15 نوفمبر، 2024 10:56 ص
Search
Close this search box.

“رابعة العدوية” البصرية .. من أقطاب الصوفية التي آمنت بالعشق الإلهي

“رابعة العدوية” البصرية .. من أقطاب الصوفية التي آمنت بالعشق الإلهي

كتبت – سماح عادل :

السيدة “رابعة العدوية” لقبت بـ”قديسة الإسلام”.. وهي من أقطاب التصوف العراقي، وكنيتها “أم الخير”، وهي بنت “إسماعيل العدوي”.. ولدت في مدينة البصرة، ويرجح أن يكون مولدها حوالي (100 هـ – 718 م)، وكان أبوها عابد فقير، مات الأب و”رابعة” لم تزل طفلة دون العاشرة، لحقت به الأم وواجهت “رابعة” واخواتها اليتم الكامل، ولم يترك والديها لها إلا قارب ينقل الناس بدراهم معدودة في إحدى أنهار البصرة، وخرجت للعمل مكان أبيها ثم نزل بالبصرة جفاف وقحط وصل إلى حد المجاعة، ثم فرق الزمن بينها وبين أخواتها، وأدت المجاعة إلى انتشار اللصوص وُقطَّاع الطرق، وأحد اللصوص خطف “رابعة” وباعها بستة دراهم لأحد التجار من “آل عتيك” البصرية، وأذاقها التاجر العذاب.

هوية “رابعة”..

لم يتفق الباحثون على تحديد هوية “رابعة”، البعض يرون أن (آل عتيك) هم (بني عدوة)، ولذا تسمى العدوية، ونقل البعض أن اسمها (رابعة) جاء بسبب ولادتها بعد ثلاث بنات، فيما يعتقد آخرون بأن اسم (رابعة) له دلالات رمزية تعبر عن “الوضوح والتوسط” كما في (رابعة النهار)، وأن هذا الاسم له علاقة بـ”حظوة المربع” والأربعة والتربيع والمرابع والربع (الجماعة) التي وردت في الثقافة العراقية، ونجدها صريحة لدى الآشوريين في (أربع أيل) أو (أربيل اليوم)، وهو ما يوحي بدلالات “الاتزان والعدل والوسطية والاستقرار والتكافؤ”، التي تأخذها صفة “المربع الهندسي”، ومازال اسم (رابعة أو ربيعة) تطلق في العراق على النخلة إذا ارتفعت وطالت ولم تنل ثمارها.

التصوف..

اختلفت الآراء كذلك حول طبيعة حياتها.. وقيل أنها عاشت حياتها بلا بيت، وبلا مال، وبلا زواج، غير أنه يبدو أن “رابعة” كانت مولاة، وكانت تعزف “الناي” ثم كانت مغنية، (هذا ما قاله العطار)، وأنها كانت على قدر من الحسن والجمال، أعتقها سيدها بعد ما لمسه من جفاء لديها، وشرود وإنشغال روحاني، فأمر بإعتاقها، وعزاه آخرون إلى أنه سمعها تقول مخاطبة الله: (إلهي أنت تعلم أن قلبي يتمنى طاعتك، ونور عيني في خدمتك، ولو كان الأمر بيدي لما انقطعت لحظة عن مناجاتك، ولكنك تركتني تحت رحمة هذا المخلوق القاسي من عبادك)، وبعد عتقها بدأت “رابعة” بحفظ القرآن والعبادة والتهجد في الليل، وجعلت المساجد دارها واحترفت العزف على “الناي” والأناشيد في حلقات الذكر وساحات المتصوفة، وعزف “الناي” عند المتصوفة ليس نكراً ولا بدعاً، وكانت حينئذ في الرابعة عشر من عمرها، لكنها اشتاقت للدنيا الخلاء والانقطاع عن الناس، فانقطعت وتبتلت.

تقول “دائرة المعارف الإسلامية” (المجلد التاسع – العدد 11 ص 440 ): “إن رابعة أقامت أول أمرها بالصحراء بعد تحررها من الأسر، ثم انتقلت إلى البصرة حيث جمعت حولها كثيراً من المريدين والأصحاب الذين وفدوا عليها لحضور مجلسها، وذكرها لله والاستماع إلى أقوالها، وكان من بينهم مالك بن دينار، والزاهد رباح القيسي، والمحدث سفيان الثوري، والمتصوف شفيق البلخي”.

وفي “دائرة المعارف الإسلامية” ايضاً، أن “رابعة تختلف عن متقدمي الصوفية الذين كانوا مجرد زهاد ونساك، ذلك أنها كانت صوفية بحق، يدفعها حب قوي دفاق، كما كانت في طليعة الصوفية الذين قالوا بالحب الخالص، الحب الذي لا تقيده رغبة سوى حب الله وحده، وكانت طليعتهم أيضاً في جعل الحب مصدراً للإلهام والكشف”. وكانت متواصلة البكاء على فقدان الحبيب الوحيد “الله عز وجل”، فقضت ترغب في الوصال معه، وعاشت ضياء نفس بين عتمة الأنفس، وزيت إيمانها كان يحترق في محرابها ثم زهدت وورعت وجاهدت نفسها وعلمت قصدها ومارسته بسلوكها الإيماني بيقين تام.

