15 نوفمبر، 2024 7:17 ص
Search
Close this search box.

من القاعدة إلى داعش :الحرب على تمويل الإرهاب (2-2)

من القاعدة إلى داعش :الحرب على تمويل الإرهاب (2-2)

إعداد/ إبراهيم نوار

من القاعدة إلى داعش
أشرنا في الجزء الأول من هذه الدراسة إلى حقيقة أن الأسلحة المستخدمة في تنفسذ العمليات الإرهابية قد تغيرت وتغيرت كذلك أساليب تنفيذ هذه العمليات. وتضمنت التغيرات التي وقعت حتى الآن اتساع نطاق التحول إلى استخدام آلات وأدوات تستخدم في الحياة اليومية ومنها السيارات والشاحنات وأدوات المطبخ. وقد جاءت العملية الإرهابية التي وقعت في لندن قرب بوابات مبنى البرلمان في 22 مارس 2017 لتؤكد اتساع نطاق حوادث الدهس بالشاحنات والسيارات والطعن بالأسلحة الحادة كأسلوب لممارسة الإرهاب. وكانت أهم الحوادث الماثلة في الفترة الأخيرة حادث الدهس في برلين (ديسمبر 2016) والذي راح ضحيته 12 قتيلا، وحادث الدهس في مدينة نيس الفرنسية (يوليو 2016) والذي راح ضحيته 86 قتيلاً. وبطبيعة الحال فإن مثل هذه الأدوات والأساليب الجديدة لا تحتاج إلى الكثير من المال والتنظيم، فهي تعتمد على الدافع الفردي وعلى التوجيه من بعد عن طريق استخدام شبكة المعلومات الدولية ووسائط التواصل الإجتماعي. ومع ذلك فإن هذا التحول يعني أن عمليات مكافحة الإرهاب مالياً نجحت إلى حد كبير في منع وقوع الأحداث الإرهابية الكبيرة على نطاق واسع، وأجبرت الجماعات الإرهابية على ابتكار أساليب جديدة لا تحتاج إلى تمويل كبير أو إلى المرور مالياً عبر الأجهزة المصرفية الرسمية.

وبسبب النجاح الذي حققته حتى الآن جهود محاصرة الإرهاب مالياً على مستوى العالم، وعلى الرغم من بعض الثغرات التي ما تزال تمر من خلالها عمليات تمويل للمنظمات الإرهابية وأنشطتها المختلفة، فإن الجماعات الإرهابية بشكل عام وجدت ملاذها الآمن في اللجوء إلى نفق العلاقات السرية مع جماعات وعصابات الجريمة المنظمة التي تمارس أنشطتها في مجالات مثل تهريب وتجارة المخدرات وتجارة الجنس وتهريب البشر.

وقد رصد تقرير أصدره الكونجرس الأمريكي في أواخر ديسمبر الماضي بعض أشكال وقنوات العلاقات السرية بين التنظيمات الإرهابية التي تهدد الأمن العالمي وبين عصابات عالم الجريمة السري خصوصا عصابات تجارة المخدرات في أمريكا اللاتينية. وقد تضمن التقرير المعنون:

STOPPING TERROR FINANCE: SECURING THE U.S. FINANCIAL SECTOR REPORT PREPARED BY THE STAFF OF THE TASK FORCE TO INVESTIGATE TERRORISM FINANCING, COMMITTEE ON FINANCIAL SERVICES, U.S. HOUSE OF REPRESENTATIVES

114TH CONGRESS, SECOND SESSION DECEMBER 20, 2016

شهادات ووثائق تعزز الإستنتاجات الخطيرة التي توصل إليها. وسوف نعتمد في هذا الجزء من الدراسة على تقرير الكونجرس الأمريكي المشار إليه، وكذلك على عدد آخر من الدرسات والبحوث العميقة التي تعالج موضوع الرقابة على تمويل الإرهاب على المستوى العالمي. ويجب أن نشير هنا مرة أخرى إلى أن التنسيق العالمي في موضوع فرض الرقابة على تمويل المنظمات الإرهابية وأنشطتها يقوم على أساس قرارات أصدرها مجلس الأمن الدولي، ويتم من خلال لجان للتنسيق على المستوى العالمي تشارك فيها الدول المتقدمة والنامية على السواء. وطبقا للقرارات الدولية فإن تمويل الإرهاب يمثل شكلا من أشكال الجريمة المالية فيه يقوم شخص أو جماعة أو هيئة بجمع أموال وتقديمها إلى آخرين بقصد استخدامها في أعمال إرهابية أو لمساندة تنظيمات إرهابية.

وتتضمن الحرب على الإرهاب مراقبة وتتبع عمليات التمويل عبر الحدود وفي داخل المناطق التي تخضع لسيطرة الجماعات الإرهابية، ودراسة أنماط التحويلات والإستخدامات لمصادر التمويل المختلفة. وعلى الرغم من أن تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام يمثل حالة خاصة أكثر تطورا وتعقيدا من حيث بنية التنظيم وشبكات التمويل بسبب سيطرة التنظيم (في أوج قوته وانتشاره) على مساحات واسعة في كل من العراق وسورية، إلا أن الجماعات الإرهابية التي تمكنت من بناء قاعدة مساندة سياسية وشعبية أو حتى على أساس الخوف في بلدان مختلفة مثل لبنان واليمن، تمتعت هي الأخرى بمزايا تقترب كثيرا من التي ميزت تنظيم الدولة الإسلامية من حيث وجود شبكة محلية للتمويل تحميها قوة نفوذ تلك الجماعات خصوصا على مستوى العائلات والقبائل.

على سبيل المثال، فإن تنظيم حزب الله في لبنان يدير شبكات من المرافق والخدمات والإستثمارات في داخل لبنان، سواء في الجنوب أو في العاصمة بيروت، تساعد على توفير التمويل المحلي عبر قناة ليس من السهل إخضاعها للرقابة. كذلك الحال في اليمن حيث تتمتع القاعدة وتنظيمها الفرعي لبلاد الجزيرة العربية بنفوذ محلي قوي في أوساط القبائل، يساعدهم عند الحد الأدني على توفير تمويل محلي عبر التبرعات والصدقات التي يتم جمعها في المساجد وعن طريق التحكم في أموال الزكاة. كما تستخدم حركة الشباب في الصومال نفوذها في مناطق تخضع تقريبا لسيطرتها شبكات للتمويل المحلي بقصد تجنب الوقوع في مصيدة الرقابة على التحويلات المالية من الخارج. وينطبق الأمر نفسه على حركة حماس التي حولت قطاع غزة بأكمله إلى مستوطنة تعمل لتمويل أنشطة الحركة وقيادداتها بشكل عام. كذلك يتمتع تنظيم القاعدة في جزيرة العرب المتمركز في جنوب اليمن بنفوذ واسع في مناطق تمتد من شرق عدن إلى حضرموت، بما في ذلك ميناء المكلا ثالث أكبر موانئ اليمن. ويدير التنظيم في المناطق التي يسيطر عليها شبكة واسعة من الأنشطة والخدمات، ويقوم بتحصيل رسوم وأتاوات تساهم بالنسبة الأعظم من تمويل التنظيم الذي يتعرض حاليا لموجة جديدة من الغارات الأمريكية.

ويمكن تقسيم قنوات التمويل للجماعات الإرهابية بشكل عام إلى قنوات محلية وقنوات خارجية. وتقدم تجربة داعش في العراق وسورية النموذج الأعلى لشبكات تمويل التنظيمات الإرهابية، سواء المحلية منها أو العابرة للحدود، بما في ذلك التمويل القادم من حكومات أو جمعيات أو أفراد. ومع ذلك لا يجب أيضاً إغفال أهمية العون المادي غير المالي الذي تتلقاه الجماعات الإرهابية من الخارج سواء في صورة أسلحة ومؤن عسكرية أو في صورة أدوية وأغذية ومؤن متنوعة والتي يأتي بعضها تحت غطاء مساعدات إنسانية قد تقدمها جمعيات خيرية أو حتى منظمات دولية ومنها الأمم المتحدة.

وقد لاحظنا أكثر من مرة أن عمليات الإسقاط الجوي لمساعدات ومواد إغاثة إنسانية في سورية والعراق أن هذه المساعدات سقطت في أيدي الجماعات الإرهابية، وليس في أيدي السكان المدنيين. وقد ساعد حصار مصادر التمويل العابر للحدود، ومطاردة التحويلات الرسمية إلى تقليل العمليات الإرهابية واسعة النطاق، لكن الجماعات الإرهابية تحاول التغلب على ذلك بأسلوب جديد أكثر مرونة يعتمد على ما يطلق عليه “الذئاب المنفردة” التي تستخدم وسائل تسليح بدائية أو تتفنن في استخدام أجهزة وأدوات ثنائية الإستعمال كأسلحة لتنفيذ عمليات لترويع السكان الآمنين، ومثال ذلك استخدام سكاكين المطبخ أو البلط أو الفؤوس أو الشاحنات.

لكن تكتيك الإعتماد على “الذئاب المنفردة” الذي يوظف أفراد لا علاقة لهم ببعضهم البعض، وإنما يتم إعدادهم وتدريبهم عن بعد عن طريق شبكات التواصل الإجتماعي، يمثل التطور العكسي للإعتماد على مجموعات كبيرة وصلت إلى ما يمكن وصفه بالجيش المنظم في حالة داعش في سورية والعراق.

صعود داعش.. هل هو بداية السقوط؟

وتقدم تجربة داعش الحد الأقصى لما يمكن أن تطمح إلى تحقيقه جماعة إرهابية، وهو أن تقيم دولة على مساحة من الأرض ويخضع لها السكان الذين يعيشون في هذه الأرض. لكن تحول المنظمة الإرهابية إلى دولة يحمل في طياته تحدي نهاية المنظمة الإرهابية نفسها التي تقوم أساساً على شبكة من الأفراد والمجموعات المتحركة دائما، والتي تعتمد في قوتها على عدم وجود مكان لها يمكن مهاجمتها فيه وتصفيتها. وتشير دروس حروب العصابات سواء في المدن أو الأرياف أو المناطق الجبلية منذ تجربة حرب فيتنام (مع الإختلاف الشديد بين طبيعة وأهداف حرب الشعب وبين حروب العصابات الإرهابية) حتى الآن إلى أن لجوء التشكيلات القتالية غير الحكومية لا تلبث أن تضعف بمجرد أن تتخذ مواقع دفاعية، لأن ذلك يكلفها الكثير من المال والرجال والعتاد. ولذلك فإن توسع تنظيم الدولة الإسلامية وسيطرة على مساحات كبيرة في سورية والعراق وإعلان إقامة دولة الخلافة الإسلامية يمثل نقطة الذروة في حياة التنظيم، ونقطة الهبوط والإنهيار في الوقت نفسه على الرغم من أن هذا التوسع أتاح لتنظيم الدولة الإسلامية موارد لم تتح لغيره من التنظيمات الإرهابية.

وقبل بداية عمليات الموصل الأخيرة قدرت إدارة مكافحة تمويل الإرهاب في وزارة الخزانة الأمريكية أن عائدات داعش من تصدير النفط والتي كانت تبلغ نحو 500 مليون دولار سنويا بين عامي 2014 و2015 إنخفضت بصورة كبيرة في العام 2016 لتبلغ نحو نصف ما كانت عليه في السابق. ويتم تصدير نفط داعش أساساً بصورة غير شرعية عبر تركيا.

وفي مارس 2016 بعثت الحكومة الروسية بخطاب إلى رئيس مجلس الأمن تضمن تفصيلا لعمليات تجارة الآثار التي تقوم بها الجماعات الإرهابية في سورية والعراق، وقدرت روسيا إيرادات داعش وغيرها من المنظمات الإسلامية المتطرفة من تجارة الآثار والمقتنيات الفنية بما يترواح بين 150 مليونا إلى 200 مليون دولار سنويا. وكانت الحكومة العراقية قد قدرت قيمة تجارة الآثار والمقتنيات الفنية المسروقة من الموصل وأماكن أخرى في العراق بنحو 100 مليون دولار سنويا. ومن المعروف أن الولايات المتحدة تمثل أكبر سوق في العالم للقطع الأثرية والمقتنيات الفنية (43% من السوق العالمي)، ومن ثم فإن هيئات الرقابة على عمليات تمويل الإرهاب يعتقدون إن معظم القطع الأثرية المسروقة من تدمر والموصل وغيرهما ينتهي مسارها إلى الولايات المتحدة. وبعد خسارة التنظيم لمدينة تدمر الأثرية فإنه فقد أحد أهم المصادر التي كان يحصل منها على القطع الأثرية التي تباع بعد ذلك في السوق العالمي.

وتتفق تقارير مراقبة تمويل داعش على حقيقة أن تأسيس دولة بما لكل ذلك من تداعيات دفاعية ومالية وإدارية قد أدى إلى تراجع إيرادات داعش بسبب خسارة أماكن أو موارد لعجزها عن الإحتفاظ بها. ويقدر المركز الدولي لدراسة التطرف والعنف السياسي (ICSR) أن الإيرادات السنوية لتنظيم الدولة الإسلامية والتي بلغت ذروتها بالسيطرة على الموصل في صيف عام 2014 لم تلبث أن تراجعت في العامين التاليين؛ فقد هبطت من ذروة بلغت 1.9 مليار دولار في العام 2014 إلى نحو 870 مليون دولار فقط في العام 2016، أي نصف ما كانت عليه تقريبا. وقد ترافق الهبوط في الإيرادات مع خسارة مناطق كان يسيطر عليها التنظيم. ويقدر احد مراكز الدراسات العسكرية والحركات الإرهابية (IHS Markit) أن تنظيم الدولة الإسلامية خسر في العام 2015 ما يقرب من 15% من المساحة التي كان يسيطر عليها، ولم تتوقف خسارته في العام التالي إذ خسر في العام 2016 نحو 23% من المساحة التي كان يسيطر عليها.

وتؤدي الخسائر إلى إضعاف الروح القتالية للأفراد المنتمين إلى التنظيم، كما تؤدي إلى تدهور الموارد المتاحة للإنفاق على التنظيم، بما في ذلك التعويضات والمعاشات التي ترسل إلى أسر القتلى أو الأسرى أو المفقودين.

وتقدر وزارة الخزانة الأمريكية أن إيرادات داعش من الضرائب والرسوم تبلغ نحو 360 مليون دولار سنويا. وبسبب فقدان مساحات من المناطق التي يسيطر عليها التنظيم، فإنه يفقد الموارد من الضرائب والرسوم والأتاوات التي كان يتم تحصيلها من هذه المناطق. وتقدر الخزانة الأمريكية أيضاً أن التنظيم لم يتمكن من تدبير موارد إضافية تعوضه عن خسائر إيرادات المناطق التي تنسحب منها قواته. وتبلغ إيرادات داعش من تبرعات الأفراد والجمعيات الخيرية الإسلامية ما يعادل 3% فقط من إيراداته الإجمالية، ولذلك فإنه مهما زادت قيمة التحويلات التي يتلقاها من الخارج، فإن هذه التحويلات لا تعوضه عن الخسائر المالية المحلية.

بوكو حرام

أنشأت منظمة بوكو حرام في نيجيريا وعبر الحدود مع الدول المجاورة شبكة من الناقلين الأفراد الذين يقومون بنقل الأموال المحصلة من أعمال جمع التبرعات والضرائب والأتاوات وغيرها، إلى قيادة التنظيم. فنقل الأموال يتم نقداً بواسطة شبكة من الأفراد المتخصصين في عمليات النقل التي تتضمن في الوقت نفسه تأمين الشحنات المالية الثمينة المنقولة عبر الحدود وفي داخل نيجيريا نفسها، من قرية إلى قرية ومن مدينة إلى مدينة.

وتقدر وزارة الخزانة الأمريكية إيرادات بوكو حرام بنحو 10 ملايين دولار سنوياً. وتأتي معظم هذه الإيرادات من أعمال خطف أجانب أو محليين أثرياء واحتجازهم حتى يتم دفع الفدية المطلوبة ثم إطلاق سراحهم بعد ذلك. وفي إحدى هذه العمليات إختطفت بوكو حرام رجل أعمال نيجيري، وتم إطلاق سراحة بعد دفع فدية مقدارها مليون دولار. وفي عملية أخرى تم خطف أسرة فرنسية في شمال الكاميرون، ولم يتم إطلاق سراح أفراد الأسرة (7 أفراد) إلا بعد ددفع الفدية المطلوبة ومقدارها 3 ملايين دولار في فبراير 2013. كذلك تحصل بوكو حرام على مساعدات مالية محدودة من تنظيم القاعدة كما ترتبط بعلاقات عملياتية قوية مع تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي. وتعمل شبكات بوكو حرام في الكثير من الأنشطة الإجرامية وعلى رأسها عمليات تهريب المخدرات وأهمها الكوكايين في أفريقيا.

تنظيم الشباب في الصومال

يتمتع التنظيم بقاعدة تمويلية قوية ومتنوعة، فهو يحصل على إيرادات في صورة أتاوات على تنظيمات إرهابية أخرى، ويحصل على مساعدات كبيرة ومنتظمة من حكومات راعية للإرهاب، وتبرعات من أفراد وجمعيات خيرية صومالية في الخارج، وأنشطة تجارية في الموارد الطبيعية الصومالية، وإيرادات عمليات خطف (فدية) وإيرادات من عمليات قرصنة بحرية، ورسوم وضرائب على أنشطة أعمال محلية في مناطق تخضع لنفوذ التنظيم. وتشير سجلات وزارة الخزانة الأمريكية إلى أن أكثر الحكومات الراعية للإرهاب في الصومال والتي تقدم دعما لتنظيم الشباب وغيره من المنظمات الإرهابية الصومالية هي إيران والسعودية وقطر وإريتريا وسورية واليمن وذلك على الرغم من أن معظم تلك الحكومات تنفي تورطها في تمويل التنظيمات الإرهابية الصومالية.

وكان تنظيم الشباب يتمتع بوضع استراتيجي قوياً خلال فترة سيطرته على ميناء كيسمايو المهم في جنوب الصومال، لكن العملية العسكرية التي قامت بها القوات الكينية ضد مواقع حركة الشباب في كيسمايو في اكتوبر 2012 نجحت إلى حد كبير في تقليل نفوذ الشباب هناك، حيث كانت الحركة تسيطر على الميناء والتجارة التي تتم من خلاله ومن أهمها تجارة الفحم النباتي. ومع ذلك فإن تقريرا أصدره مجلس الأمن في اكتوبر 2014 أشار إلى أن الحركة استعادت الكثير من نفوذها في كسمايو وأن تجارة الفحم انتعشت من جديد تحت سيطرة الحركة.

حزب الله في لبنان

تقرر وثائق أجهزة مكافحة تمويل المنظمات الإرهابية أن مراقبة أنشطة حزب الله تؤكد منذ العام 2010 وجود علاقة وثيقة بين الحزب وبين عمليات تهريب الكوكايين من أمريكا اللاتينية إلى بلدان أوروبا والشرق الأوسط، ويستخدم الحزب أرباح عمليات تهريب تجارة المخدرات في تمويل أجهزته الإدارية واللوجيستية والعسكرية والعمليات التي يقوم بها في أماكن مختلفة من العالم العربي، بما في ذلك لبنان وسورية واليمن. وقد تمكن حزب الله البناني منذ عام 2010 في بناء قواعد لوجيستية لعمليات تهريب المخدرات في بلدان أمريكا الللاتينية في المناطق التي تنخفض فيها قوة المؤسسات الحكومية أو تنعدم تماما. ومن أهم مناطق تواجد حزب الله منطقة الحدود الثلاثية بين باراجواي والأرجنتين والبرازيل، وهي منطقة تنعدم فيها تقريبا قوة السلطات الحكومية ويتحكم فيها الخارجون على القانون وتجار المخدرات. ويتم في هذه المنطقة تجميع الكوكايين وإعداده للتصدير إلى أوروبا والشرق الأوسط عن طريق نقاط في غرب أفريقيا وأحيانا عن طريق بعض موانئ شمال أفريقيا. كذلك ينشط رجال حزب الله في تجميع وتهريب المخدرات من تشيلي وبوليفيا وبيرو وتجهيزها في شحنات يتم يصديرها بطرق غير مشروعة إلى أسواق الإستهلاك في أوروبا والشرق الأوسط. وعلى الرغم من أن علاقات تحزب الله بصابات تجارة المخدرات في أمريكا اللاتينية بدأت على استحياء في أوائل القرن الحالي، فإن هذه العلاقات أتسعت في الوقت الحالي حيث يلعب الحزب دورا رئيسيا في تهريب أطنان المخدرات وعلى الأخص الكوكاكيين، وتحويل مليارات الدولارات عبر العالم من خلال شبكات معقدة جدا من شركات وأفراد يعملون في مجالات غسيل الأموال، لتصل أرباح هذه العمليات في نهاية المطاف إلى قيادة الحزب في لبنان للمساهمة في تمويل بنيته التنظيمية وعملياته العسكرية.

ويبدو أن تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” ليس بعيداً هو الآخر عن رجال عصابات المخدرات في أمريكا اللاتينية وعن أنشطة تجارة المخدرات العابرة للقارات. وقد جاء في شهادة قائد القيادة الجنوبية للولايات المتحدة الأدميرال كورت تيد أمام لجنة فرعية للكونجرس الأمريكي أن المنظمات الإرهابية في العالم ومن بينها داعش تقيم علاقات قوية مع عصابات تجارة المخدرات في أمريكا اللاتينية، وأن تجارة المخدرات باتت تمثل مصدرا من مصادر التمويل المهمة لتلك المنظمات الإرهابية.

تنسيق عالمي لمكافحة تمويل الإرهاب

يعتمد التنسيق العالمي لمكافحة تمويل الإرهاب على معاهدة الأمم المتحدة لمكافحة تمويل الإرهاب في يونيو 2002. وقد تطلب وضع بنود هذه المعاهدة موضع التنفيذ إنشاء أجهزة مشتركة تضم ممثلين عن الخارجية والخزانة والداخلية والإستخبارات والتحريات المحلية من أجل وضع خطط مشتركة لمواجهة التغيرات في بنية ومسارات شبكات تمويل المنظمات الإرهابية وعملياتها. ومع ذلك فقد ظلت هناك الكثير من الثغرات التي كشفت عدم كفاية التنسيق بين تلك الجهات وغيرها، كما برهنت على ذلك الأحداث التي شهدتها الولايات المتحدة في 11 سبتمبر 2011، والهجمات التي تعرضت لها بلدان في أوروبا الغربية (بلجيكا وفرنسا وألمانيا)، وهو ما يستدعى إعادة النظر في مستويات التنسيق واستهداف عمليات التمويل المشتبه فيها قبل وصولها للمستفيدين.

واتجهت الولايات المتحدة إلى تأسيس هيئة مستقلة للمعلومات بخصوص تمويل الإرهاب، تتولى جمع المعلومات وتحليلها ثم تقديم معلوماتها واستنتاجاتها إلى كافة الجهات المعنية ومنها الأمن والمخابرات والخزانة والخارجية والتحريات. كما أنشأت الولايات المتحدة وحدات للإنذار المبكر، لإجهاض عمليات التمويل المشتبه فيها في البلدان التي يمكن أن تمثل مصدر تهديد للأمن القومي الأمريكي. وقد تم إنشاء الوحدة الأولى من هذا النوع في العراق عام 2006 ثم الوحدة الثانية في أفغانستان عام 2008. وقد ساعدت هذه الوحدات على كشف العلاقات بين التنظيمات الإرهابية وبين تجارة الكوكايين على مستوى العالم، كما ساعدت على كشف شبكة ومسارات التحويلات المالية وعمليات غسيل الأموال عبر العالم حتى تحط رحالها في نهاية الأمر في خزائن المنظمات الإرهابية. وكان من أهم الإنجازات التي حققتها خلية الإنذار المبكر في أفغانستان الكشف عن شبكة عالمية لغسيل الأموال من خلال نظام الحوالات المالية تقودها مؤسسة من مؤسسات الصرافة الأفغانية “الأنصاري الجديد للصرافة” تتولى عمليات غسيل الأموال لصالح المنظمات الإرهابية وتجار المخدرات.

الإطار القانوني

أشرنا في الجزء الأول من هذه الدراسة إلى قرارات مجلس الأمن بشأن مكافحة تمويل الإرهاب، وتمثل هذه القرارات حتى الآن الإطار القانوني الواسع الذذي يتم من خلاله شن الحرب على تمويل الإرهاب. وتسمح قرارات الأمم المتحدة والقوانين التي سنتها الدول الغربية لمكافحة تمويل الإرهاب بمصادرة أو تجميد أموال وممتلكات الأفراد الذي يقدمون مساعدات للمنظمات الإرهابية. ويعتبر قانون الولاء الوطني “Patriot Act” الذي وافق عليه الكونجرس في اكتوبر 2001 من أهم الوثائق القانونية التي أزالت الكثير من العوائق من طريق مكافحة تمويل الإرهاب، فقد كان من أهم العوائق وجود قواعد وقوانين السرية المصرفية وقوانين حماية الحقوق الفردية، لكن قانون الولاء الوطني ألزم المصارف والسلطات المالية بوضع نظام لتتبع العميات المالية المشبوهة، والكشف عن تفاصيل حركات التعاملات على هذه الحسابات في حال طلبت مؤسسات مكافحة تمويل الإرهاب ذلك.

وتنص المادة 311 من قانون الولاء الوطني على إنه من حق السلطة المختصة في وزارة الخزانة اتخاذ إجراءات معينة في حال وجود شكوك بأن حساباً محددا، أو معاملات مصرفية، أو مؤسسات مالية أجنبية يشتبه في تورطها في عمليات تمويل لمنظمات أو لعمليات إرهابية. واستنادا لهذه المادة أتخذت الولايات المتحدة إجراءات قاسية ضد مؤسسات مالية ومصرفية إيرانية وضد مؤسسات مصرفية عربية مثل البنك اللبناني الكندي، والبنك التجاري السوري، إضافة إلى عدد من شركات الصرافة والتحويلات المالية العربية والأفغانية والصومالية التي تعمل عبر العالم.

ويتضمن قانون الولاء الوطني للولايات المتحدة العديد من المواد التي تضمن تعاون النظام المصرفي مع السلطات الفيدرالية فيما يتعلق بحسابات الأشخاص أو المؤسسات أو الحركات المالية التي يشتبه في علاقتها بتمويل الإرهاب. ويلزم القانون المصارف العاملة في الولايات المتحدة بضرورة إبلاغ السلطات الفيدرالية عن أي حسابات أو معاملات مثيرة للشكوك. ويلزم القانون تلك المصارف بعدم افتراض حسن النية عند وجود معاملات أو حسابات مشبوهة، ولذلك فإن القانون حمل المصارف المسؤولية عن أي تجاهل لحسابات أو معاملات من هذا النوع بحجة افتراض حسن النية. وقد خضعت بنوك عالمية لغرامات مالية قاسية بسبب عدم الإبلاغ عن حسابات أو تحويلات من هذا النوع. ففي ديسمبر 2012 تم إلزام بنك إتش إس بي سي بدفع غرامة قيمتها 1.92 مليار دولار بسبب تورط البنك في تمرير مئات الملايين من الدولارات من تجارة المخدرات عبر النظام المصرفي الأمريكي. وفي يوليو 2014 تم الحكم على بنك بي إن بي باريبا بدفع غرامة قيمتها 8.9 مليار دولار بسبب تورط البنك في تمرير معاملات مشبوهة عبر النظام المصرفي الأمريكي.

ضعف الرقابة في الدول النامية

ومع ذلك فإن قوة النظام العالمي لمكافحة تمويل الإرهاب الذي تقوده الأمم المتحدة لا يتوقف على نقاط قوته بمقدار ما يتوقف على نقاط ضعفه. وفي العادة فإن المنظمات الإرهابية والجهات الراعية والمؤيدة لها سواء كانت حكومات أو جمعيات أو أفراد تتجه لاختبار قوة النظام المضاد في أضعف نقاطه. وتتمثل هذه النقاط الضعيفة في الدول النامية ذات الكفاءة الحكومية الأقل، والفساد الأكثر انتشاراً، والأنظمة المصرفية الهشة. ولهذا السبب فقد أصبح للدول المتقدمة المعنية بمكافحة تمويل الإرهاب مصلحة مؤكدة في مساعدة الدول النامية على أساليب مكافحة تمويل الإرهاب وإدخال الإصلاحات القانونية والمؤسسية والإدارية الكفيلة بتحقيق أعلى مستوى من مستويات الكفاءة في الحرب على الإرهاب ومحاصرته مالياً.

وفي هذا السياق فإن لجان الأمم المتحدة المختصة بمكافحة الجريمة المنظمة والمخدرات والأنشطة غير المشروعة تقوم بدور مهم في مساعدة البلدان النامية من خلال برامج التدريب والتمويل لتحقيق الأغراض المطلوبة. وإلى جانب تلك اللجان يقوم البنك الدولي وصندوق النقد ومؤسسات التمويل الدولية الأخرى وأجهزة الجمارك ومكافحة التهرب الضريبي وحرس السواحل وغيرها من الأجهزة في الدول المتقدمة بنقل خبراتها في مكافحة تمويل الإرهاب إلى الأجهزة المناظرة لها في الدول النامية.

ثغرات في الشرق الأوسط

ويعتبر تحقيق الإنضباط المالي عموماً، والانضباط المصرفي على وجه الخصوص بواسطة تعديل التشريعات القائمة وليس بالقرارات والأوامر الإدارية الطريق الأمثل لمحاصرة الأنشطة الإقتصادية والمالية غير المشروعة التي يتم من خلالها تمويل الإرهاب سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. وقد حقق التنسيق العالمي في هذا الخصوص نجاحا ملموسا، لكن ما تزال هناك الكثير من الجوانب التي تحتاج للمراجعة. وكما ذكرنا من قبل فإن قوة النظام الرقابي تقررها أضعف نقاط هذا النظام وليس أقواها. ولذلك فإن ضعف سلطة الدولة في المناطق المهمشة من شأنه أن يساعد على إفلات تمويل الإرهاب من قيود الرقابة.

إضافة إلى ذلك فإن منطقة الشرق الأوسط بشكل خاص تعاني من نواحي قصور خطيرة بسبب وجود عدد من الدول الراعية للإرهاب والدول الفاشلة في المنطقة إضافة إلى وجود شبكات وجمعيات تقوم بإمداد التنظيمات الإرهابية بالمؤن والرجال والمال. وفي منطقة الشرق الأوسط تضعف معايير الرقابة المالية على تمويل الإرهاب نظرا لضعف النظام المصرفي، ولوجود معاملات مالية بين أجهزة مصرفية في مناطق و دول غير مستقرة أو فاشلة (مثل اليمن وسورية)، حيث تتم مبادلات بين مصارف هذه الدول وغيرها من المصارف في الدول المجاورة، تزيد فيها فرصة إفلات عمليات تمويل الإرهاب من قيود الرقابة. كذلك فإن نظام الحوالات المالية المباشرة عبر الحدود والذي يستفيد من وجود شبكات من الأفراد أو الجماعات أو المؤسسات يمثل أيضاً مصدر من مصادر الخطر. ولذلك فإن المنطقة تحتاج إلى درجة أعلى من التنسيق الإقليمي في مجالات الرقابة على تمويل الإرهاب.
ـــــــــ
المصدر/ المركز العربي للدراسات الاستراتيجية

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة