أثبت (بعضٌ) من المثقفين العراقين، خصوصا في أعقاب الغزو الأمريكي وهيمنة الأحزاب الطائفية على مقدرات الوطن، أن لهم قشورا خارجية متحضرة براقة تعجب الناظرين، ولكن تعشش تحت هذه القشور جراثيمُ طائفية ناشطة لا تعلن عن نفسها إلا بزلة لسان، أو بساعة احتقان.
كان (صاحبنا)، موضوعُ هذه المقالة، قد قضى خمسا وثلاثين سنة في أمريكا، ويُصر دائما على تصنيف نفسه لا في خانة المثقفين الحداثيين الليبراليين فقط، بل في معسكر المتشددين منهم في الدفاع عن العلمانية، وتجميل صورتها في أذهان الجاهلين بها، وتفنيد ما يدعيه المتجنون عليها الذين يتقصدون تشويه سمعتها لدى الجماهير العراقية العريضة، ويزعمون بأنها إلحادٌ وحرب على الدين ورجاله أجمعين.
فـ (صاحبنا) درس في أمريكا، وتخرج في جامعة أمريكية عريقة. وعلى مدى اثنين وعشرين عاما ظل يمتهن تدريس الشبيبة الأمريكية تاريخ الديمقراطية في العالم، وتطورالفصل بين الدين والدولة، ومعنى العلمانية وحدودها وقوانينها، ونَشَر أطنانا من البحوث والمقالات والدراسات عن ذلك، قبل تقاعده، وبعده.
والأهم من كل ذلك أنه، بثمن اشتغاله بالعلمانية الأمريكية والتبشير بما توفره من حرية وعدالة لجميع الناس مهما كانت ألوانهم وأجناسهم وأديانهم وطوائفهم واعتقاداتهم، بنى قصره الشامخ في أرقى أحياء العاصمة واشنطن، وركب أفخم السيارات، وارتدي أثمن الملابس، ووفر لأولاده مستوىً من العيش لا يتوفر إلا لأولاد السلاطين.
ثم، ذات يوم، وفي جلسة في مقهى، عرضت محطة تلفزيون عربية أمريكية مشاهد محزنة لأطفال عراقيين صغار شُجت رؤوسُهم، وغطت دماؤهم وجوههم وثيابهم، فسأل أحدُ الحاضرين، بصوت مسموع، متى تنتهي هذه المشاهد المحزنة التي تجعل الأمريكيين يسخرون منا، ويعتقدون بأن الشعب العراقي، كله، ووحده، المتخلفُ الذي يفعل هذا بحق الطفولة؟.
وهنا نهض الأستاذ (العلماني) المتشدد، إياه، بعصبية مفاجئة، مدافعا بحرارة عن تلك الممارسات الطائفية الدخيلة التي رفضها رجال دين كثيرون، ومنهم أئمة من أبناء الطائفة نفسها، فقال،” إنها ليست خطيئة، دعوا هؤلاء الناس يُكفرون عن ذنوبهم مرة كل عام”.
ثم تحول جوابُه الصادم إلى جدل عقيم أصرَّ خلاله على عدم القبول باعتبار الأحزاب الدينية الطائفية العراقية تتعمد تجهيل المواطنين، وتستخدم الشعارات الطائفية لتحقيق مصالحها الحزبية الخاصة، ثم رفض، مداورةً ومراوغة، أيَّ اتهام لإيران بتغذية هذه الطقوس، وتشجيع وكلائها السياسيين العراقيين على الإكثار منها، والمبالغة في ممارستها، إشغال الشارع الشيعي العراقي، خصوصا في المحافظات الجنوبية، عما فيه من فقر وتخلف وحرمان، ثم استهجن القول بأن إيران العراق محتلٌ أجنبي يمارس كل سوءات المحتلين وجبروتهم وابتزازهم وعبثهم بأمن الوطن والمواطن.
وسأل بحماسة، هل الوهابية حركة ديمقراطية لتهاجموا إيران وحدها، وتتهموها بالديكتاتورية الدينية والطائفية والتطرف والتشدد في فرض العقيدة الواحدة على الشعوب؟
أليست هي أصل التطرف الطائفي؟، أليست هي الأم الولادة التي ابتلتنا بجماعة الإخوان المسلمين والقاعدة وداعش وباقي المتشددين الإسلاميين السنة؟ فلماذا تستكون عنها ولا تتحدثون إلا عن إيران؟
والمزعج في حوار من هذا النوع هو أن المطلوب من المثقف العراقي التقدمي ليس المفاضلة بين الوهابية والخمينية، ولا بين ديمقراطية إيران وديمقراطية السعودية، ولكن جوهر المشكلة هي هذه الإشكالية التي تتمثل في هذه الإزدواجية المحزنة والمزاوجة القبيحة بين التبشير بالحداثة والحرية والديمقراطية والعقلانية وبين التعصب الديني الطائفي العنصري، وعدم قدرته على تحرير أعماقه من بقايا الماضي المتخلف المعيب.
ففي المنطق العلماني لا تمكن الإشكالية في المفاضلة بين فكر وفكر، أو عقيدة وعقيدة، بل بحماية المجتمع من قيام أي جماعة تتخذ من الفكر الديني، أو أي فكر آخر، وسيلة لفرض هيمنتها على الدولة، وتهديد أمن مواطنيها، بأية وسيلة، وبالأخص بالعنف وقوة السلاح أو المال، بكليهما.
وأية جماعة دينية أو سياسية تخرج من إطارها الفكري التبشيري وتعمل على فرض عقيدتها بالقوة على المجتمع هي، في المقاييس العلمانية الديمقراطية، جماعاتٌ مخلة بالأمن العام، وتهدد سلام المجتمع، ومن حق الدولة أن تعيدها إلى حدودها المشروعة، وتلزمها بالتقيد بقوانين الدولة المدنية، غير الدينية وغير العسكرية، مع الحفاظ على حريتها الكاملة فيما عدا ذلك.
وعلى هذا فلن يكون عدلا أن يرفض المثقف الحداثي جماعةً تقوم على أساس ديني سلفي، ثم يقبل بجماعة أخرى تقوم هي أيضا على أساس ديني سلفي، وتعمل على فرض فكرها وعقيدتها بقوة سلاح الدولة وأموالها ورجالها.
ومن هنا يصبح واجبُه الأول والأكثر لزوما في أيامنا هذه أن يعترف بطائفية النظام الحاكم في إيران، وسلفيته، ودوره في تحويل إيران، بالقوة والقهر والقمع، إلى دولة طاغية تبطش بمواطنيها في الداخل، من أبناء القوميات والطوائف الأخرى، وأبناء القومية الفارسية نفسها، والطائفة الشيعية الإيرانية والعراقية ذاتها.
ويُنكر صاحبنا المثقف الحداثي أن تكون دولة الولي الفقيه المسؤولةَ الأولى، وتكاد تكون الوحيدة، التي عبثت بأمن المواطن العراقي واللبناني والسوري واليمني والبحريني، وأنشأت ومولت وسلحت مليشيات القتل والخطف والاغتيال والإخفاء ونسف المنازل والمساجد والأسواق الشعبية في دول الجوار، بهدف جعلها مستعمراتٍ ملحقةً بالدولة التي تمهد لعودة المهدي المنتظر.
وبعد الفحص والتدقيق تبين أن صاحبنا موظف بدرجة مستشار في ديوان رئيس حكومة حزب الدعوة السابق نوري المالكي، متقاعد، ومدرج على قائمة المحاربين القدماء. ولله في خلقه شؤون.