حيدر عبد الرضا
أن القارىء لقصائد مجموعة ( حياة بكامل أوهامها ) للشاعر الصديق هيثم جبار عباس لربما يلاحظ كيفية وجود الصنعة الأسلوبية الشعرية للقصيدة في تمفصلات و خيارات التصويرية التوصيفية لدى الشاعر وصولا منها الى عوالم مفردية و صورية و ذواتية تقترب من مأساوية و وحشة التأرجح الدلالي بين عوالم ( أنا الشاعر ) و حجم تفاعلية تلك الأصوات الموصوفة في أفق الأجزاء و التواصيف الشيئية المتناثرة في أرجاء صرخة القصيدة :
. . . على الرغم من كل هذا
و الحزن يلوح لي
من بعيد
وثمة ضجر كبير ينتظرني
أن أطرق بابه .
تتكثف الدائرة الفجائعية في مقاطع و محاور قصيدة الشاعر على هيئة برقيات و خواطر ( هستيرية ) خاطفة من شأنها أن تستدرج الخيبات الكبرى في زمن الصورة التي ينتجها (الحزن / الضجر ) و تنطلق هذه الدوال المتاحة في الاتجاهات التي أخذت تتمركز في بؤرة العنونة (حياة بكامل أوهامها ) لتصب لذاتها أختزالية تلك الأسئلة المضافة في مسار تشكيلية ذوات مكتظة بالإحالات التهكمية الضاجة في نموذجها الأستفهامي المكين :
منذ متى و أنا لم أنشر غسيل أفكاري
و ثياب جمجمتي
على حبلك الممدود دون نهاية
فهل يا ترى يعرف أحد بدايته ؟
أحيانا تضيق بالشاعر الدائرة الاستفهامية و ذلك عند اختزاله مسافات الأسئلة و تحديد مساحة الفعل الشعري من أجل التقليل من سخرية الكلام المتاح في النص .. و استظهار ما هو مقبول من خصائص القول الشعري لجعله رؤية قابلة للفهم بوضوح أشد و أقل التباسا .
( أعماق تجربة النص )
من خلال ما تقدم في تجربة قصائد ( حياة بكامل أوهامها ) يتضح ذلك المضمون القصدي الداخلي لدى الشاعر تجاه الناس و العوالم وهو على حد تقديري ذلك الشعور المرتبك تجاه ما يسن من قوانين الأعراف و الدولة و العائلة و الكون .. ولكي يجعل الشاعر لقصيدته ذلك التحقيق الداحض لإجرائية علاقته بالواقع و الأشياء و بما يحتويه شعوره الساخر من جراء عدمية اللاإتفاق بين ذاته و موجودات كونه الاجتماعي . و تبعا لهذا وجدنا الشاعر راح يفرغ بشكل أو بآخر كافة أمكانياته لتهيئة انطباعاته الانفعالية و تحسين رسمها و بثها عبر مواطن من السخرية و التهكم و الاحتجاج والاغتراب و السوداوية :
تقيأتني ارهاصات أبي
أوله سكر
و آخره عبادة .
هكذا وجدنا مقاطع و عنوانات و دلالات قصيدة مجموعة الشاعر هيثم جبار عباس عبارة عن رشاشات انفعالية محفوفة بالذنب و لغة اليأس و الانحراف عن جادة الأصول و الملكة الشعرية الرصينة . في الواقع أن ما قرأناه في مجموعة قصائد الشاعر لا يتعدى حدود المظهريات الشخصية الموغلة في حدود اللحظة الانطباعية المباشرة كما وهناك الإسراف من الشاعر في تصدير بعض من الخصوصيات التي لا حاجة لمثلها في مقام عوالم القصيدة الشعرية . بل أنها محض مظاهر قولية تبتعد تماما عن سمات دينامية الحداثة و الحراك الدلالي و الانفتاح في موضوعة القصيدة النثرية كحال قول الشاعر في هذه المقاطع من قصيدة ( خروج بدون إرادة ) :
أتيت من أحاسيس أم
ملطخة باليأس
أكلت العنوسة ملامح وجهها
و نتيجة خطأ كبير
أقترفه أبي
ولدت أنا .. بلا شبق
و دون شهوة مسبقة ..
بمعنى ما يحاول الشاعر هنا الوصول الى ذلك التصور التهكمي الذي يخضع لتراتبية ساخرة هي في الواقع خارج حدود وساطة المعنى الاعتباري المتكامل من قيمة المقايسة المتخيلة افتراضا .
