عند تاسيس الدولة العراقية عام 1921تصدر المشهد السياسي الى جانب المندوب السامي البريطاني ، جنرالات الجيش العربي وقادته المتسللين من المدرسة العسكرية التركية ، وقد تقلد العسكريون المناصب العلبا في الدولة الوليدة وقد كانت لهم لمسات واضحة ومتمييزة في ارساء معالم الدولة الحديثة ، بعيد الفترة المظلمة لحكم الدولة العثمانية ، وقد اتصفت الوزارات المتوالية بالضبط الاداري المستنسخ عن المؤسسة العسكرية، مضافا اليها التوق لبناء الدولة الحديثة ، يقول الفريق جعفر العسكري في مذكراته لقد وضعت النظام الداخلي لوزارة الدفاع في ركن منعزل في وزارة الداخلية ، وقد ساعدت الادارة البريطانية في وضع اسس الدولة بالنقل الالي للنظام الاداري والبرلماني للمملكة المتحدة ، وجاءت الاوامر والتعليمات الادارية متسمة بالضبط الاداري والمالي ، وقد تم انشاء الوزارات بالتوالي ، ووضعت اسس وزارة المعارف والصحة ووزارة الشؤون الداخلية ، وعندما اكتشف النفط ، وخاصة بعد عام 1932 ، اخذت الدولة تتوسع بالخدمات وانشاء الطرق والجسور والسدود ، بمساعدة المهندس البريطاني وقد كان العسكريون ونتيجة للضبط العسكري الذي يتصفون به منضبطين في تكونيهم السياسي بعد ان تحولوا تدريجيا من سلوك الثكنة العسكرية الى سلوك الدائرة المدنية ، وقد استطاعت تلك الحكومات المتتالية حتى عام 1958 ، ان تضع وان تتضح في ظلها شكل الدولة العراقية الحديثة ، فالسياسي في العهد الملكي كان في تكوينه عسكري النزعة طوعته الدائرة المدنية ، وساهم في ارساء معالم المدنية في هذا البلد ، وقد شكل الزعيم الركن عبد الكريم قاسم ، حكومته الاولى، بعد ثورة 14 تموز ، من العسكريين والمدنيين المتسللين من المدارس الحزبية التي تشات في الثلاثينات والاربعينات ، والتي كانت بمثابة المدارس الفكرية لكل اولئك السياسيين ، مثل الحزب الشيوعي العراقي والحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال والحزب الديمقراطي الكردستاني ، وفي الخمسينات جاء حزب البعث الى الساحة السياسية وكان اضافة الى القوميين العرب يشكلون التيار الفكري القومي العربي ، اضافة الى المفكرين العراقيين المستقلين اللذين اثروا الساحة الفكرية العراقية ، ولقد كان لاضطهاد الحكومات الملكية للحزب الشيوعي العراقي انذاك الاثر الكبير في نشر هذا الحزب للوعي السياسي والاقتصادي بين الكثير من الشباب ، ونتيجة لكل ما تقدم نود ان نقول ان معالم تكوين السياسي العراقي ما قبل انقلاب البعث عام 1963 ، كان بفعل المؤسسة العسكرية والاحزاب السياسية التقليدية، وقد انعكس الضبط العسكري والتلقين الحزبي على سلوك الشخصية الماسكة بالسلطة فكان الاداء رغم كل شئ اداءا جييدا انعكس على قوة الدولة ومتانة النظام الاداري والمالي ، وقد كانت وزارة المعارف ، او وزارات التربية تبني اجيالا ومن بعدها جامعة بغداد للتتبوا المراكز الادارية في الدولة وقد كانت معالم الحضارة تتوسع بشكل تدريجي ، وكانت رغم قلة الموارد نسبة النمو طبيعية ، حتى انقلاب البعث عام 1968، فقد تولى السلطة عسكريوا هذاالحزب كما هو الحال في انقلاب عام 1963 ، وبجانبهم الجناح المدني ، والمعروف ان هذا الحزب لا يمتلك نظرية اقتصادية واضحة الا انه يمتلك نظرية سياسية املاها عليه مشيل عفلق ، وهو سياسي سوري مربكة افكاره بالقياس االى افكار الاحزاب الماركسية التي كانت تملا الساحة في الخمسينات والستينات واواسط السبعينات، غير ان حزب البعث كان يمتلك المبادرة تلو المبادرة للوثوب الى السلطة في العراق وسوريا بمساعدة الغرب، وملا الساحة بالشعارات القومية التي لا تستند الى نظرية علمية في بناء دولة ورغم تحقيقه بعض المنجزات في العراق الا ان تغليب العقلية القبلية لزعامته وجهلها بالسياسة ،فقد زج هذا البلد بالحروب ، الامر الذي كان نتيجته الاحتلال ، فزعامة البعث لم تك سياسية في تكوينها وانما كانت زعامة اقتحامية ابتلت بها السياسة ، وقد وصف بعض المفكرين العرب مشيل عفلق من انه اديب ابتلت به السياسة ، وهكذا جر البعث الويلات على العرب في العراق وسوريا ابتداءا من الحرب على ايران او احتلال الكويت فالشخصية البعثية تتصف بالجراة ولا تملك نظرية سياسية او اقتصادية واضحة، اما القوميين العرب باستثناء بعض الشخصيات القومية المستقلة ، فقد كان تنظيمهم وليد الناصرية ، وفكرهم عام غير محدد ، وتاريخهم بدا بعبد الناصر وظل شبحا بعد موت هذا الرجل ، فكانوا ولاسباب عاطفية يرفعون شعار الوحدة مع مصر واية وحدة الوحدة الاندماجية وتكوين دولة بسيطة ولم يك فكرهم يتقبل الفدرالية ، غير ان القوميين وللتاريخ لم يخونوا القضية الفلسطينية،
لقد كانت الشخصية السياسية العراقية حتى عام 2003 ، تتميز رغم كل سلبياتها بالوطنية وحب العراق ولا تقبل على اي وجه كان المساس بالوطن ووحدته ، وكانت تتميز رغم اخطائها بالنزاهة والترفع عن دنس الانغماس في الفساد ، وكان العراقي والسياسي بالذات يقبل كل شئ الا ان يوصف بالعمالة للاجنبي او بالفاسد ، وكان الموظف قبل السياسي يسير مطاطا الراس اذا ادين بقضية فساد او قضية تتعلق بالعمالة للاجنبي .
