إذا أردنا أن نتحرى الدقة في معرفة الشيعي فإنّ الشيعي الحقيقي لا يرى أعداء أهل البيت : هم أولئک الشخصيات التاريخية التي ماتت وانتهت، لأنّه لا يرى أهل البيت برؤية تاريخية، فبما أن أهل البيت أحياء في قلبه ووجدانه في ما يجسّدونه من فضيلة وإيمان وحركة في العشق لله الخير، فأعداؤهم يقفون في الجانب الآخرى لقوى الخير والفضيلة ويمثّلون جميع قوى الشر والرذيلة التي تقف في طريق حركة الناس في واقع الحياة، فأعداء أهل البيت هم قوى الاستبداد ورموز الحكومات الجائرة وأدوات الاستعمار في العصر الحاضر حيث ينبغي للمؤمن التصدي لها والعمل على محاربتها ومواجهتها من موقع التواصل مع حركة أهل البيت في زمانهم والاستلهام من مواقفهم في هذا المسار، مثلاً إذا كان يزيد بن معاوية عدوّآ للحسين في حياته، أو إذا كان بنو اُمية أعداء أهل البيت في زمانهم فما الفائدة من لعنهم وسبّهم والتبري منهم في واقع الحياة المعاصرة؟ إنّ عدوّ الحق هم الباطل في أي زمان ومكان ولكل زمان مروز للحق والباطل تتحرک في أرض الواقع الاجتماعي، والشيعي الحق هو الذي يستلهم من حركة الإمام علي أو الحسين كيفية التصدي لقوى الظلم والانحراف في عصره لا أن يبتعد عن الواقع ويتوغّل في أعماق التاريخ و ينظر إلى حركة التشيع من خلال الاستغراق في زاوية معتمة تستهلك إيمانه في آفاق الماضي وينتقل من عقدة في الفهم إلى عقدة في السلوك على حساب طبيعة الإيمان والاخلاص للحق والعدالة في قضية الصراع بين الحق والباطل!
إنّ الخواض من الشيعة يعيش الحاضر بكل ما يقتضيه من حركة وتضحية وعمل صالح، والشيعي التقليدي يعيش الماضي بكل ما يزخر به من خصومة ونزاع مذهبي وتعقيدات تاريخية تستهلك جهد العقل في إثبات قضايا تاريخية من أحقية فلان وبطلان فلان دون أن يعود ذلك عليه بمعطيات إيجابية في حركة الواقع بل لمجرّد تكريس الهوية والشعور بالانتماء إلى رموز تاريخية تمثّل الحق في نظره بعيدآ عن الالتزام الحقيقي بالمثل الإنسانية والقيم الأخلاقية.
التشيع التقليدي ينطلق في حركته الإيمانية من موقع تكريس الهوية للفرد والشيعي على أساس انتمائه إلى خط الحق التاريخي ويستمد قوته من الرواسب التاريخية الكامنة في ذهن الشيعي وفي اللاشعور الجمعي، فالحاجة النفسية للهوية والانتماء للجماعة هي الأساس والأصل في السلوك الديني لهذا الشخص، ومعلوم أنّ صياغة الهوية لكلّ إنسان تؤسس على ما يوحيه المجتمع لأفراده من قوالب معينة في دائرة الفكر والعقيدة والثقافة وما إلى ذلك، وعلى ضوء ذلك لا يمثّل هذا النوع من التشيع نتيجة معينة في دائرة الحق والباطل، أي لا يمكن القول بأنّه حق أو باطل، لأنّ الغرض منه اشباع رغبة نفسية في واقع الإنسان تتمثّل في ما يشعر به الفرد من ضرورة الانتماء إلى مذهب يعتقد المجتمع أنّه على حق، وأنّه يوصل الإنسان إلى ساحل الأمن والسلامة في الآخرة لا أنّه واقعآ كذلك، ولهذا يتساوى في هذه الحقيقة جميع العوام في مختلف المذاهب والأديان، فلا يمكن القول بأنّها على حق أو على باطل لأنّ الفرد لم يتحرك باختياره لاعتناق هذا المذهب دون ذاك بل فرض عليه الاعتقاد به من قبل الاسرة والمجتمع في عملية التطبيع الاجتماعي للأفراد، والحق والباطل في العقيدة كالخير والشر في دائرة الأخلاق لا يمكن الحكم عليها بشيء إلّا إذا تحرک الإنسان في عملية البحث عن الحقيقة بحرية واختار مذهبآ معينآ أو قام بعمل أخلاقي معين من موقع الحرية والاختيار، فحينذاك يصدق عليه أنّه حسن أو قبيح لا ما إذا اعتنق عقيدة معينة أو قام بفعل أخلاقي معين من موقع الحبر والإكراه.
أمّا «تشيع الخواص» فينطلق من حاجة روحية في واقع الإنسان لتحقيق العدالة والاجتماعية وطلب الحق في دائرة المعتقد والتحرک في خط الإيمان والمسؤولية في دائرة العمل والسلوك، ومعلوم أنّ هذا اللون من التشيع، الذي يمثّل روح التشيع وذاته الأصيلة، لا يمكن فرضه على الفرد بأدوات الجبر الاجتماعي ولا يمكن أن يتحرک الفرد بهذا الاتجاه بدوافع نفسية وعقل طوباوي وايديولوجية مغلقة وهوية ذاتية، ومن هنا يمكن أن يتصف بالحقانية لأنّه طلب الحق والعدالة والفضيلة في دائرة الفكر والسلوك.
ويتصف كذلك بالتعددية، فكل من يتحرك في هذا الطريق ويهدف إلى إقامة الحق ومحاربة الباطل فهو شيعي من أتباع الإمام علي والحسين حتى وإن كان من أهل السنّة ومن قادة الحركات الإصلاحية في المجتمعات الإسلامية، ولكن هذه الظاهرة، وهي قيام بثورة ضد الحكومات الظالمة قلّما حصلت في التاريخ الإسلامي في أجواء أهل السنّة لأنّهم في الأساس يرون وجوب طاعة أولي الأمر وإن كان ظالمآ، فلهذا كان غالبية الثورات والحركات الإصلاحية في الجانب السياسي يقوم بها الشيعة، فالتشيع هو طلب الحق والعدالة، وبما أنّ الإمام علي يمثّل النموذج الأعلى الذي أفرزه التاريخ الإسلامي في مواجهة أشكال الباطل وقوى الانحراف والشر، فنحن شيعة على هذا الأساس، ولكن بمجرّد أن تتحول هذه الفكرة الإلهيّة إلى هوية وينطلق الإنسان في حركته المعنوية والاجتماعية بوحي الهوية الشيعية وينظر إلى الأمور من موقع الاستغراق في قضايا تاريخية تمثّل هويته الدينية، فإنّه ينسلخ من إنسانيته وينحرف عن طريق الحق ويكون دفاعه عن التشيع دفاعآ عن الذات والهوية الفردية، وحينئذٍ يصاب بالاستلاب حيث يبتعد عن روحه وذاته الأصيلة ويستغرق في الأنا الفردية التي تتوارى خلف أطروحات العقيدة والمذهب فيحسب أنّه على حق : (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعآ) .
الشعار والمضمون!
هناك ميزة أخرى لتشيع العوام، وهي ما يتصل بإقامة الشعائر المذهبية والمناسك الدينية التي تعتبر في جميع الأديان والمذاهب الاطار الخارجي والظاهري في عملية التدين، فعندما يتقمص المذهب لباس الهوية الشخصية لدى العوام فسوف يدفع الفرد باتجاه القشور والظواهر بعيدآ عن جوهر الدين وروحه وهي الإيمان القلبي والحبّ لله وللخير، فترى هذا الشخص ينظر إلى حالة التدين من خلال الاستغراق في الشعائر والمناسك المذهبية من قبيل إقامة المآتم الحسينية والزيارة واللطم والضرب بالسلاسل والتطبير (شج الرأس بالسيف) والاحتفال بالمناسبات الدينية وخاصة بمواليد الأئمّة والمشي على الأقدام من مناطق بعيدة لزيارة المراقد المقدسة وتسمية الأبناء باسماء النبي وأهل بيته وأمثال ذلك بحيث تساهم هذه الأعمال في امتصاص الطاقة الإيمانية لدى الشخص فلا يبقى منها شيء للأخلاق والأعمال الصالحة الأخرى، وتعمل كذلك على تفريغ الإيمان من محتواه الحقيقي فيمارس الشيعي هذه الشعائر من موقعها الذاتي الذي يكرس في واقعه الولاية القشرية والحساسية المذهبية، لا من موقعها الإيماني الذي يحرك فيه المشاعر الصادقة والعواطف الإنسانية عمّا يحقق للإنسان مزيدآ من الشعور بالمسؤولية والرغبة في الخير، فلا تعجب بعد ذلك عندما نرى تفشي حالة التناقض الشديد والازدواجية بين مدّعيات هؤلاء في مجال التمسك بالولاية وحب أهل البيت وبين سلوكياتهم المنحرفة وأخلاقهم السيئه في تعاملهم مع الآخر المخالف لهم في الرأي والعقيدة أو في تعاملهم في السوق والإدارة والمستشفى ومراكز الشرطة وما إلى ذلك حيث لا نجد أثراً لتلك الممارسات الدينية والشعائر المذهبية في واقع الحياة الاجتماعية وكأن الغرض من هذه الشعائر مطوياً في ذاتها وفي ممارستها دون أن تكون وسيلة لتحريك عناصر الخير في وجدان الفرد والتواصل مع أهل البيت في أخلاقهم وإيمانهم وإخلاصهم للإسلام والمسلمين، والحال أنّ جميع الشعائر بما فيها الصلاة والصوم والحج ما إلى ذلك، تعتبر وسيلة لتعميق الشعور بالارتباط بالله وبأهل البيت من أجل أن يتحول واقع الانسان ومحتواه الداخلي تدريجيآ إلى وعي حقيقي بالقيم والمبادىء الأخلاقية فينفتح الإنسان على الفضيلة والعشق للخير في حركة الحياة، والخطأ الأساس في هذه الظاهرة يكمن في تصور العوام أنّ لهذه الأعمال والشعائر ثواب مستقل عن الآثار والنتائج الايجابية التي تخلفها هذه الأعمال على روح الإنسان ونفسه، في حين أنّ الثواب على أنّ الشعائر يرتبط بمقدار تفرزه هذه الشعائر من آثار على روج الإنسان، فالصلاة إنّما تكون لها قيمة واعتبار وثواب فيما إذا أدّت وظيفتها في النهي عن الفحشاء والمنكر: (إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ…) . فإذا لم تؤثر هذا الأثر ولم تحقق هذه النتيجة فلا قيمة لها ولا اعتبار، وهكذا الحال في الشعائر والطقوس الأخرى.
والسبب الآخر في اهتمام العوام بممارسة الطقوس والشعائر وخاصة الشاقة منها كالتطبير وضرب السلاسل والمشي على الأقدام من مسافات بعيدة للزيارة هو الرغبة اللاشعورية للفرد في جبران النقص وتعويض الشعور بالإثم، فالأنا لدى هؤلاء تمارس نوعآ من التغطية على سيئاتها من خلال إلحاق الأذى بالبدن الذي إرتكب الخطيئة ـ كما يقول علماء النفس ـ وهذه الظاهرة شائعة لدى المتدينين من كافة الأديان حيث يتصورون أنّ الثواب يرتبط بالمشقة «أفضل الأعمال أحمزها» والغالب في الطقوس الدينية أنّها تتضمن نوعآ من المشقة البدنية كالصوم والحج والجهاد وأمثال ذلک، ولذلك يشعر هذا الشخص بالراحة النفسية بعد ممارسة هذه الشعائر وكأنّه قد تطهر من الإثم والذنب بعد تحمله هذه المشقة، أو أنّه يستحق بذلك شفاعة الإمام الحسين في الآخرة، في حين أنّ تشيع الخواص يهتم أكثر بالمضمون والمحتوى دون القشرة فلا يتجمد الشيعي الواعي في نطاق هذه الممارسات القشرية بل ينفتح على طبيعة الإيمان بأهل البيت ومتقضياته في الواقع النفساني والاجتماعي ويريد أن يحقق مراد أهل البيت منه في أن يكون إنساناً صالحاً وخيّراً وملتزماً بالقيم الإنسانية الأصيلة، ولهذا السبب لا نرى في مراجع الدين وعلماء الشيعة كثير اهتمام بممارسة هذه الشعائر؛ فلم نر أو نسمع يومآ أنّ العالم الفلاني خرج إلى الشارع وشارك في مواكب التطبير أو ضرب بالسلاسل أو حتى المشي إلى كربلاء أو إلى النجف من مناطق بعيدة للزيارة، وسكوتهم عن ممارسة العوام لهذه الطقوس لا يدلّ على تأييدهم الحقيقي لها ـ كما يدعي كسروي ـ بل بسبب أنّ العوام لا يمتثلون لأوامرهم في هذا المجال، و قد حدث أنّ قام بعض العلماء بالنهي عن بعض هذه الشعائر كالتطبير وضرب بالسلاسل إلّا أنّ العوام وقفوا منهم موقفآ سلبياً جدّاً، وقد حدثني السيد حسن الكشميري أنّه كان في النجف في أيّام عاشوراء وسمع من ساقي الماء للزوار أنّه كان ينادي بأعلى صوته: اشرب الماء وإلعلن محسن الأمين!! وكان السيد الأمين قد اعترض على بعض الممارسات والشعائر الحسينية وأفتى بحرمتها.
وعندما نقول إنّ الخواص يهتمون بالمضمون المعنوي لهذا الشعائر فهذا لا يعني إهمالها أو عدم ممارستها بل تكون ممارستهم لها بطريقة معتدلة ومعقولة كالزيارة في أيّام المناسبات وصلاة ركعتين في المراقد المقدّسة وقراءة بعض الأدعية مع عدم الاستغراق في إمساك الضريح وتقبيله أو تقبيل عتبة الباب في حالة السجود وأمثال ذلك ممّا يشغل اهتمام العوام، وقد رأيت في مشهد أنّ الكثير من الزوار عندما يصلون إلى باب الصحن ينبطحون أرضاً ويسيرون على أيديهم وأرجلهم ويبدأون بالنباح كالكلاب حتى يصلوا إلى الحضرة، ومنهم من يزحف على خده حتى ينسلخ جلد الوجه ويسيل الدم، كل ذلك لإظهار الذلّة والمودّة للإمام!! في حين أنّ الخواص لا يرون مثل هذه السلوكيات مرضية عند الله وعند أهل البيت، بل ورد النهي عنها في الكثير من النصوص : «لا ينبغي لمؤمن أن يذلّ نفسه» .
وما يؤيد ذلك أنّ الأئمّة أنفسهم لم يكونوا يهتمون بهذا الشعائر، فلم يرد في الروايات أنّهم كانوا يقيمون المآتم بمناسبة ذكرى وفاة جدّهم رسول الله أو أميرالمؤمنين أو الزهراء أو يتوجهون لزيارة قبورهم أو يلطمون على صدورهم في ذكرى وفاتهم وأمثال ذلك، كل هذه الأمور لا يمكنها تحريك النفس باتجاه الخير والواقعي وهو أن يكون الإنسان نافعاً وصالحاً وملتزماً بالفضائل والأخلاق الحميدة، وهذا هو المهم لدى المؤمن الحقيقي الذي يضع نصب عينيه ما ورد في الأحاديث الكثيرة أنّ: «خير الناس من نفع الناس» ، و«الناس عيال الله فأحبّهم إلى الله أنفعهم لعياله» ، و«من لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم» ، وغير ذلك .