15 نوفمبر، 2024 10:12 ص
Search
Close this search box.

“نازك الملائكة” .. أسست للشعر الحر نظرياً وكانت من أهم رواده

“نازك الملائكة” .. أسست للشعر الحر نظرياً وكانت من أهم رواده

كتبت – سماح عادل :

اسمها كاملاً “نازك صادق جواد الكاظمي” ولقب “الملائكة” اكتسبته فيما بعد.. إذ أطلقه الشاعر العراقي “عبد الباقي العمري” على العائلة التي تنتمي إليها، ولدت في بغداد في 1923، تخرجت في الثانوية عام 1939، ثم التحقت بدار المعلمين العالية، فرع اللغة العربية، وتخرجت عام 1944، وحصلت على ليسانس الآداب بتقدير الامتياز.

قواعد اللغة باب نظم الشعر.. أول درس لها..

بدأت “نازك” نظم الشعر منذ الطفولة.. لاحظ أبوها وجدها قدرتها على نظم الشعر، وكانوا يلقبونها بـ”شاعرة” حيث كانت قادرة على التقفية، وكانت تملك أذناً حساسة تميز النغم الشعري، وبدأت بنظم الشعر العامي، قبل أن تتم عمر سبع سنوات، وفي سن العاشرة نظمت أول قصيدة باللغة الفصحى، وكانت في قافيتها غلطة نحوية، وعندما قرأها أباها قال لها: “اذهبي أولاً، وتعلمي قواعد النحو.. ثم انظمي الشعر”.. وقام أبوها بتعليمها قواعد النحو بنفسه حين دخلت المتوسطة، وتفوقت فيه.

ساعداها أبواها على التفرغ لكتابة الشعر، والاستعداد لمستقبل أدبي، وفكري، وكانت والدتها تنظم الشعر، وتنشره في الصحف العراقية، باسم السيدة “أم نزار الملائكة” وهو اسمها الأدبي الذي عُرفت به.. وكان أبوها يعمل مدرس نحو في مدرسة ثانوية وكان ذو معرفة واسعة في النحو، واللغة والأدب، وقد كانت له مؤلفات مميزة أهمها موسوعة “دائرة معارف الناس” التي تقع في عشرين مجلداً، عمل على كتابتها طوال حياته، واستعان في تأليفها على مئات المصادر والمراجع، ولم يكن أباها شاعراً، ولكنه كان ينظم الشعر، وله قصائد جيدة، كما نظم “أرجوزة” مكونة من ثلاثة آلاف بيت، وصف فيها رحلة قام بها إلى إيران عام 1955 وقد كان أبيها متواضعاً، ولم يرض أن يسمي نفسه شاعراً، وكان يتصف بسرعة البديهة، والقدرة على الارتجال.

ثورة “رشيد عالي الكيلاني”..

خلال دراستها في دار المعلمين العالية، كانت “نازك” تساهم في حفلات الكلية بإلقاء قصائدها، كما نشرت بعضها في الصحف العراقية، غير أنها تركت ذلك الإنتاج المبكر من القصائد، ولم تدرجه في مجموعاتها الشعرية المطبوعة، لأنها كانت تعتبره شعر الصبا قبل مرحلة النضج.

منذ عام 1941 أصبحت “نازك” تنظم الشعر بشكل غزير ومنظم، وكانت في ذلك الوقت لا تزال طالبة في الكلية، حيث بدأت تنضج روحياً وعاطفياً واجتماعياً خاصة مع مزامنة ذلك مع الثورة القومية التي هزت كيانها وأثرت بها وهي “ثورة رشيد عالي الكيلاني”، حيث تحمست كثيراً ونظمت حولها القصائد المشجعة لها، ولم تنشر منها أي شئ، حيث أنه سرعان ما انتصر الحكم البوليسي في العراق، ونصبت المشانق للثوار.. واستمرت “نازك” وأمها، في نظم القصائد الثائرة سراً.

وفي عام 1947 صدرت لها أول مجموعة شعرية، بعنوان “عاشقة الليل”، وكان الليل يرمز لديها إلى الشعر، والخيال، والأحلام المبهمة، وجمال النجوم، وروعة القمر، وإلتماع نهر دجلة تحت الأضواء، كما كانت تعزف في الليل على آلة “العود” في حديقة منزلها، وكانت تغني في  المساء، حيث مثل الغناء لها موهبة أخرى وكان يسعدها أن تغني منذ طفولتها.

“الكوليرا”.. تفجر الشعر الحر..

نفس العام 1947 انتشر وباء “الكوليرا” في مصر، وتأثرت “نازك” بتلك الحادثة كثيراً خاصة مع ارتفاع عدد الموتى من المرض، ونظمت قصيدة أسمتها “الكوليرا” لكنها وجدت أن الشعر العمودي لم يسعفها في التعبير عن ما يدور في داخلها من حزن وآسى وتعاطف مع الأموات:..

سكن الليل

اصغ، إلى وقع صدى الأنات

في عمق الظلمة، تحت الصمت، على الأموات

ولاحظت أنها تعبر عن إحساسها أجمل تعبير بهذه الأشطر غير المتساوية الطول، بعد أن ثبت لها عجز الشطرين عن التعبير عن مأساة “الكوليرا”:..

الموت، الموت، الموت

تشكوا البشرية تشكو ما يرتكب الموت

انتهت من القصيدة بشكلها الأخير، وذهبت لأختها وقالت لها: “احسان انظري لقد نظمت قصيدة عجيبة الشكل أظنها ستثير ضجة فظيعة”، وتحمست أختها للقصيدة لكن أمها وأباها سخروا منها وقالت لأبيها: “قل ما تشاء، إني واثقة أن قصيدتي هذه ستغير خريطة الشعر العربي”.

ومنذ ذلك الوقت استمرت “نازك” في نظم الشعر الحر، وإن كانت لم تنبذ شعر الشطرين تماماً، كما فعل كثير من الشعراء الذين عاصروها، وقد بدأت في كتابة الشعر الحر في فترة زمنية مقاربة جداً للشاعر “بدر شاكر السياب”، وزميلين لهما هما الشاعران “شاذل طاقه” و”عبد الوهاب البياتي”، وهؤلاء سجلوا في اللوائح بوصفهم رواد الشعر الحديث في العراق.

ليأتي عام 1949، وقد صدرت مجموعتها الشعرية الثانية (شظايا ورماد)، وكتبت في مقدمتها عرضاً موجزاً لنظرية الشكل في شعرها الجديد الذي نشرت منه في المجموعة عشر قصائد، وأثار كتابها ضجة كبيرة في الصحف وبين الأدباء، وكتبت عنه مقالات كثيرة تهاجم هذا الشكل الجديد لنظم الشعر، وانتشر هذا الشكل الجديد بين الشعراء الشباب الذين تبنوه، وأصبح تياراً جديداً في الشعر في “العراق ومصر ولبنان وسوريا”.

خلال عام 1942 بلغ نشاط “نازك الملائكة” الشعري واللغوي، والفني، والأدبي أقصى مداه.. فقد سجلت نفسها طالبة في فرع “العود” بمعهد الفنون الجميلة، ودخلت طالبة في فرع التمثيل، وانتميت إلى صف لدراسة اللغة اللاتينية، وكانت في ذلك الوقت طالبة في السنة الثانية من دار المعلمين العالية، وفي عام 1949 بدأت بدراسة اللغة الفرنسية، في البيت، مع أخيها الذي يصغرها، “نزار”.

وفاة أمها .. حزن يفجر المزيد بداخلها..

عام 1953 مرضت والدتها مرضاً شديداً، وقرر الأطباء ضرورة إجراء عملية جراحية لها في لندن، ولم يكن في بيتها من يستطيع السفر معها إلى انكلترا سوا “نازك”، بسبب معرفتها للندن، وحياتها فيها فترة، وبسبب إتقانها للغة الانكليزية، وسافرت بها، وتم إدخالها إلى غرفة العمليات، وماتت والدتها، وعادت إلى العراق بعد أسبوعين ذابلة حزينة، ونظمت بعد وفاة أمها، قصيدة “ثلاث مراث لأمي” استعملت فيها أسلوباً جديداً في الرثاء، لم يسبقها إليه أحد، اشتهرت قصيدتها هذه، واستقبلها الشعراء بإعجاب شديد.

ثم صدرت مجموعتها الشعرية الثالثة في بيروت عام 1957 بعنوان (قرارة الموجة)، وقد احتوت على منتخبات من شعرها بعد (شظايا ورماد)، ونشرتها دار الآداب ببيروت، في نفس العام 1957 عينت معيدة في كلية التربية ببغداد وكانت تدرس “النقد الأدبي، العروض”، وفي عام 1959 حصلت على شهادة ماجستير في الأدب المقارن من جامعة “ويسكونسن – ماديسون” في أميركا، وعام 1960 تعرفت إلى زميل جديد في قسم اللغة العربية هو الدكتور “عبد الهادي محبوبة”، خريج جامعة القاهرة، وفي منتصف عام 1961 تزوجت منه.

عام 1962 صدر لها أول كتاب في النقد الأدبي هو (قضايا الشعر المعاصر)، درست فيه الشعر الحر دراسة مفصلة، ووضعت له عروضاً كاملاً اعتماداً على معرفتها للعروض، وعلى قوة سمعها الشعري، ومهارتها في النظم، وعلى كثرة قراءتها لشعر الزملاء والمعاصرين لها من الشعراء.

سافرت مع زوجها للعمل، عام 1964، في تأسيس جامعة البصرة حيث كان الدكتور “عبد الهادي” رئيساً للجامعة، وكانت تعمل هي في التدريس بقسم اللغة العربية، ثم انتخبت رئيسة للقسم واستمر عملها هناك لمدة أربع سنوات، وغادرت البصرة إلى بغداد أواخر عام 1968 حيث عادت إلى التدريس في كلية التربية سنة واحدة، غادرت بعدها إلى الكويت للتدريس في جامعتها.

وفي أول عام 1978 صدرت لها مجموعة شعرية رابعة عنوانها (شجرة القمر) تطور فيها شعرها تطوراً واضحاً عما كان عليه في المرحلة السابقة، مرحلة (قرارة الموجة) التي كانت خلالها تميل إلى الفلسفة، والفكر في شعرها، ونثرهاً.

وفي عام 1970 صدرت مطولتها الشعرية (مأساة الحياة وأغنية للإنسان) عن دار العودة ببيروت.

عاشت “نازك الملائكة” في القاهرة منذ 1990، في عزلة اختيارية، وتوفيت بها في 20 حزيران/يونيو 2007 عن عمر 83 عاماً ودفنت في مقبرة خاصة للعائلة غرب القاهرة.

وحصلت “نازك” على جائزة البابطين عام 1996، كما أقامت دار الأوبرا المصرية يوم 26 أيار/مايو 1999 احتفالاً لتكريمها بمناسبة مرور نصف قرن على انطلاقة الشعر الحر في الوطن العربي، والذي لم تحضره بسبب المرض وحضر عوضاً عنها زوجها الدكتور “عبد الهادي محبوبة”، ولها ابن واحد هو “البراق عبد الهادي محبوبة”.

مجموعاتها الشعرية..

–        “عاشقة الليل” 1947, نشر في بغداد.

–        “شظايا الرماد” 1949.

–        “قرارة الموجة” 1957.

–        “شجرة القمر” 1968.

–        “ويغير ألوانه البحر” 1970.

–        “مأساة الحياة واغنية للإنسان” 1977.

–        “الصلاة والثورة” 1978.

كتبها النثرية..

–        “قضايا الشعر المعاصر”: وهو الكتاب الذي أرسى قواعد الشعر الحر, وتناولت فيه أيضاً الأدلة القاطعة على أن أوزان الشعر الحر هي أوزان “الخليل الفراهيدي”.

–        “سيكولوجية الشعر ومقالات أخرى”.

–        “الصومعة والشرفة الحمراء”.

–        “التجزيئية في المجتمع العربي”.

–        “الشمس التي وراء القمة”، مجموعة قصصية.

وللشاعر العراقي “فالح الحجية” دراسة مستفيضة عنها في كتابه “موجز الشعر العربي”.

