على إحدى الدجالات التي أقنعتها أنها تستطيع التنبؤ بالأشياء وأعطتها نصيحة ستغير مسار حياتها تماماً، قالت لها أنها عليها أن تخالف النظام لأن النظام الاجتماعي شئ منافي للطبيعة وقوانينها ومناف لحرية الإنسان، وأوهمتها الدجالة أنها ماتت بطريقة مأساوية مما جعل كلامها يتخذ قيمة أكبر، والتزمت “ندى” بالنصيحة وأصبحت ممرضة كما أنها قررت أن تخالف قاعدة ممارسة الجنس في إطار علاقة شرعية وأخذت تمارس الجنس مع عدد كبير من الرجال، تختارهم بعناية وتختار لهم صفات مميزة، وحين عرفت بأمر “أنور” ظلت تلاحقه حتى مارست معه الجنس.. كقارئة أشعر أن شخصية “ندى” ليس هناك مبرر درامي لوجودها في الرواية، خاصة وأن الكاتب لم يهتم بتطوير دورها في حياة “أنور” واكتفي بمقابلات قليلة لها معه، وذكر أنها تعلقت به، ثم أخبرنا في النهاية أن “ندى” ستكتشف أن السيدة الفرنسية التي حسبتها كل تلك السنوات معلمة روحية واسترشدت بنصيحتها وكانت تحلم بها أيضاً دجالة وسكيرة، تتصرف بوقاحة مع حبيب لها وتوهم الأشخاص بموت درامي لكي يكون لها تأثير عليهم.

الرواية تناولت موضوع الموت كحقيقة سنواجهها جميعاً.. ناقشته بتميز من خلال “أنور” الذي اختبره كواقع ملموس، كما وضع الكاتب في افتتاحية كل فصل نص لكتاب آخرين مثل “كازانزاكيس” و”عزيز نيسين” حول الموت، قلبت جوانبه جميعاً وكانت متميزة في تناول فكرة العودة من الموت وتخيل كيف سيكون العائد من الموت، هل سيشعر بقيمة الحياة أكثر ؟.. وهل سيقيم حياته ؟.. هل سيحاول بناء حياة جديدة تعتمد على الاستمتاع بكل لحظة وتجنب أخطاء إهدار الحياة دون وعي ؟.. لكن “أنور” رغم حيرته سيقرر في النهاية العودة لأسرته لأنه يعرف جيداً أنه لا يستطيع العيش بدونهم، وسيجدد حياته معهم ومن خلالهم حتى إنه سيشتاق لزوجته “سلوى” رغم سنوات الجفاء الماضية.

كان الكاتب متميزاً في السرد وفي اختيار لغة بسيطة ومحكمة، وفي تنوع الشخصيات، وكانت الحبكة مشوقة.

  • “مناف زيتون” روائي وصحافي ومدون سوري، ولد في دمشق 1988، تخرج من كلية الإعلام في جامعة دمشق، وأدرجت روايته (قليل من الموت) على القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب – فئة المؤلف الشاب.

أعماله..

قليل من الموت (رواية)، 2013

طائر الصدى (رواية)، 2014

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة