أقسى أنواع الوجع والألم هو الشعور بالغربة الذاتية ,وأنت تعيش في وطن صور المآسي من انفجارات تزهق أرواح الأبرياء في الأسواق الشعبية والمولاة وأماكن الترفيه ,لتجد من تحبهم ينتظرهم الموت بقلب بارد دون مراعاة مشاعرنا وذكرياتنا التي عشناها معهم ,الفقر بالإحساس بالهوية ..هوية إنسانيتك التي منها ستنطلق في أقامة حياتك مع المجتمع ,كيف تُعطي وتُقدم وأنت مكبل بقيود وأغلال ؟ مابين مطالب متزايدة تطالبك في كل يوم بأن تبتسم لهذا وتغض النظر عن ذاك وهم في أسفل الدرجات لكن الواقع فرضهم عليك مقادير وأنت لاحول ولاقوة لك إلا الصبر وبدأ الصبر ينفذ ,يرى الباحثون أن عملية تكوين الهوية تختلف من فرد الى فرد، من مجتمع الى مجتمع ومن ثقافة الى ثقافة، فلن تتكوّن هوية متماسكة إلاّ نتيجة تفاعل توافقي للفرد مع ماضيه وجذوره العائلية وخبرات الطفولة في شتّى المجالات من جهة، وبينه وبين تطلّعاته المستقبلية ضمن الفرص المتاحة له والحدود الواقعية لطموحاته الشخصية من جهة أخرى ,فالبحث عن الهوية ليس هو “هروبا˝” من الطفولة ولا الغوص في أحلام مستحيلة المنال انها عملية صحية، مرنة، ديناميكية، يتعرّض خلالها الفرد الى نماذج سلوكية وأخلاقية مختلفة وصولا الى التزامه في نهاية المطاف بمجموعة من القيم والمفاهيم تتكيّف مع تاريخه الشخصي وتقدّم له أرضية صالحة لتحرّكاته المستقبلية,كما أن البحث عن الذات بين زحام الموت والحياة ,كمثل التنقيب عن جوهرة ثمينة في وسط جبل بإبرة وعليك إيجادها ,القيم والمبادئ والثوابت وكل ما يعزز هوية المرء لن نجده في الأسواق يباع ويشترى به ,بحثت كثيراً عن الشراء لم أجد مكان للبيع لهم ,صحيح هنالك من يبيع عناوين وجوده لقاء جلسة لا تتعدى شرب الشاي أو قضاء أمسية ,لأنه لا يمتلك أي عنوان من الأصل يقف عليه ,فما يفعله هو تصرف طبيعي للفراغ القيمي الذي ينخر بداخله ,فنجد هناك من يتسارع للموت في سبيل قضية يؤمن بها تاركاً ورائه حب الدنيا ومفاتنها ,علينا أن نفكر بعمق استراتيجي بأن عندما تكون لدينا قضية هي التي تشكل وجودنا وليس الكركرة وسهر الليالي ,كانوا أنصار معاوية يدافعون ويتقاتلون في سبيله ولم يفرقوا بين الناقة والبعير ,ومن كانوا مع علي يجادلونه ويساجلونه ويتهربون منه وهو يعظهم ويرشدهم لطريق الحق والفضيلة, يقولون لي :عليك تقديم محاضرة عن صناعة هوية المرء وثوابته وكيفية الدفاع الحفاظ عنها في ظل المتغيرات التي تعصف بها ,لم أتردد لكن تحديد المكان هو المشكلة والحاجز من الإلقاء فقد كان سوق (الصفافير) لو أصدحت بصوتي من الصباح ولصباح اليوم التالي لم يسمعوا شيء مما أقوله ,حيث أصوات المطرقات مرتفعة جداً على الحديد والنحاس كمن يغرد خارج السرب ,قدمت طلباً بتغير وجهة المكان لآخر فجاء الجواب بالموافقة ,لكنهم حددوا لي مكان آخر على مزاجهم هو سوق (الميدان ) ,ماذا أقول لهم ؟وهم منشغلون بأرزاقهم في البيع والشراء وليس لديهم وقت حتى لسماع النصيحة والحكمة ,لماذا هذا التقصد في أن يكون الوعظ والإرشاد والتوجيه ببناء الإنسان وتعريفه بحقوقه وواجباته ضمن دائرة هذا الأمكنة ,علماً أن كتاب المحاضرة هو لشريحة النخب ,هناك من يحاول الوصول إلى أعماقه والتصالح معها، من دون أن يلحق ضرراً بالآخرين، باحث ومجتهد يحاول أن يلامس القيم الإنسانية وأن يوازن بين العقل والقلب، إن أخطأ اعترف بذلك وحاول أن يصحح المسار من جديد، من دون أن يدخل دائرة اللوم والعتب أو جلد الذات، أو إسقاطه على الآخرين، وإن أصاب بما أتاه الله من معرفة وعلم وحكمة، تعلم المغزى منه، وعلَّم كل من حوله,هكذا هو الإنسان، يعمل ويجتهد, لينير الله طريقه بالحق والنور، لا يظلم لا يشتم لا يحقد، إنسان متسامح محب ومعطاء، هذا أنموذج من اجتهد ووسع مداركه وأفقه وتأمل بهذا الكون الواسع واتسع قلبه للكل،لكن من يبحث عن منفذ لينجو من حصار البحر وبحثه عن هويته المفقودة! وضياعها من الذات الحقيقية ,والبحث عنها سيكون خاضعاً بذلك للاغتراب في غربة الوطن وفضاءه ,اليدخل دائرة أخرى، دائرة الظهور والفراغ الروحي والوجداني والنفسي،ما يتسبب له في معاناة داخلية مع النفس,فهدير الأمواج يسبق العاصفة، هكذا تأتي همسات العواصف المتصاعدة لتنذرنا بالخطر الآتي من التغيرات المزاجية.أنه ثائر يعيش بين نار الغربة ..ونار البحث عن الهوية .