ان ما حدث بعد عام 2003 ، كان بمثابة الزلزال ، الذي تمخض عنه سونامي اتى على كل شئ ، بما في ذلك القييم السياسبة الموروثة والسبب هو المحتل ومن جاء معه ، او ترعرع في ظله ، ان المحتل البريطاني عام 1917 ، كان محتلا ، ولم يك محررا ولكنه ، كان مقييدا بالقانون الدولي فقد قام ببسط النظام بعد الاحتلال وقام بحماية الاموال العامة والناس وعندما استقر الوضع له قام بالتعاون مع السياسيين ببناء البلد وساعد قدر الامكان في اعماره، اما المحتل الامريكي فكان مخربا مدمرا ساعد في انتشار الفوضى والسلب للمال العام ، بل وكان يشجع على الحرق والتخريب وهو ولدوافع معروفة لم يك يحترم القانون الدولي او القانون الدولي الانساني، ولقد ساعده في كل هذا السلوك السياسي العراقي الجديد المنفصل عن وطنه بفعل عامل الغربة الطويل او بفعل الظلم الذي لحق به نتيجة افعال النظام السابق ، وقد كان حري به وهو سياسي ان لا بقبل السلوك العنيف الامريكي ، وان يعمل قدر الامكان على كبح جماح دبابته المدمرة او طيرانه القاسي ، ولقد سكت السياسي الجديد عن عبث الحاكم المدني بالنظام الاداري والمالي المستقر منذ اجبال في الدولة العراقبة ، ولقد قبلت بعض الشخوص الجديدة ان توصف بالعمالة للمحتل بل وان بعضها يجاهر علنا بفضل المحتل على العراق ، ولقد افتتح السياسيون الجدد ومنذ مجلس الحكم مشروع الفساد ، وبدا غطاء العيب من الفساد يرفع تدريجيا ، واخذ كل حسب موقعه يغوص في هذا المنحى المخرب للذمم والبلد ، واخذ السياسيون يجرون احزابهم الى هذا اليم العميق بحجة الحصول على الاموال لممارسة السياسة اية سياسة هذه ، انها سياسة الهواة لا المحترفين ، ان الاحزاب المحترفة للنضال تكون عائداتها من تبرع الاعضاء والانصار والمؤييدين وهذه اشارة على متانة الحزب وايمان قواعده به ، اما احزاب اليوم فانها تدفع الرواتب لبعض اعضائها ، كما ان الاحزاب التي ملات الساحة لم تك ولا زالت احزاب سلطة وليست احزاب دولة ، وكما يبدو انها لم تستطع ان تقدم ولو سياسيا واحدا قادرا على ادارة دولة بسياستها واقتصادها ، وانها ملات الشارع بسياسيي رد الفعل لا سياسي الفعل ، فهم سياسوا الفضائيات ، وعارضي ازياء دولة الملائكة ، ويتساوى في ذلك احزاب الدين والدنيا ، وقد عمدت على انحسار ظل الاحزاب العراقية التقليدية لتبقى الساحة مفتوحة لها ولدول لها مصالح ان يظل العراق مربك في هويته السياسية ولا يملك لافتة اقتصادية واضحة لا هو دولة راسمالية ينمو في اجوافها الراسمال الوطني ولا هو دولة اشتراكية استمر في ظلها او نمى القطاع العام ، (ضييعنة المشيتين) وان الراسمالية التي تشكلت من سرقة المال العام اتجهت به الى الخارج في بنوك دبي والغرب او حتى في بنوك ايران وتركيا ، لتعود به على شكل سلع وبضائع اغلبها ذات استهلاك مظهري ليغتسل من جديد في العراق ويعود بالارباح ثانية الى الخارج ، وهكذا ظلت مواصفات السياسي الجديد ناقلا لاوبئة الترف السياسي بعيدا عن جوع الناس وبطالة الشباب ، سياسي متانق مسافر في كل الدنيا ليزول عنه تعب الترف الفكري ، ولو استثنينا القليل المقاتل للارهاب لاشترك الجميع بذات الامراض التي اصبحت مزمنة والمعيقة لكل تقدم يطلبه الناس لهذا البلد العريق .