( إيقاظ التعارض / الواقع / الذات )
ومن البديهي أن ندرك أن تجربة قصائد الشاعر جاءت لتحدث في نطاق ( إيقاظ التعارض ــ الواقع ــ الذات ــ الشاعر ــ الحال ) و التي راحت أخيرا تنشطر فوق لوحة تباينات حالاتية متكاثرة لتستقر في موجهات معطيات الدوال المركزية الدقيقة في النص : ( حياة + أوهام + بياضات + فراغات + مواجع + غيابات ) ولهذه التوفيقية الاحوالية تتبين لنا مقولة اضطرابات قطعية النص و الشاعر مع الواقع و عبر جملة استخفافية عظيمة من حجم معطيات حياته الشاعرية و الانسانية الى جانب ذلك التصير الكوني المخالف لمشروعية وجوده الآدمي :
رأس
مقصلة
دم يصرخ
وجمهور يزغرد .
القصيدة هنا تتقدم بهذه الدوال الكاشفة عن مدى مثولية المشهدية القصدية نحو احتمالية الكينونة الدموية لدى الشعوب ( دم يصرخ / وجمهور يزغرد ) ولا يخفى ما لسيميائية عنوان القصيدة ذاتها ( صور فوتوغرافية للوهم ) من ثنائية رمزية راح يتجلى من خلالها شكلا ما لـ ( الوهم / الفراغ ) وصولا الى العلاقة الاحوالية المريرة مع حدود مجسات ( أنا الشاعر ) المتنصلة بطابعية أبعاد الذات الفجائعية و أهوالها المزاجية :
معلق بمسامير الحياة
لست بميت تقوده الملائكة
و لست بحي شديد الإرادة
ليس إلا خيوط الشمس
تلتف حول عنقي .
أن الارتباطات الذواتية للشاعر مع الأشياء تتضح من خلال النص و كأنها نقطة الالتقاء بين الواقع المرير و مدركات الشاعر الحسية التي راحت تستطرق لذاتها أمكانية تحقيق الواقعة الجمالية الخاصة فيها :
يملؤون الدار سرورا
تقبيلهم بلا ملل
مداعبتهم
مطارحة العشب على الأسرة
أطفالك حدائق في الغرف .
غير أن في النموذج الثاني المقابل في القصيدة نجد الشاعر و مساراته سراعان ما تزول ليحل محلها ذلك الفضاء الفقداني المعتاد في رسم ملامح النص لدى الشاعر :
إلا أن ضحكة الأطفال أوهام
أن لم تكن كذلك
فهل تستطيع الامساك بها …
( تعليق القراءة )
من خلال ما مر من استعراض قصائد مجموعة الشاعر العزيز هيثم جبار عباس في موضوعة هذه القراءة السريعة نستدل رويدا رويدا على حجم المسافات القهرية الحية من حياة حزن الشاعر مع فصول تفارقية و خطية العائلة و القدر و حالات المكان و الزمان و حتى مع صوت الأيمان بالخالق عز وجل ذكره .. فالشاعر تقوده أحيانا قوة انفعالاته و يأسه و قنوطه اللاهث خلف ملذات الدنيا و زخرفها الى وصوله الى نقطة الصفر ثم الى محو وجوده وللأشياء من حوله و العودة بها الى مساحة البياض الكامل أو الانفصال المميت. غير أننا نقول للشاعر الصديق في ختام مقالنا هذا : لاشك في أن الاشارات و العلامات التي اكتظ بها مقام وحالات نصوصك الشعرية ما هي إلا مزاجيات و انفعالات مؤثرة و غير مؤثرة في الوقت نفسه . فليس هناك مطلقا من وجود للتصعيد بالحالات المأساوية الى هذا الحد الذي باتت من خلاله الحياة و كأنها حكاية شعبية عائدة لتلك العجوز المولوله التي لا يشغلها في حياتها سوى جمع تلك التراتيل العزائية و النحيب على الأموات و المفقودين في الحرب . لا يا صديقي الوظيفة الشعرية في النص لا تتطلب من الشاعر جمع حالات البؤس و القهر في صور مأزومة و مكشوفة في القصيدة بل أن القصيدة أوسع و أدهى من أفق هذه الحدود الوجدانية و الإغرائية في طلب و رسم ثقافة وهم الأحزان و وهم الأشياء في أحساسات تقليدية و نمطية باردة .