أثبت رئيس وزراء العراق السيد حيدر عبادي حضورا متميزا منذ تسلمه الحكومة وابدى جهودا ملموسة للوقوف بوجه الارهاب ومجابهة تنظيم داعش الارهابي، ومراعاة المكونات من السنة والكرد وبقية الأقليات، وحاول بكل جهد تحييد العراق واخراجه من المحاور الاقليمية والصراعات الدولية الحاصلة في المنطقة ومن نفوذ الدول المجاورة خاصة ايران، وكذلك حاول ومارس سياسة عدم التقاطع مع اقليم كردستان بالرغم من المشاكل والازمات الاقتصادية والسياسية والنفطية التي خلقت تحت عنوان الاستقلال الاقتصادي والذي دمر به شرائح كبيرة من الجتمع الكردي مسببة وبتعمد أزمات معيشية وحياتية لاغلب مكونات وشرائح شعبنا الكردي.
واليوم مع طرح بادرة الاستفتاء من قبل القيادة الكردية لنيل الاستقلال ومع تحديد يوم محدد لاجرائها للتصويت بنعم او لا من قبل الشعب، كل هذا الاقليم يعيش في ظل أزمات عديدة سياسية واقتصادية ومالية واجتماعية، ولا يخفى ان قرار الاستفتاء تعرض الى انتقاد من قوى كردستانية وعراقية، وجوبه بالرفض والحذر اقليميا ودوليا.
ولكن على الصعيد العراقي كانت الردود متفهمة وغير متشددة ولم تأتي بتوترات شديدة جديدة بين الحكومتين في بغداد واربيل وبين الاحزاب العراقية والكردستانية، وكان أغلب ردود الافعال محصورا بتفهم قضية حق تقرير مصير الشعب الكردي، ولكن اختيار الوقت والمرجعية القانونية والدستورية للاستفتاء كانت محل اعتراض وتساؤول كبير، بينما ردود افعاال الدول المجاورة كانت قاسية ومبطنة بالتهديد وخاصة من قبل تركيا، بينما الرد العراقي الرسمي كان متفهما لمشاعر الكرد لكن مع التأكيد على ضمان الارضية القانونية والدستورية للقضية والتباحث مع الحكومة الاتحادية لايجاد مخرج متفق عليه لوضع مسألة الاستفتاء في اطارها الصحيح.
ولا يخفى ان القيادة الكردية كانت محظوظة باعلانها قرار اجراء الاستفتاء بوجود السيد العبادي لان لو كان غيره في رئاسة الحكومة الاتحادية لكان بمقدوره ان يؤجج النار ويشعل نفوس الكثيرين للوقوف بوجه قرار الاقليم، ولكن يبدو ان العبادي أبى التصعيد لأسباب عديدة منها مراعاة المشاعر الكردية، وتقديرا للوقفة البطولية للبيشمركة والشرفانان والكاريللا بوجه الارهاب وتنظيم داعش الارهابي، وتفهما للمطلب الكردي بحق تقرير المصير، ولكن مؤكدا بان القضية بحاجة الى مرجعية بنص تشريعي او اتفاق رسمي لوضع الاستفتاء وغاية تحقيق استقلال الاقليم وفق اطار عراقي كردستاني لارساء تفاهم مشترك و وضع أساس للتعامل مع القانون الدولي واللوائح الصادرة من الجمعية العامة للأمم المتحدة.
ومما لا غبار عليه وحسب معايشتي للعراقيين سنة وشيعة وخاصة في بغداد، وجدت ان الأغلبية منهم راضية عن انفصال الاقليم ولكن فقط بمحافظاته الثلاث اربيل والسليمانية ودهوك، وأعتقد ان القيادة الكردية لم تأتي بشي جديد في هذا المجال لان الاغلبية العراقية موافقة على هذا الانفصال الجغراقي لصالح الكرد والعراقيين، ولكن وجدنا ان المشكلة تكمن في تحديد الموقف حول كركوك وحسابها مدينة عربية عراقية، واعتقد ان السبب في ذلك لا تعود للعراقيين وانما للنظام السابق الذي زرع بذور عروبة كركوك في خطاباته وبرامجه وخططه السياسية من خلال التعريب والتبعيث والاعتداء على حقوق المواطنين والمكونات العراقية، ومنها الاستيلاء على الاراضي المشروعة والمملوكة للمجموعات الكردية والاقليات التركماننية والمسيحية في كركوك وفي المناطق المتنازع عليها، وانتزاع الحقوق المدنية والقومية بالقوة والاعتداء على سكان المدينة، والشيء المؤلم ان أجيالا بأعادا كبيرة من العراقيين تربت على هذه الثقافة والايديولوجية العنصربة وترسخت لديها ان كركوك عربية وليست من ضمن الحدود الجغرافية والتاريخية والادارية لكردستان، وبينما الحقيقة انها ليست كذلك وهي متنوعة بقومياتها ومذاهبها مع اغلبية سكانية للكرد فيها.
والمهم في الأمر ولحد الان لم تصدر اي تعليق او تصريح ايجابي من قبل الدول بحق اجراء الاقيلم للاستفاء، وحتى الاتحاد الاوربي يبدو انه رفض العملية ويطالب بالحوار بين اربيل وبغداد، وسفير احدى الدول الكبرى يعلن ان توقيت الاستفاء غير مناسب وعلى الاقليم اجراء اصلاحات لمجايهة الفساد المستشري ومعالجة الازمات الخانقة التي يعيششها الاقليم، ولكن اول تصريح ايجابي بهذا الشأن خرج من رئيس هيئة الاركان المشتركة للقوات الامريكية الجنرال دانفور كما جاء في وكالة كردية، حيث اعلن المسؤول الأمريكي ان الاستفتاء شأن عراقي وهو يخص العبادي والبرزاني للتفاهم بشأنها، وهذه اشارة جيدة بالرغم من ضعفها ويبدو انها تحمل رسالة موجهة الى القيادة الكردية مضمونها التوجه الى بغداد والتباحث مع العبادي والاتفاق معه اذا ارادت نجاح الاستفتاء وبالتالي تحقيق الاستقلال.
وبالرغم من بصيص الامل الوارد في تصريح المسؤول العسكري الأمريكي، ألا ان سفير واشنطن السابق في سوريا يعلن لجريدة الشرق الاوسط، ان الكرد سيدفعون غاليا ثمن ثقتهم بأمريكا وان القوات الأمريكية تستخدمهم فقط لقتال داعش، ولن تستعمل القوة للدفاع عنهم ضد قوات النظام السوري او ايران وتركيا، وقال “ما نفعله مع الكرد غير أخلاقي وخطأ سياسي”، وهذه السطور تذكر الكرد بمجريات
احداث الثورة الكردية في السبعينات ضد نظام البعث الحاكم في بغداد، عندما تم افشالها من قبل وزير الخارجية الاسبق هنري كيسنجر الذي سلم مفاتيح القضية الكردية على طبق من ذهب الى شاه ايران والى صدام حسين وهواري بومدين، ونتج عنه اتفاقية الجزائر المشؤومة التي تسببت ويلات كثيرة ومآسي عديدة على الشعب الكردي، وهذا يعني ان امريكا ليست محل ثقة للكرد اينما كانو في سوريا او العراق او تركيا او ايران.
ولكن بعيدا عن هذا التشاؤوم وضمن السياق الجاري ومن منظور الرسالة الامريكية الموجه يبدو ان ضرورات تحقيق التوافق والتفاهم بهذا الخصوص بين حكومة الاقليم والحكومة الاتحادية وبين السيدين العبادي والبرزاني باتت ضرورة كردستانية وعراقية، ولابد من تحقيقها وفق تفاهم رسمي ضمن اطار اتفاق سياسي يتضمن الية اجراء وتنفيذ الاستفاء وتحديد اسلوب التعامل مع نتائجها وتهيئة خطوات واليات المرحلة الانتقالية والاعداد والتهيوء لاعلان اللاستقلال اذا خرجت الاستفاء بغالبية كلمة (نعم)، والاتفاق على اتفاقية استراتيجية لتحديد العلاقة المستقبلية بين الاقليم المستقل والعراق الجديد لخدمة المصالح المشتركة بين الشعبين العراقي والكردستاني على المدى الطويل.
وهنا لابد من التأكيد ومن جديد على ضرورة قيام القيادة الكردية ومع بدء التفاهم مع السيد العبادي، اتخاذ اجراءات فورية باتجاه اعادة ترتيب البيت الكردي واعادة تفعيل البرلمان، والعمل على تصفير المشاكل وازالة الازمات، والابتعاد عن الانفرادية وتحقيق الرأي الجماعي، وضرورات تأمين بنية تحتية صحية وطبية وغذائية وزراعية واقتصادية للتحوط من الاجراءات المستقبلية التي قد تتخذ ضد الاقليم، ونموذج الحصار المفروض بين ليلة وضحاها على قطر ماثل امامنا.
ولكي تتسم خطوات الاقليم بالوضوح والثقة والتأييد اللازم من السيد العبادي فمن الضروري كما اسلفنا للقيادة الكردية التفاهم معه للوصول الى أرضية مشتركة للتعامل القانوني ومنح الاستفتاء الشرعية المطلوبة التي تمهد الطريق للاقليم بسهولة الحصول على الاعترافات الدولية لكي يكون عضوا في المجتمع الأممي.
ولابد ان نبين ان ضمان التفاهمات المشتركة حول هذه القضية المصيرية بين البرزاني والعبادي وباستشارة ورعاية امريكية خلال الفترة المقبلة والوصول الى اتفاق بين حكومة الاقليم والحكومة الاتحادية تبقى من الضرورات الوطنية لتأمين تفاهم رسمي بين اربيل وبغداد قبل الموعد المحدد للاستفتاء، ولهذا لابد من دفع الطرفين الى تحقيق هذا الاتصال الحيوي لوضع العلاقات المصيرية بين العراق والاقليم في اطارها الصحيح لخدمة المصالح المشتركة بين الشعبين بالحاضر وفي المستقبل.
ولا شك ان البسمات المشتركة بين الشعبين من الشجاعة والكرم والنخوة والانسانية اضافة الى مواجهتهما الباسلة ضد تنظيم داعش الارهابي والقضاء عليها قد رسخا اكثر الصلات المشتركة بينهما، ولكن في عين الوقت فانهما يعانيان من سلطة فاسدة مارقة في ظل نهب اموال عامة بعشرات ومئات المليارات من الدولار، وهنا نأمل في حالة رسوخ الواقع الجديد بروز قوى سياسية جديدة متسمة بالاخلاق والوطنية لمواجهة واقع حال الفساد المارق لدى السلطتين وخاصة سلطة الاقليم، والعمل الجدي على ضمان حقوق المواطنة وحق الشعب وجق الاجيال اللاحقة والعمل الجاد على اعادة الكتل المالية العملاقة العراقية والكردية المنهوبة.
وهنا لابد من البيان يبدو ان العمل مع العبادي مقارنة بغيره من الساسة فيه أمل ولو بصيص لبناء رؤية جديدة مفعمة بالحياة المستقرة والمستقبل الامن في العراق الجديد فيما بعد داعش الارهابي، وفيما بعد التفاهم على استفتاء واستقلال اقليم كردستان، ولهذا لابد على كرد العراق ان يستغلوا الفرصة ويستثمروها وان يرسوا رهانهم على العبادي وان لا يخسروه بأي شكل، وان لم تقدر القيادة الكردية على تحقيق التفاهم معه فان الضرورة التاريخية تحتم على الكرد بعدم السماح لذلك، لان في حالة حصول انقلاب أو تدهور في الظروف الاقليمية المحيطة بالعراق قد تفرز معطيات جديدة لا يقدر الكرد على التعامل معها، لهذا فان فرصة التعامل مع العبادي ضرورة آنية وتاريخية ومصيرية للوصول الى اتفق تاريخي يخدم اقليم كردستان والعراق معا، والله من وراء القصد.