من أكثر الأمور خطورة على البلدان هي تفشي البطالة لدى شريحة الشباب ، فتعطيل طاقاتهم تعد خسارة اقتصادية مؤكدة لأن أعمارهم وقواهم الجسمانية تقع ضمن أكثر السكان قدرة على الإنتاج وتحقيق المنافع للبلاد ، وتعطيل طاقات الشباب لا يدخل ضمن الخسائر الاقتصادية فحسب وإنما يتعداه إلى الجوانب الاجتماعية والنفسية ، فرغم تعدد ثقافات الشعوب إلا إن اغلبها تنظر للعاطل عن العمل بنظرة متدنية على انه يشكل عبئا على عائلته وغير مؤهل لتحمل مسؤولية تفوق نفسه كالزواج أو الانفصال عن العائلة أو اتخاذ قرارت مستقلة ينطوي عنها قدرا معينا من الإنفاق أو التكاليف ، ومن وجهة نظر العلوم السلوكية فان نسبة معينة من الشباب يكون لديهم قدر معين من الاستعداد لارتكاب المخالفات أو الجنح أو الجرائم سيما بعد ان تغلق في وجوههم أبواب التسهيلات التي تخفف من الضغوط المختلفة عليهم ، لذا فان الدول المتقدمة لديها برامج متعددة لتأهيل العاطلين واحتضانهم ورعايتهم لحين الاستقرار في العمل الذي غالبا ما يكون البلسم الذي يعالج أنواع الجروح التي خلفتها فترة البقاء خارج العمل ، وينعدم ذلك في البلدان النامية مما يرفع نسبة الأخطاء التي يرتكبها العاطلون فوجودهم بلا عمل ومدخولات يعرضهم لمخاطر الانصياع وراء المغريات من باب الفاقة والعوز .
وهذه المشكلة لم تكن غائبة عن تفكير المختصين بهذا الموضوع منذ عقود ، ففي ظل التحسن الذي شهده العراق في إيرادات الموازنة بسبب ارتفاع أسعار النفط تم اللجوء إلى شمول الخريجين بالتعيين المركزي في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي وفي عام 1978 صدرت توجيهات بتعيين أصحاب الاحتياجات الخاصة ( المعوقين ) لكي لا يشكلون عقدة لعوائلهم ، وتحول اغلب الشباب إلى موظفين لكي يكونوا تحت سقف الدولة ويتم تجنب مشاكل وجود العاطلين عن العمل لان الفراغ قد يولد دوافع لاتخاذ سلوكيات معادية للمجتمع والنظام ، وبمرور السنوات أصبحت الوظيفة الحكومية مكروهة لأنها تقيد الحريات ومانعة للمبادرة والإبداع ومردوداتها المالية قليلة قياسا بالقطاع الخاص ، كما ازداد عدد الموظفين بمتواليات عددية وهندسية وتحولوا إلى عبء ثقيل يرهق الموازنة سيما بعد إتباع سياسة الحروب التي حيث شكلت النفقات العسكرية القدر الأكبر لاستنفاذ موارد البلاد ، وازداد الأمر سوءا بعد الحصار الذي فرض على شعب العراق 1990 إذ لم تكفي رواتب الموظفين لتغطية الجوانب المهمة للمعيشة لأنها دون اجر الكفاف ، واضطر العديد منهم للمجازفة بترك العمل او الهجرة خلسة إلى خارج العراق لان الأوامر كانت تقضي بمنع ترك العمل والاستقالة قط .
وبعد احتلال العراق سنة 2003 رفعت شعارات الحرية والديمقراطية وحرية العمل والتنقل والسفر وغيرها من الأمور غير المنتجة في التطبيق ، التي حولت اقتصاد العراق إلى ريعي بالكامل باعتماده على صادرات النفط وإتباع سياسة فتح الحدود لدخول المنتج الأجنبي دون أية قيود لمزاحمة الإنتاج الوطني ، وفي ظل غياب المعايير الموضوعية تمت زيادة الرواتب بشكل غير مسبوق ، الأمر الذي حول الوظيفة العامة إلى أداة للكسب دون بذل جهود تذكر بحيث تحولت الوزارات من طاردة للأفراد إلى جاذبة لهم ، فدخلها مئات الآلاف من تاركي العمل والمستقيلين و( المتضررين ) ثم فتحت أبواب التعيينات بعد أن دخلت التعيينات ضمن اللعب السياسية لأغراض انتخابية ووجها من أوجه الفساد والمحسوبية والمنسوبية وغيرها من العوامل التي أقحمت ملايين الموظفين للوظيفة العامة بمؤهلات دنيا أو بمعزل عنها وفي أحيانا كثيرة خارج الاحتياجات ، وحسب بيانات رسمية فان الرواتب باتت تشكل أكثر من ثلثي الموازنات الاتحادية التشغيلية ، وبسبب الازمات المالية التي دخل بها العراق عند انخفاض أسعار النفط في الأسواق العالمية والدخول في معارك التحرير تم إدراك المشكلة وتمت الدعوة لإيقاف التعيينات وتخفيض الإنفاق و فرض ضرائب ورسوم على رواتب الموظفين .
وان إيقاف التعيينات في بلد أدمن على الوظيفة الحكومية وامتيازاتها من الرواتب والمنافع الأخرى بغطاء شرعي أو بدونه ليست بالمسألة الهينة ، خصوصا وان القطاعات الاقتصادية كالقطاع الخاص أو غيره تعاني شبه توقف لان أدائها غير منتج اقتصاديا لأن المستورد يتم بأسعار منخفضة جدا لا تعادل نصف التكاليف ، والسبب وراء انخفاض الاستيرادات إن الدول المصدرة للعراق تستهدف الحصول على الدولار( في أكثر الأحيان ) حتى وان دفعت صادراتها بدعم حكومي ، كما إن سياسات بيع الدولار في العراق تسهل للمستورد إمكانية الحصول على الدولار دون مساءلته عن التفاصيل ، وقد أدى إيقاف التعيينات ومحدودية فرص العمل في القطاع الخاص للتزاحم على الوظائف فقد تحولت الأجهزة الإدارية الحكومية إلى مستقطب للوظائف بأية وسيلة متاحة حتى وان انطوت على قدر من الفساد أو الانتماء لجهات سياسية من باب الانتفاع وليس الإيمان ، وبسبب هذه الأزمة فقد تحولت طاقات مهمة للشباب لممارسة سياقة سيارات الأجرة وفي ( البسطيات ) ، كما يعمل أصحاب الشهادات والاختصاصات بأعمال هامشية ومذلة في بعض الحالات إذ يلجا إليها البعض مضطرا من باب العوز والبحث عن الرزق المتاح أو ( الحلال ) حيث لا توجد أية برامج لإعانة العاطلين عن العمل .
وقد حاولت حكومة الدكتور حيدر العبادي إيجاد حلولا لمشكلة العاطلين عن العمل لكسب رضا الجمهور ، فقد تمت الاستعانة بمجموعة من الخبراء بهذا الخصوص وقد أقنعوه بان الحلول تكمن في زج العاطلين بمشاريع صغيرة ومتوسطة كونها تنتج الدخل القومي وتحقق إيرادات للشباب ، وحسب اجتماعات وندوات بهذا الخصوص كنا نتابع تفاصيلها عبر وسائل الإعلام ، فقد تم تخصيص 5 تريليون دينار لإقامة المشاريع الصغيرة للشباب أي بما يعادل أكثر من 4 تريليون دولار ، ولكن هذه المشاريع لم يظهر تأثيرها قي تخفيض عدد العاطلين عن العمل حسب إحصاءات وزارة التخطيط أو تصريحات وبيانات وزارة العمل ، كما لم تتبين نتائجها على الناتج المحلي الإجمالي بموجب منشورات وزارة المالية أو البنك المركزي العراقي أو أية جهة معنية بهذا الخصوص ، ومن حق المواطن العراقي الذي تابع اجتماعات ومؤتمرات الاصلاحات الخاصة بتقليل البطالة أن يتساءل أين ذهبت تلك الجهود والأموال التي شغلت بال العديد من المعنيين بها؟! ، سيما العاطلون عن العمل الذين يعملون حاليا ( حمالون لبضائع غسيل الأموال ) أو ( جايجية في مكاتب الأميين ) أو (حراس في مخازن السراق ) بما لا يناسب اختصاصاتهم وتأهيلهم في الدبلوم التقني أو البكالوريوس أو الماجستير أو الدكتوراه .
وحسب المعلومات المتوافرة فان الأموال المخصصة للمشاريع المتوسطة والصغيرة والتي تهدف لتشغيل العاطلين عن العمل لم تصرف بعد ، ولعل التخوف من إهدار تلك الأموال أو إخضاعها للفساد هي من بين أسباب عدم صرفها لحد اليوم ، فرغم إن المشروع مجرب في العديد من الدول وقطعت فيه أشواطا في النجاح إلا أن التحفظات تلف به في بلدنا ، فالخريج لم تتبلور لديه أفكار عملية لإنجاح هذه المشاريع لان حلمه كان ينصب في التعيين بوظيفة حكومية ، كما إن سبل نجاح هذه المشاريع ( الأمن ، الطاقة ، التسويق ) لم تتوفر إلى حد الاطمئنان فقد يتحقق الإنتاج ولكن بتكاليف عالية أو تصاحبه عدم القدرة على التسويق ، ورغم إن بعض التحفظات موضوعية إلا انه كان من الأجدر أن تعطى زمام المبادرة والتنفيذ لهكذا مواضيع لمؤسسات التعليم المهني والتقني والجامعات وليس لرجال الأعمال من المستوردين أو الصناعيين الذين تحولوا إلى تجار ، ولان مشكلة العاطلين قائمة وتتفاقم يوميا ولكون نوايا مجلس الوزراء لا تزال ايجابية بهذا الخصوص ، نرى ضرورة تفعيل حاضنات الأعمال في وزارات ( التربية ، العمل ، التعليم العالي ) ومن خلال مجلس تنسيقي يؤسس لهذا الغرض وهدفه تشجيع ودعم مشاريع العاطلين عن العمل ، بما يحقق الأهداف النبيلة من تخصيص أكثر من 4 مليارات دولار بأبعاد وطنية واقتصادية وسلوكية لتوجيه طاقات الشباب للعمل قبل فوات الوقت ، فالعمل المخطط المبني على أهداف بتوقيتات محددة هو من سيعطي النتائج المرجوة من تشغيل الشباب ، فهم أمل الأمة في الحاضر والمستقبل ومن دون زجهم بأسواق العمل ليحققوا لهم ولبلدهم ما يتمناه الخيرون ، ربما يحول طاقاتهم الإبداعية إلى قنابل موقوتة تضر العباد ( لاسمح الله ) آخذين بعين الاعتبار الأيادي القذرة التي تحمل الحقد للعراق .