قصيدة: (أنا)

نازك الملائكة

الليلُ يسألُ من أنا

أنا سرُّهُ القلقُ العميقُ الأسودُ

أنا صمتُهُ المتمرِّدُ

قنّعتُ كنهي بالسكونْ

ولفقتُ قلبي بالظنونْ

وبقيتُ ساهمةً هنا

أرنو وتسألني القرونْ

أنا من أكون?

والريحُ تسأل من أنا

أنا روحُها الحيران أنكرني الزمانْ

أنا مثلها في لا مكان

نبقى نسيرُ ولا انتهاءْ

نبقى نمرُّ ولا بقاءْ

فإذا بلغنا المُنْحَنى

خلناهُ خاتمةَ الشقاءْ

فإِذا فضاءْ!

والدهرُ يسألُ من أنا

أنا مثلهُ جبّارةٌ أطوي عُصورْ

وأعودُ أمنحُها النشورْ

أنا أخلقُ الماضي البعيدْ

من فتنةِ الأمل الرغيدْ

وأعودُ أدفنُهُ أنا

لأصوغَ لي أمسًا جديدْ

غَدُهُ جليد

والذاتُ تسألُ من أنا

أنا مثلها حيرَى أحدّقُ في ظلام

لا شيءَ يمنحُني السلامْ

أبقى أسائلُ والجوابْ

سيظَل يحجُبُه سراب

وأظلّ أحسبُهُ دنا

فإذا وصلتُ إليه ذابْ

وخبا وغابْ

***

مرثية يوم تافه

نازك الملائكة

لاحتِ الظلمةُ في الأفْق السحيقِ

وانتهى اليومُ الغريبُ

ومضت أصداؤه نحو كهوفِ الذكرياتِ

وغدًا تمضي كما كانت حياتي

شفةٌ ظمأى وكوبُ

عكست أعماقُهُ لونَ الرحيقِ

وإِذا ما لمستْهُ شفتايا

لم تجدْ من لذّةِ الذكرى بقايا

لم تجد حتى بقايا

انتهى اليومُ الغريبُ

انتهى وانتحبتْ حتى الذنوبُ

وبكتْ حتى حماقاتي التي سمّيتُها

ذكرياتي

انتهى لم يبقَ في كفّيّ منه

غيرُ ذكرى نَغَم يصرُخُ في أعماق ذاتي

راثيًا كفّي التي أفرغتُها

من حياتي, وادّكاراتي, ويومٍ من شبابي

ضاعَ في وادي السرابِ

في الضباب

كان يومًا من حياتي

ضائعًا ألقيتُهُ دون اضطرابِ

فوق أشلاء شبابي

عند تلِّ الذكرياتِ

***

فوق آلافٍ من الساعاتِ تاهت في الضَّبابِ

في مَتاهاتِ الليالي الغابراتِ

كان يومًا تافهًا. كان غريبًا

أن تَدُقَّ الساعةُ الكَسْلى وتُحصي لَحظاتي

إنه لم يكُ يومًا من حياتي

إنه قد كان تحقيقًا رهيبا

لبقايا لعنةِ الذكرى التي مزقتُها

هي والكأسُ التي حطّمتها

عند قبرِ الأمل الميِّتِ, خلفَ السنواتِ,

خلف ذاتي

كان يومًا تافهًا.. حتى المساءِ

مرت الساعاتُ في شِبْهِ بكاءِ

كلُّها حتى المساءِ

عندما أيقظَ سمعي صوتُهُ

صوتُهُ الحُلْوُ الذي ضيّعتُه

عندما أحدقتِ الظلمةُ بالأفْقِ الرهيبِ

وأمّحتْ حتى بقايا ألمي, حتى ذنوبي

وأمحى صوتُ حبيبي

حملت أصداءه كفُّ الغروبِ

لمكانٍ غابَ عن أعينِ قلبي

غابَ لم تبقَ سوى الذكرى وحبّي

وصدى يومٍ غريبِ

كشحوبي

عبثًا أضرَعُ أن يُرجِعَ لي صوتَ حبيبي.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة