مثلما يُخفي القبحُ بشاعته بقناعٍ جميلٍ، يتستّرُ الفسادُ خلف شعارات تهفّ وتطمئن لها النفوس. الاعمار، مثلاً، أخفى تحت روعةِ برقعه لصوصاً ومفسدين سلبوا من الوطن ثراءه، ومن المواطن حاضره وفرصته لغد أفضل. وكما لا تتعظ أجهزتنا الأمنيّة من خروقات تُنفّذ بنفس الطريقة والأسلوب، فإنّ الفساد ينخر البلاد والعباد وفق منهج يتكرّرُ كجرحٍ ينزف لا يوقفه ضماد. الإرهابيون والقتلة، مثل اللصوص والفاسدين، يراهنون على غفلتنا وانشغال المتحاصصين بصراع دائم لا ينتهي.
رفعتْ أمانة بغداد، منذ سنوات، شعار “زراعة مليون نخلة في العاصمة”. شعارٌ جعلَ كلّ عاشق متيّم بوطنه يحلّق على جناح الحلم الأروع والأجمل.. حلم امتلاء ساحات وطرق دار السلام بالباسقات من النخيل.. حلم النوم تحت فيء (عمّاتنا) وتذوّق الرطب الجنيّ وإيقاف زحف الصحراء. فعافية أرضِ السوادِ كانت على الدوام مقرونة بغابات نخيله، وقوّته ومنعته من علوّ هاماتها. ولأجل هذا الحلم لم يتوقّف أغلبنا عند الرقم الذي تكلّفه نخلة واحدة، وما كان كثيرون يعرفون من أين تأتي بها الأمانة.
يتراوح سعر كلّ نخلة تشتريها الأمانة، من مقاولين يشترونها بدورهم من أصحاب البساتين، بين مائتي ألف إلى مليوني دينار. وبصرف النظر عن دقّة رقم لم يعلن عنه فبقي أسير التكهنات، فإنّ حجم الكارثة كبير جداً. خلف الشعار البرّاق والهدف النبيل يكمن كابوسٌ مرعبٌ وجريمة مزدوجة.. كابوس لا يختلف بشيء عمن اشترى بماله سلاحاً وضعه طوعاً بيد مَن يتربّص بأحبته.. جريمة أن تفقد البساتين المحيطة بالمدن غناها بالأخضر البهيّ، وتذهبُ الأشجار إلى حتوفها في مقابر العاصمة الجماعيّة!!
لسنوات، كانت الأمانة تأتي بوجبةٍ جديدةٍ تضعها بدلَ أخرى اغتصبَ خضرتَها العطشُ والإهمالُ.. ولسنوات أضحى دأبُ الأمانةِ إفراغَ البساتين من نخيل ستقتله في ساحات وطرق العاصمة. ومع أنّ كلَّ وجبةِ نخلٍ تسوقها الأمانة تنتهي إلى الموت، إلاّ أنها تصرّ بدأبٍ محموم على إعادة التجربة من دون كلل أو ملل.. فلسنوات عجز مهندسو الأمانة عن توفير أسباب الحياة للعمّة الحنون، وفرّط المسؤولون بثمر كان يأتي لو تُركت بترابها.
مثلما تهزّنا دوماً أيّام داميّة تسلب أحبّتنا، نصحو على رؤية جثث عمّاتنا تملأ الدروب. وحيثما نولّي وجوهنا تتعثّرُ أبصارنا بأشلاءِ عزيزٍ أو جثةِ نخلةٍ.
[email protected]