امتداد للإرث العراقي..

لا يمكن أخذ ظاهرة (رابعة العدوية) ومذهبها في هذا السياق بعيداً عن الدفق الفكري والحضاري المتراكم في البيئة البصرية العراقية، المليئة بمآثر وفلسفة، يمتد شوطها بين “سومر” حتى “آرام” ثم “الإسلام”.

وترجع الباحثة “نظلة الجبوري” الفكر الصوفي وممارسة الزهد إلى جذوره الرافدية، حيث تذكر بأن التاريخ سجل للإنسان العراقي القديم في بلاد “سومر وبابل وآشور” أول صلة بينه والآلهة والطبيعة في الألف الخامس ق. م. ويبدو ذلك واضحًا في أسطورة الخليقة البابلية السومرية (كلكامش) وعنوانها البابلي (حينما في العلى) ومجازاً تعني (أيام السماء)، ففي هذه الأسطورة بدايات الفكر التأملي الواعي للإنسان القديم في معرفة أصل الوجود والإنسان، والأشياء فصارت من ثم نظرية كونية لاهوتية روحية تنطوي على ايمان راسخ ومبدأ عقائدي ثابت، ونظراً لبعد زمانها عنا، وبعد أن أطلعنا حديثاً على بحوث الحفريات في حضارات العراق القديمة، وكذلك  مؤسس الديانة المانوية (الثنوية)، كل تلك المعطيات تثبت وجود تأثر بـ”ماني البابلي” (277 : 213 م).

حينما مارست “رابعة” العشق بصورة غريبة في الإسلام، وربما لم تكن غريبة في “المانوية” مثلاً، يرجح أن يكون قد بعث أو نضج فيها فكر محلي هو عبارة عن امتداد للعرفانية المتمثلة بالصائبية والزهد الرهباني المسيحي، حيث شكلت شرارته التغيير الجذري الذي أحدثه شعاع الإسلام، ثم أخذ الأمر مداه الوقتي في الإستيعاب والتقمص، فظهرت المحاكاة، وطفح الموروث إلى السطح بعد حين، بما يعرف بـ(الثابت والمتغير) في كنف الثقافة الواحدة، وهكذا نلمس محاكاة وتطابق مع سيرة الداعية (ماني البابلي)، أو لتقريب الصورة نجدها إستنساخ لظاهرة (هند) بنت المنذر ملك الحيرة، التي ترهبت وتبتلت وزهدت نصرانياً، وهكذا فإن (رابعة) لم تبعد عن بيئة “ماني”، وربما من قبله، ثم “هند” من بعده، سوى أن وسيلتها هذه المرة كانت الإسلام، وغاياتها كان صفاء النفس وعودة لنقاء الروح الذي أفتقدته الحياة في مد “الحضارة المادية” وسطوتها، وهكذا يمكن تلمس الأفق النفسي في موضوع “رابعة” حينما تسنى لها نقل ممارسة الزهد إلى الأفق الصوفي الإسلامي.

الزهاد..

ظهرت في “الكوفة” جماعة من أهلها اعتزلوا الناس وأظهروا الندم الشديد بعد مقتل الإمام الحسين (ع)، وسموا أنفسهم بالتوابين أو “البكَّائين”، كما ظهرت طبقة من العباد غلب عليهم جانب التشدد في العبادة والبعد عن المشاركة في مجريات الدولة، مع علمهم وفضلهم والتزامهم بآداب الشريعة، واشتغالهم بالكتاب والسنة تعلماً وتعليماً، كما ظهر فيهم الخوف الشديد من الله تعالى، والإغماء والصقع عند سماع القرآن الكريم مما استدعى الإنكار عليهم من بعض الصحابة وكبار التابعين كـ”أسماء بنت أبي بكر وعبد الله بن الزبير ومحمد بن سيرين” ونحوهم، وبسببهم شاع لقب العباد والزُهاد والُقراء في تلك الفترة.

وبرزت أول طبقة للزهاد في البصرة من أمثال: “إبراهيم بن أدهم، مالك بن دينار، وبشر الحافي وعبد الواحد بن زيد”، ومن ضمنهم “رابعة العدوية”، وطفحت ظاهرة تعذيب النفس بترك الطعام، وتحريم تناول اللحوم، والسياحة في البراري والصحاري، وترك الزواج. يقول “مالك بن دينار”: “لا يبلغ الرجل منزلة الصديقين حتى يترك زوجته كأنها أرملة، ويأوي إلى مزابل الكلاب”، وفي الكوفة أخذ “معضد بن يزيد العجلي” هو وقبيله يروضون أنفسهم على هجر النوم وإقامة الصلاة، حتى سلك سبيلهم مجموعة من زهاد الكوفة، فأخذوا يخرجون إلى الجبال للانقطاع للعبادة، على الرغم من إنكار “أبن مسعود” عليهم في السابق.

روى “الهجوري” في (كشف المحجوب) قال: “جاء أمير البصرة إلى (رابعة) يعودها وقد حمل إليها أموالاً كثيرة وسألها أن تستعين بها على حياتها، فبكت ثم رفعت رأسها إلى السماء وقالت: هو يعلم أني استحي منه أن أسأله الدنيا وهو يملكها فكيف آخذها ممن لم يملكها، وحذرت أمير البصرة أن يعود إلى مثلها”، كانت تنام على حصيرة بالية، وكان موضع الوسادة قطعة من الآجر، وكانت تشرب من إناء مكسور، وتطوي ليلها مسهدة، تصلي لله وتناجيه، قالت “عبدة” خادمتها: “ولما حضرت رابعة الوفاة دعتني، فقالت: يا عبدة.. لا تؤذني بموتي أحدًا، ولفيني في جبتي هذه، قالت فكفّناها في تلك الجبة وخمار صوف كانت تلبسه”.

اختلفت آراء المؤرخين بخصوص حياة (رابعة)، فظهرت أساطير وحكايات عنها وأغلبها من نسج الخيال، ظهرت خلافات بين الشخصيات التي عايشت زمن (رابعة العدوية) أمثال: “رباح بن عمر القيسي، سفيان الثوري، عبد الواحد بن زيد”، ومن هؤلاء المؤرخون “الجاحظ والعطار والمناوي”، العديد منهم والمؤرخون منهم من وقف معها ومنهم من وقف ضدها، فالبعض يراها تبالغ في تصوراتها وخيالها، لأنها اعتبرت أن تشوقها للجنة إنما يشكل خطيئة تقترفها، كما يروي عنها “المناوي”.

وأستهجن أصحاب السلفية أقوال (رابعة العدوية) في الحب والعشق الإلهي للتعبير عن المحبة بين العبد وربه، وأورد محبيها وهم كثر عكس ذلك، ذكر “أبو القاسم القشيري” في الرسالة: أن (رابعة) كانت تقول في مناجاتها: (إلهي تحرق بالنار قلبًا يحبك)، وقال “ابن خلكان” في ترجمتها: إنها كانت من أعيان عصرها، وأخبارها في الصلاح والعبادة مشهورة.

وكان من سمات “رابعة” أنها لا تتعجل الانصراف من وقوفها بين يدي الله، بل تحب طول المقام لما يحيط بها من نفحات وفيوضات ورحمات وطمأنينة، وقال “ابن كثير”: “أثنى عليها أكثر الناس، وتكلم فيها “أبو داود السجستاني”، واتهمها بالزندقة، فلعله بلغه عنها أمر”، وقال ابن كثير أيضًا: “وقد ذكروا لها أحوالاً وأعمالاً صالحة، وصيام نهار وقيام ليل، ورؤيت لها منامات صالحة، فالله أعلم”.

ومن أقوالها في الحب الإلهي: (إلهي أنارت النجوم، ونامت العيون، وغلَّقت الملوك أبوابها، وخلا كل حبيب بحبيبه، وهذا مقامي بين يديك.. إلهي هذا الليل قد أدبر، وهذا النهار قد أسفر، فليت شعري أقبلت منى ليلتي فأهنأ، أم رددتها عليَ فأعزى، فوعزتك هذا دأبي ما أحييتني وأعنتني، وعزتك لو طردتني عن بابك ما برحت عنه لما وقع في قلبي من محبتك).

من شعرها..

راحتي يا إخوتي في خلوتي وحبيبي دائمًا في حضرتي

لم أجد لي عن هواه عوضاً وهواه في البرايا محنتي

حيثما كنت أشاهد حسنه فهو محرابي، إليه قبلتي

إن أمت وجدًا وما ثم رضا وأعنائي في الورى ! وأشقوتي

وقد قالت خادمتها التي لازمتها طوال حياتها، “عبدة بنت أبي شوال”: “كانت لرابعة أحوال شتى، فمرة يغلب عليها الحب، ومرة يغلب عليها اليأس، وتارة يغلب عليها البسط، ومرة يغلب عليها الخوف”.

خرجت “رابعة” من الحياة بعد أن بلغت الثمانين من عمرها، وكانت وفاتها في سنة ( 135 هـ – 751 م)، ذكره “ابن الجوزي” في “شذور العقود”، وهو غير دقيق، وقال غيره سنة ثمانين ومئة أو حتى سنة ( 185 هـ – 801 م) وهو الأرجح، وقبرها يزار، وهو بظاهر “مدينة القدس” من شرقيه على رأس جبل يسمى “الطور”، وقد ذاقت البلاء، لكنها تمتعت بالأنس بالله والفرح بطاعته، وكانت ترى أنه لا راحة للمؤمن إلا بعد الموت على الإيمان، وقد كفنت في جبة من شعر.

  • مصدر المعلومات، في هذا الموضوع، عن مقال “رابعة العدوية البصرية.. قديسة عراقية”، لـ”صبيحة ثويني”، ستوكهولم، في إصدار “ميزوبوتاميا خمسة آلاف عام من الأنوثة العراقية”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة