بعد أن أنشغل العالم بالتغيير في العراق في نيسان عام 2003 ،لم يتوقع أحد من داخل البلاد العربية أو خارجها أن موجة تغيرات سوف تحصل بهذه الكثافة والقوة والأثر مثلما حصل عبر الانتفاضات والثورات العربية في المنطقة.
من المؤكد، أن طبيعة محركات الثورة أو الانتفاضة في كل بلد تختلف عن البلد الآخر ،كما أن الموقف المحلي والإقليمي والدولي يختلف من حالة إلى أخرى.فالوضع التونسي لا يشابه مصر، وكذلك ليبيا وسورية والبحرين، والموقف الدولي والإقليمي متفاوت إزاء ما حصل ويحصل في تلك البلدان.
على الرغم من ذلك يمكن انتزاع سمات عامة على نحو تقريبي بين البلدان التي أنهت ثوراتها (ولو شكليا) أو التي ما تزال في دائرة الصراع تتمثل في : حضور كبير للحركات الإسلامية وخصوصا جماعة الإخوان ، تراجع جماعات الثورة في مرحلة تقاسم السلطة مقابل صعود جماعات أخرى ،رجوع بعض مجموعات الأنظمة السابقة كرموز أو جماعات بعنوان صريح أو عناوين جديدة حيث مازال لهم نسبة تواجد في بلدان التغيير ،بروز الخلافات والتقاطعات وظهور هشاشة واضحة للهوية الوطنية ، انتقال مرتبك ومتعثر للسلطة ، انجازات متواضعة في مجال التغيرات الحقيقية ،سياسة خارجية ملبدة ومتقلبة المزاج أحيانا ، حضور فعال للغرب بصور مختلفة.
لم يكن التواجد الغربي وحده العنصر الفاعل فيما يجري ،فالعامل الإقليمي متمثلا بتركيا وإيران ،وفي سورية روسيا والصين ،ولعل بلدان أخرى لها ادوار خفية كما هو الحال في إسرائيل ،ولعل المستقبل يكشف عن ادوار أخرى.
إن هذا التواجد الكثيف للعامل الإقليمي والدولي وطبيعة المنطقة التي تزخر بعملية التغيير وأهميتها الإستراتيجية تخلق حالة جذب وصراع وتقاطع للمصالح والأهداف ،قد يتطابق البعض منها مع أهداف التغيير ، وقد ينحاز الآخر إلى النظام القديم ، وهناك صور تكون حالة الأهداف والمطامع لها منحاها الخاص.
دول مجلس التعاون الخليجي القلقة والمتوترة جدا مما يحدث حاولت احتواء الحالات التي حدثت في بيتها أو محيطها على طريقتها الخاصة ، كما الحال في البحرين حيث قمع درع الجزيرة الانتفاضة الشعبية وركز السلطة قهرا ،واليمن الجوار الحساس حيث استبدلت المبادرة الخليجية السلطة بصفقة صفراء أعادت نائب الرئيس ومازال آل علي عبد صالح موزعين في مفاصل السلطة ، وتحاول التحكم بالأوضاع عبر المساعدات الاقتصادية.
في نفس الوقت اتخذت مواقف مختلفة وغير مفهومة أحيانا ،فنزلت قطر بثقلها في ليبيا ودعمت الثوار بالمال والأسلحة ، وهكذا في تونس ،وتباطيء الخليج خصوصا السعودية مع مصر ، ورغم أن الرئيس المصري أعلن أن محوره هو محور أهل السنة والجماعة من خلال زيارته للسعودية ، فالأمور ليست على مايرام مع الإمارات والسعودية .
الحالة السورية هي الحالة الأكثر تعقيدا من بين دول التغيير ،وتتمثل حساسيتها في الموقع الاستراتيجي لسورية وجوارها لإسرائيل ولبنان ،ووجود مصالح روسية وصينية فيها ،واعتبار النظام جزء من محور ثلاثي (إيران – سورية- حزب الله ) ،وطبيعة الجماعات التي تقود التظاهرات والمعارك فيها ،والموقف الملتبس منهم ،كما ان الصراع الإيراني التركي على الصورة النهائية لسورية الجديدة يمثل مدخلا كبيرا للازمة.
تدعم قطر والسعودية جماعات التغيير في سورية بقوة ،وقد حاولت الدولتان تسخير الجامعة العربية لهذا الغرض ،حيث تم تعليق عضوية سورية من الجامعة العربية ،بالإضافة إلى السعي الحثيث لاستصدار قرارات دولية تبيح استعمال القوة من اجل إسقاط نظام الأسد.
تتلاقي الرغبة التركية والخليجية فيما يتصل بسورية ،كما أن الجانب الأكبر من المصلحة الدولية يتوافق مع تلك المصالح ،حيث يراد تغيير النظام العلوي والمجيء بنظام ذي مسحة سنية يقطع الصلة بإيران ، وينهي حالة التحالف ،ويدير الظهر إلى حزب الله ، ويعود إلى أحضان السعودية في إطار الحلف التركي الخليجي ، والمدعوم غربيا.
تفوح الرائحة السلفية والمزاج المتشدد من بلدان التغيير بشكل لا جدال عليه ،فالبرغم من موقف إيران من الثورة المصرية ومحاولة الاحتفاء بانجازاتها ،ودعم صعود الجماعات الإسلامية للسلطة ،يظهر للمراقب أن هناك خطا احمرا مرسوما لمديات التقارب بين البلدين ، فلن يجيز التيار الديني الصاعد في مصر ولا الداعم الخليجي ، ولا اللاعب الدولي تقاربا حقيقيا وعلاقات إستراتيجية بين الطرفين ، لذلك أعلن الرئيس المصري بوضوح من السعودية اندماجه في محور السنة والجماعة .
لم يتوقف التأثير السلفي على السياسية فقط في مصر ،بل تعداه إلى موقف الأزهر الذي كان يتسم بشيء من المرونة والنظرة الايجابية تجاه الشيعة وإيران ،ليسجل عودة إلى حالة تعصب مذهبي يلوح بالخطر من أي رائحة شيعية في مصر.
على الرغم من موقف الحكومة العراقية تجاه الحكومة السورية فيما يتعلق بوجود اتهامات لدور الأخيرة في أحداث العنف التي جرت وتجري في العراق ، والتي وصلت في بعض الحالات إلى المطالبة بمحاكمة سورية دوليا ، إلا أن الموقف مما يجرى من أحداث لتغيير النظام السوري اتخذ شكلا آخرا.
حاولت الحكومة العراقية أن تأخذ جانب الحياد الايجابي في الأحداث ،ودعت إلى حل الأزمة بالطرق السلمية ومن خلال الانتقال السلمي للسلطة ،ووقفت أمام بعض القرارات العربية ،فلم تصوت لصالح سحب عضوية سورية ،ولم توافق على أي تدخل عسكري من اجل تغيير النظام.
تواجه الحكومة على اثر هذا الموقف عداء من المجموعات المنتفضة في سورية ،واعتراض من بعض قوى الداخل العراقي التي تناصر جماعات التغيير وترغب بتغيير الحكم في سورية ،ومن قوى إقليمية ودولية وعربية تجتمع على ضرورة إحداث التغيير ومساندة الخيار المسلح في سورية.
أظهرت الأشهر السابقة اقتدارا واضحا للحكومة السورية على ضبط الأوضاع والمطاولة لفترة كبيرة ،إلا أن الأسابيع القليلة الماضية غيرت البوصلة حيث انتقلت ساحة الصراع إلى داخل دمشق ،وكانت عملية تفجير خلية الأزمة ومقتل مجموعة القادة الكبار ،بالإضافة إلى مسك الجيش الحر لأكثر المنافذ الحدودية للدولة السورية ، وتتولى المؤشرات التي تدلل ،أن من الصعب على النظام استعادة قواه والسيطرة من جديد على الأوضاع ، وبات التغيير ، أو الانزلاق إلى المواجهة الكبرى على الباب ، وأعتقد أن ساعة الحسم تعتمد على قرار واضح من الولايات المتحدة بالرغبة الأكيدة لزوال حكم الأسد ، والذي لم يصدر لحد الآن.
تعرض العراقيون الساكنون في سورية إلى خطر حقيقي ،حيث قتل البعض وأصيب آخرين مما اضطرهم والحكومة العراقية بإجلائهم بشكل فوري وسريع عبر عملية استنقاذ بكل الوسائل المتاحة.
سورية ما بعد بشار الأسد ،سلفية المزاج والمذهب ،تقودها التوجهات السنية ،وتنخرط في المحور التركي – الخليجي ،وتمارس قطيعة نهائية مع إيران وحزب الله والشيعة ،وقد ترتب عبر إجراءات خفية لسلام مرن مع إسرائيل ،وتنتقل كليا من الداعم الروسي والصيني إلى الأحضان الأمريكية والغربية ،ستكون بمثابة غبار اسود على نافذة العراق الغربية.
ليعرف العراقيون ،أن سورية الجديدة ستقوم بعملية ثار عكسي لموقف الحكومة العراقية ،ويدفع هذا الموقف العداء المتأصل في محورها الجديد لحالة التغيير في العراق ،لذلك ستسعى جاهدة إلى إعادة دوامة العنف بقوة إلى العراق ،من خلال ممارسة حث مذهبي مركز على مناطق التماس والتي مازال الكثير منها لم ينسجم كليا مع الحكومة في بغداد ، كما أن المجموعات المسلحة المتواجدة الآن في سورية سيتم التخلص منها بدفعها مجددا إلى العراق ،بل ستكون سورية ساحة التنظيم الرسمية لكل أعداء العراق.
لن تكون الإرادة السورية الجديدة لوحدها الراغبة في مثل هذه النتائج، بل ستكون بوابة الشرور التي تأتي منها كل ضغائن حلفائها المبغضين لصورة التغيير في العراق.
الأخطر في المسألة ،إذا قررت الولايات المتحدة التراجع إلى الخلف خطوة واحدة في جبهة المواجهة بحيث تعتبر العراق ليس الحليف الاستراتيجي ،بل سورية الجديدة ،وتكون الساحة العراقية خط التماس غير المباشر مع إيران ،ولا يبعد هذا التوقع من الحصول إلا مكانة النفط العراقي في سلم حاجات القوى الكبرى.
على الرغم من الصورة القاتمة لهذا السيناريو إلا أنه ممكن ومتوقع ،لذلك يعني هذا ،أن تبادر القوى العراقية بسرعة وبمسؤولية إلى إنهاء حالة الخلاف الدائر وعلى الفور ،ومهما كانت الملفات المختلف عليها ،كما أن دعوة حقيقية لتركيز الهوية الوطنية والتوحد حول الثابت العراقي لا بد منها ،ويرافق ذلك تشخيص دقيق لمصادر الخطر في البيت العراقي.
إنني في الوقت الذي لا اقلل به من أهمية مسك الحدود بقوات عسكرية وجهد استخباري واع ،أدعو إلى إجراءات سياسية فعالة وعاجلة تستبق أي عملية تهديد أو حث يمكن أن تعيدنا إلى المربع الأول.
* مدير المركز العراقي للبحوث والدراسات