الهواء الذي نستنشقه نسمات تكونت من هذه الترع المشرفة التي باتت تلك الأجساد الطيبة جزءا أو كلا منها… بل الأروع انها لامست تلك الاضرحة المنورة فتأتي على جسم وروح الانسان متحلقا في سماء الفضيلة والعلم والتقوى والفروسية وغيرها من شيم الرجولة التي كان يتحلى بها صاحب المرقد المقدس، فإنها شذرات روحانية وعبقات ايمانية يمكن لكل موال ان يرتشف منها مادام محافظا على قيمه واخلاقه واهدافه، و مادام مترددا على تلك الترع المباركة فانه يستلهم منها لا محالة دروس الحياة الخالدة التي تنجيه من المهالك وتعبر به الى سبل النجاة.
التواصل مع ائمة الهدى ولاسيما الامام علي ابن ابي طالب عليه السلام وابنه الامام الحسين عليه السلام والكاظمين والعسكريين عليهم سلام الله جميعا بزيارتهم وتجديد العهد معهم لما له من أثر طيب بجمع الكلمة والتآزر والتكافل والولاء للمعصومين عليهم السلام، فضلا عن التزود بالثقافة الدينية، ولولا هذا الارتباط العاطفي لاتباع أهل البيت عليهم السلام بالمراكز الدينية والأماكن المقدسة، لما كان هذا الوعي والولاء الديني المتين لخط أهل البيت عليهم السلام؛ حتى في المناطق النائية والبعيدة عن المراكز الثقافية والدينية.
ان وجود مثل هذه المحطات التي يتزود منها الانسان بما يطفئ ظمأه المادي والروحي والمعنوي، انما هي من نعم الله العظيمة التي حباها لأهل تلك البلاد التي احتضنت تلك الأجساد الطاهرة، وهي النجف الأشرف وكربلاء المقدسة والكاظمية المشرفة وسامراء المعظمة وغيرها من الأماكن التي تحتضن الأولياء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، الذين بعثهم الله تعالى لهداية البشرية في حياتهم وبعد وفاتهم، ووجود تلك الترع والروضات المباركة في تلك الأصقاع انما تعد في حقيقة الأمر من أعظم النعم الإلهية التي توجب على الفرد أن يشكر الباري عز وجل عليها، كيف لا وهو يغترف من نبعها الصافي الخير الوارف والعطاء المتدفق والبركات العظام التي لا انعدام فيها ولا زوال، وحري بالمؤمنين الاستمرار على نهج وهدي أهل بيت العصمة والطهارة من خلال التردد على قبورهم والتزود من فيوض عطائهم وعدم الانقطاع عن هذه الأماكن، فهي الجامعة للكلمة والمؤلفة للقلوب والمفيضة لبركات الدنيا وخيرات الآخرة على المؤمنين الأحرار الذين يستلهمون منها كل معاني البر والخير والبركة والكرامة والايمان والاحسان.
من الواضح ان العراق وأهل العراق لهم قصب السبق في المحبة لأهل البيت والسير على نهجهم والتخلق بأخلاقهم الفاضلة، لما لهم حصة الأسد من الأماكن المقدسة التي تحتضن تلك الأجساد الطاهرة، وتظهر تلك العلاقة واضحة من خلال كثرة تواصل المؤمنين بتلك المشاهد من كافة اصقاع العالم ولا سيما أهل محافظات الوسط والجنوب العراقي والارتشاف من معينها الذي لا ينضب، اضافة الى ان ذرية الانبياء والاولياء الذين دفنوا في أرض العراق متواجدون في هذا البلد الطيب بنفحات تلك الأضرحة المقدسة، ما ينعكس بالإيجاب على ذراريهم ومن كان بتماس معهم سلوكا وايمانا وطيبا واخلاقا وكرما وشرفا وعزة وشموخا، وهذه نعمة عظيمة ينبغي للمؤمن بشكل عام وابناء الرافدين بشكل خاص ان يشكروا الله تعالى عليها، لأنها سبب نجاتهم وتخلقهم ولو بنسب متفاوتة بأخلاق اصحاب الرسالات السماوية الذين ضحوا الغالي والنفيس من أجل العقيدة والقيم والاخلاق.
عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (يا أهل الكوفة حباكم الله عز وجل بما لم يحب به أحداً، ففضل مصلاكم وهو بيت آدم وبيت نوح وبيت ادريس ومصلى إبراهيم الخليل ومصلى أخي الخضر (عليه السلام) ومصلاي، وإن مسجدكم هذا أحد الأربعة مساجد اختارها الله عز وجل لأهلها…). (بحار الانوار العلامة المجلسي، ج ١۰۰، ص ٣٨٩).
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): (يا أهل الكوفة إنكم من أكرم المسلمين وأقصدهم وأعدلهم سنة وأفضلهم سهماً في الإسلام وأجودهم في العرب مركباً ونصاباً أنتم أشد العرب وداً للنبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته، وإنما جئتكم ثقة بعد الله بكم للذي بذلتم من أنفسكم…). وقال الامام الصادق في مدح اهل العراق:
(واهل كوفة اوتادنا واهل هذا السواد منا ونحن منهم). (بحار الانوار العلامة المجلسي ج57 ، ص 214).
وعن الرضا (عليه السلام) في حديث طويل نقتبس منه موضع الحاجة: (يا أهل الكوفة لقد أعطيتم خيراً كثيراً، وإنكم لممن امتحن الله قلبه للإيمان، مستقلون مقهورون ممتحنون يصب عليكم البلاء صباً، ثم يكشفه كاشف الكرب العظيم…). (موسوعة أحاديث أهل البيت (ع) – الشيخ هادي النجفي – ج ١ – الصفحة ٤٣٤).
وهكذا فان أهل العراق وبالرغم من تكالب الحكومات الظالمة عليه من حكام بني امية وحكام بني العباس وحكام بني عثمان إلى الأنظمة الشمولية المستبدة التي استمرت لأكثر من الف واربعمائة سنة، بالرغم مما لحق بهم من ظلم وتكالب وقهر ونهب للأموال وانتهاك للحرمات وما جرى عليهم من تعذيب وتهجير وزج بالسجون وقتل وابادة وتدمير، ولكنهم بقوا صامدين بوجه كل تلك المظالم والمآثم، متعلقة قلوبهم بهدي تلك الأضرحة المقدسة التي بين ظهرانيهم، مستلهمين منها روح الإيمان، متحلين بالشجاعة ورباطة الجأش والتحدي ازاء كل ظلم يتعرضون اليه، يحدوهم الأمل بالمخلص الأكبر الذي سيظهر في آخر الزمان لكي يملئها قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا.
نعمة وجود العتبات المقدسة بالعراق اذا ما أحسن التعامل معها على الصعيد الديني والرسمي والشعبي يمكن أن يتدفق منها ذلك النبع الصافي لكي يغترف منه المؤمنون عامة وأهل العراق خاصة الماء المعين الرقراق الذي ينبجس من تلك العيون الزاخرة المعطاء التي ترفد زوارها وقاطنيها روح العلم والفضيلة والإباء والشموخ والكرامة، ومن خلال تلك الخصال فإنهم يكونون عصاة على الظلمة رحماء على المظلومين، يتحرون الشرف مثلما تحروه أولئك الثاوون في تلك المضاجع الخالدة، وهي نعمة عظيمة تستحق شكر المنعم عليها لما فيها من مقومات النهوض الحضاري مشفوعا بالنهوض الأخلاقي الذي بات مفقودا في عالمنا المادي المتحضر الذي نعيش في أحلك أيامنا تحت بطشه وجنونه ومهاتراته الرخيصة.