عاد الجدلُ إلى موضوع العلمانيّة والمدنيّة، في مقابل الإسلاميّة والإسلاميين، إلى المشهد الثقافيّ العراقيّ مجدّدًا. وقد دخلتْ بعضُ القنوات التلفزيونيّة العراقيّة، والأميركيّة العاملة في العراق (كقناة “الحرّة ــــ عراق”)، في هذا الجدل بطريقةٍ تحريضيّةٍ ومضلِّلة. ومثالُنا على ذلك برنامجٌ بُثَّ، قبل فترة، تحت عنوان “حوارٌ مؤجَّلٌ بين مسلمي العراق وعلمانيّيه،” وينطوي على فكرةٍ خطيرةٍ تَشْطر المجتمعَ العراقيَّ إلى أتباعِ “دينيْن”: أتباعٍ يعتنقون دينَ الإسلام فهم مسلمون، وأتباعٍ يعتنقون دينَ العلمانيّة فهم علمانيّون.
لا يتعلّق الأمرُ بخطأ لغويّ بسيط، بل بمفهومٍ أَسّس له الإخوانُ المسلمون في مصر، منذ ستينيّات القرن الماضي، محاولين عبر هذه الفرْية السياسيّة والفكريّة تكفيرَ كلِّ مَن يخالف نهجَهم الفكريَّ والسياسيّ. ويرسِّخ هذه الشبهةَ أمران:
ــــ أنّ البرنامج المذكور يُبثّ من قناةٍ أميركيّةِ التمويل.
ــــ وأنّ أحدَ المشاركين (جمعة عبد الله) ألقى مسؤوليّة “المشكلة” (مع عدم تعريفها أساسًا) على عاتق الشيوعيين (الذين قال إنّهم كانوا على يسار ستالين في عدائهم للدين)، وعلى عاتق القوميين العلمانيّين (الذين جاؤوا بالعلمانيّة المتطرّفة “اللائكيّة” من فرنسا تارةً، ومن ألمانيا بسمارك تارةً أخرى). كما ألقى مشاركٌ آخر بالمسؤوليّة على عاتق الإسلاميين السلفيين، معتبرًا أنّ المشكلة في الديموقراطيّة (يَقصد انعدامَ الديموقراطيّة) لا في العلمانيّة والعلمانيّين، ومنبِّهًا (بحقٍّ هنا) إلى الخلط المتعمَّد والمغرِض بين المسلمين والإسلاميين، وإلى وضع المسلمين كافّةً في مواجهة العلمانيّين كافّةً!
كان الحوار في هذا البرنامج شاحبًا من الناحية العلميّة، ومضطربًا من حيث المصطلحات والمفاهيم. من ذلك أنّه أضاع وقتًا مهمًّا في كيفيّة تلفّظ “العلمانيّة”: أبكسرِ العين أمْ بفتحها؟ وهل هناك “كتلة” علمانيّة وعلمانيّون في العراق أمْ لا؟ وعليه، فكيف يمكن أن يصنَّفَ هذا البرنامج وأمثالُه في هذه القناة ومثيلاتِها؟ أهو الجهلُ البريء، أمِ التجهيلُ المقصود، أمْ الأمران معًا؟
هنا مساهمةٌ نرجو أن تكون مفيدةً في هذا النقاش.
***
إنّ أبسط تعريف ممكن لمصطلح “العلمانيّة” ــــ بكسر العين أو بفتحها ــــ يحيلنا على شبكةٍ من التعقيدات. لكنْ، دعونا أوّلًا نحسم التعريفَ اللغويّ للعلمانيّة، بالشكليْن.
العَلمانيّة (بالعين المفتوحة) اسمُ نسبةٍ على صيغة عَلمان. وهذه صيغةٌ خاطئة إذا كان المقصود بها الإحالة على العالَم، اعتمادًا على تفسيرٍ جزئيّ للعلمانيّة يَفصل بين “الدنيويّ” (من “الدنيا” التي استبدلوها بـ”العالَم”) و”الدينيّ.” وهذا ما حاول تسويغَه لغويًّا الشيخ عبد الله العلايلي قبل أكثر من نصف قرن، دون جدوى.
أمّا العِلمانيّة (بكسر العين) فهي اسمُ نسبةٍ إلى العِلم على زنة “فِعلان – فِعلانيّة.” وهي صيغة مبالغة من قبيل ( طُهْر ــــ طُهران ــــ طُهرانيّة، وعنف ــــ عنفوان ــــ عنفوانيّة ). وهذه الصيغة (بكسر العين) هي السائدة بحكْم العرف الاستعماليّ، على الرغم من عدم دقّتها، في مقابل ماهيّتها في اللغات الأجنبيّة. ولكنّ بعض الإسلاميين يتحسّسون منها لأنّها تضعهم، تلقائيًّا، في خانة اللاعلميّة أو الخرافيّة.
هناك تخريجٌ آخر يَعتبر العَلَمانيّة ــــ بفتح العين واللام ــــ اسمَ نسبةٍ من “العَلَم،” أي الراية على الأرجح. وهذا التخريج تأخذ به قلّةٌ من الباحثين؛ كما أنّه موجود في موسوعة ويكيبيديا الضعيفة الصدقيّة. وهذا الاشتقاق غير مستعمل، ولا علاقة له بالمعنى الاصطلاحيّ للكلمة.
في اللغات الأجنبيّة، لا يقلّ تعريفُ العلمانيّة تعقيدًا؛ فهناك أكثر من كلمة ذات علاقة بها من الناحية المضمونيّة. وهي :
اولا: كلمة “سكولاريزم” المستقاة من اللاتينيّة “سيكلوم،” وتعني الجيلَ من الناس، ثمّ صار لها معنًى آخر في اللاتينيّة المستخدمة في الكنائس، هو: العالَم الزمنيّ “الدنيويّ،” في مقابل العالم الروحيّ “الدينيّ.” وهو ما يذكّرنا بثنائيّة “اللاهوتيّ” و”الناسوتيّ.”
ثانيا: كلمة “لايستي” الفرنسيّة، المشتقّة من كلمة “لاوس” اليونانيّة، وتعني الناس. وكلمة “ليكوس” تعني عامّة الناس، في مقابل رجال الإكليروس الدينيّ. ومن هذه الأخيرة اشتَقّت التركيّةُ كلمة “ليكليك.”(1)
كلّ الكلمات أعلاه أصبحتْ تحتوي ماهيّةً مضمونيّةً عامّةً، واحدةً ومتمايزة، في تمظهراتها الدستوريّة، في البلدان الكاثوليكيّة والبروتستانتيّة والأرثوذوكسيّة وغير المسيحيّة. ويمكن تسمية هذه الماهيّة: “العلمانيّة” بعموميّتها، التي تُقرّ بوجود تمايزٍ في الدرجة بين معناها الحادّ (والمتشنّج غالبًا) في البلدان الكاثوليكيّة كفرنسا، ومعناها الآخر (الناعم غالبًا) في البلدان البروتستانتيّة وغيرها.
ولكنْ، ما هو هذا المعنى المضمونيّ للعلمانيّة؟ أعني، ما هو المعنى الاصطلاحيّ الممكن؟
التعريف السائد للعلمانيّة، في بعض الموسوعات الرقميّة، تعريفٌ ناقص، وخارج السياقات الاجتماعيّة والتاريخيّة. وهو يقول: العلمانيّة هي فصلُ الحكومة والسلطة السياسيّة عن السلطة الدينيّة أو الشخصيّات الدينيّة؛ وهي عدمُ قيام الحكومة أو الدولة بإجبار أيّ أحدٍ على اعتناق معتقدٍ أو دينٍ أو تقليدٍ معيّنٍ لأسباب ذاتيّة غير موضوعيّة؛ كما تَكفل الحقَّ في عدم اعتناق دينٍ معيّنٍ كدينٍ رسميٍّ للدولة.
نقول إنّه تعريف ناقص لأنّ العلمانيّة في بعض البلدان البروتستانتيّة، مثلًا، لا تعني عدمَ وجود دين أو كنيسة رسمّية تعترف بها الدولة، أو أنّ رئيس الدولة قد يكون أحيانًا رئيسَ السلطة الدينيّة كما في بريطانيا، علمًا أنّ منصب الملكة إليزابث فخريّ تشريفيّ فقط.
ما هو تعريف العلمانيّة الأدقّ والأصح إذًا؟
إنّه ليس تعريفًا مدرسيًّا يُحفظ عن ظهر قلب، وإنّما هو معنًى فلسفيٌّ واجتماعيٌّ وسياسيٌّ غيرُ ثابت وغيرُ كامل وغيرُ منتهٍ؛ بل متحوّل ومتطوّر ومندمج في سياقات تاريخيّة معيّنة. وتمْكن مقاربتُه في صورة تحليليّة وتشريحيّة وافية؛ وهذا ما لا نجده في العديد من التعريفات السائدة والمدرسيّة لأنّها تنطوي على أجزاء مخصوصة منه في سياق مجتزَأ وغير تاريخيّ. لنلقِ نظرةً على تعريف دائرة المعارف البريطانيّة للعلمانيّة (سيكيولاريزم):
“إنّها كلّ حركة اجتماعيّة تتّجه نحو الاهتمام بالشؤون الدُّنيويّة (حرفيًّا: الحياة على الأرض) بدلًا من الاهتمام بالشؤون الأخرويّة. وهي تُعتبر جزءًا من النزعة الإنسانيّة التي سادت منذ عصر النهضة (حرفيًّا: العصور الوسطى الأوروبيّة)، والداعية إلى إعلاء شأن الإنسان والأمور المرتبطة به، بدلًا من الإفراط في الاهتمام بالعُزوف عن شؤون الحياة والتأمّل في الله واليوم الأخير. وقد كانت الإنجازات الثقافيّة البشريّة المختلفة في عصر النهضة أحدَ أبرز منطلقاتها؛ فبدلًا من تحقيق غايات الإنسان من سعادة ورفاهٍ في الحياة الآخرة، سعت العلمانيّة ــــ في أحد جوانبها ــــ إلى تحقيق ذلك في الحياة الحاليّة.”(2)
وعلى أهميّة هذا التعريف الذي لا نجد نظيرًا قريبًا كرؤية لاهوتيّة مسيحيّة حديثة، فإنّنا لا نجد نظيرًا قريبًا له في الفقهيّات الإسلاميّة. وهو لا يخلو من عيوب فقدان السياق التاريخيّ، والطموح غير العلميّ إلى الكمال النظريّ. دع عنك أنّه ينطبق، أكثرَ ما يكون، على النسخة البروتستانتيّة من العلمانيّة، ولكنّه قد لا يكون كافيًا وشافيًا في تعريف نُسَخها الأخرى.
أمّا الفيلسوف الإنكليزيّ جون لوك (من القرن السابع عشر) فكتب في موضوع العلمانيّة: “من أجل الوصول إلى دين صحيح، ينبغي على الدولة أن تتسامحَ مع جميع أشكال الاعتقاد، دينيًّا أو فكريًّا أو اجتماعيًّا. ويجب أن تنشغل في الإدارة العمليّة وحكم المجتمع فقط، لا أن تُنهكَ نفسَها في فرض هذا الاعتقاد ومنع ذاك التصرّف. يجب أن تكون الدولةُ منفصلةً عن الكنيسة، وألّا يتدخل أيٌّ منهما في شؤون الآخر. هكذا يكون العصرُ هو عصرَ العقل. ولأوّل مرّة في التاريخ البشريّ سيكون الناسُ أحرارًا، وبالتالي قادرين على إدراك الحقيقة.”(3)
الكلام هنا عن فصلٍ بيروقراطيٍّ بين مؤسّسة الدولة ومؤسّسة الكنيسة. وهذا يَصْدق على واقع المجتمعات الذي تكون فيه المؤسّسةُ الدينيّةُ قائمةً فعلًا، وذاتَ سلطات معلنة وممارَسة عبر أجهزتها المعروفة، بل هي مَن يقرّر ويبارِك تعيينَ رأس الدولة ــــ الملك ــــ أو خلعَه. وهذه الحال ليست موجودةً في الدول القائمة في عصرنا. ومع ذلك فعلينا ألّا ننسى أنّ رجال الدين الكبار يتمتّعون بسلطةٍ قويّةٍ في دولٍ أخرى، كعراق اليوم. وهذه الحالة خارج اهتمامات هذا الرؤية “الجونلوكيّة” تاريخيًّا، مع أنّها ينبغي أن تكون في جوهرها!
أمّا ثالث رؤساء الولايات المتّحدة الأمريكيّة، توماس جيفرسون، فقد أعلن سنة 1786: “أنّ الإكراه في مسائل الدين أو السلوك الاجتماعيّ هو خطيئة واستبداد، وأنّ الحقيقة تسود إذا ما سُمح للناس بالاحتفاظ بآرائهم وحريّة تصرّفاتهم.” تصريح جيفرسون أدلى به إلى وسائل الإعلام بعد أن استعمل حقَّ النقض الرئاسيّ، سنة 1786، ضدّ اعتماد ولاية فيرجينيا لدين الكنيسة الإنجيليّة دينًا رسميًّا. وقد أصبح عدمُ اتّخاذ دين رسميّ للدولة مكفولًا بقوّة الدستور سنة 1789، حين فُصل الدينُ عن الدولة رسميًّا في “إعلان الحقوق.” ويفسّر عددٌ من النقاد ذلك بأنّ الأمم الحديثة لا يمكن أن تبني هويّتَها على أيّ من الخيارات الطائفيّة (الهويّات الفرعيّة)، أو تفضيل الشريحة الغالبة (الطائفة الكبرى) من رعاياها، سواءٌ في التشريع أو المناصب القياديّة؛ فهذا يؤدّي إلى تضعضع بنيانها القوميّ من ناحية، وإلى تحوّلِها إلى دولةٍ تتخلّف عن ركب التقدّم نتيجةً لقولبة الفكر بقالب الدين أو الأخلاق أو التقاليد.
أعتقد أنّ كلام جيفرسون على عدم اتّخاذ دين رسميّ للدولة، وعلى مخاطر غلبة الطائفة الكبرى في مجتمع متعدّد الطوائف والإثنيات، ينطبق تمامًا على واقع حال العراق ومجتمعه. وحريٌّ بنا مقاربةُ جوهر هذه المضامين في كلامه، وهي مضامين كرّرها كثيرًا الديمقراطيّون العراقيون المناهضون للاحتلال الأميركيّ، ولنظام التغلّب الطائفيّ الذي جاء به. والمطلوب في الحالة العراقيّة، مثلًا، حذفُ أيّ نصّ دستوريّ يشير إلى الطائفة الدينيّة (“المكوّن الطائفيّ”) ومشتقّاتِها، وزاعمي تمثيلها، أو يشير إلى ضرورة “التوازن” بينهم؛ بل المطلوب الأخذُ بمبادئ دولة المواطنة والمساواة، مع مراعاة التوازن بين الوحدات الإداريّة (المحافظات والأقاليم) حصرًا، وجعل المواطنة والكفاءة والنزاهة الشروطَ الثلاثةَ الوحيدةَ في شخصِ مَن يترشّح أو يُكلَّف بإدارة مؤسّسات الدولة!
أمّا من حيث دسترة العلمانيّة، فنحن أمام نوعين من الدول العلمانيّة:
الأوّل هو الدول العلمانيّة واقعًا لا دستورًا، أيْ التي لم تعلن العلمانيّة. ويشمل غالبيّةَ الدول القائمة اليوم، باستثناء الدول الدينيّة إدارة وتشريعًا وقضاءً: كالسعوديّة، وإيران، وشبه دولة الفاتيكان، وإلى درجة محدودة المملكة المغربيّة (التي يُلقّب ملكُها بـ”أمير المؤمنين” مع كونه حالةً وسطًا بين الملك الدستوريّ والملك المطلق). ويَعتبر بعضُ الباحثين أنّ دولًا تتّخذ دينًا رسميًّا للدولة، مثل اليونان ومصر ومالطا، تقع ضمن الدولة العلمانيّة، مع الكثير من التحفّظات.
أمّا النوع الثاني، فهو الدول العلمانيّة التي أعلنت العلمانيّةَ في دساتيرها. وهي قليلة، ومنها الولايات المتّحدة وفرنسا وكوريا الجنوبيّة والهند وكندا.
***
وبالعودة إلى النقاش العراقيّ حول العلمانيّة والمدنيّة، يمكن التذكير بأنّ بعض الإسلاميين والليبراليين واليساريين في العراق، اليوم، يُفْرطون في استخدام مصطلح “المدنيّة” صنوًا للعلمانيّة، لسببٍ قد لا يخرج عن التبرير الانتهازيّ السياسويّ. فالإسلاميون العرب عمومًا، ومنذ أكثر من عقدين، يستعملون مفردةَ “المدنيّة” لكي لا يُحرِجوا أو يَصدموا مرجعيّاتِهم ومموِّليهم المتشدّدين في السعوديّة أو إيران وغيرهما. والليبراليون واليساريّون يستعملونها لكي لا يُحرِجوا أو يَصدموا حلفاءهم أو شركاءهم الإسلاميين، خصوصًا إذا كانوا في الحكم أو على مقربةٍ منه.
عمومًا، ومن حيث المبدأ، لستُ ضدّ استعمال مصطلح “المدنيّة” إذا كان محتويًا المضامينَ العلمانيّةَ الملائمة والمتّسقة مع طبيعة المجتمع العراقيّ، وخصوصًا إذا خرج ــــ بحكم الاستعمال العرفيّ الواسع النطاق ــــ من دائرة النخبة الليبراليّة واليساريّة التابعة أو المجوَّفة، أو من دائرة شريكتها الإسلاميّة المتورّطة في النظام الطائفيّ إلى الذقن، ليكون منطلقًا إلى ماهيّة علمانيّة إيجابيّة، بعيدًا عن أيّة انتهازية سياسيّة تلعب بالمصطلحات لعبًا ولا يمكن الوثوقُ بها وبِدُعاتها. وهذا أمر يحسمه الميدانُ الفعليّ للنشاط الاجتماعيّ والسياسيّ في العراق مستقبلًا.
أمّا تسويق الصراع الجاري في العراق وكأنّه استقطابٌ بين الإسلاميين والعلمانيّين، فهدفُه التغطيةُ على الصراع الحقيقيّ: بين عموم الشعب العراقيّ من جهة، ونظامِ المحاصصة الطائفيّة المناقض لطبيعته التعدّديّة ونسيجه الاجتماعيّ من جهة أخرى. والدليل على ذلك أنّ مؤسِّسي هذا النظام، وواضعي دستوره، والمشاركين في وزاراته، لم يكونوا من الإسلاميين فقط، بل كان بينهم أيضًا قادةُ أحزابٍ “ليبراليّة” و”يساريّة”: كعدنان الباججي، وإيّاد علاوي، وجلال الطالباني، وحميد مجيد موسى، وآخرين. الصراع، إذًا، ليس بين “علمانيّين” لا يجرأون على أن يقولوا “نحن علمانيّون،” وإسلاميين؛ بل بين مجموع الشعب العراقيّ كطرفٍ أوّل، وبين أولئك كلّهم كطرفٍ ثانٍ. والدليل الآخر هو أنّ زاعمي العلمانيّة والمدنيّة أولئك جميعهم لا يجرأون على المطالبة بإعادة كتابة الدستور الاحتلاليّ الطائفيّ ــــ “دستور بريمر” ــــ أو رفع شعارات ضدّه!
ولكنْ، من أين جاء مصطلح “المدنيّة”؟ وهل له علاقة بالنثر الرياديّ للعلمانيّة الغربيّة أو الشرقيّة ومؤسّسيها؟ وردتْ كلمة “المدنيّ” كصفةٍ للحاكم الإسلاميّ (الخليفة) في عبارة للشيخ محمد عبدة في النصف الأوّل من القرن الماضي، وذلك حين كتب: “الخليفة هو حاكمٌ مدنيٌّ من جميع الوجوه.”(4) وكان عبدة يعني أنّ الحاكم الأرضيّ (الدنيويّ)، حتّى إذا حكم باسم الدين، فإنّه يبقى حاكمًا مدنيًّا، أيْ دنيويًّا، يعيش على الأرض، لا في السماء. وبهذا المعنى يمكن القول إنّ خليفة داعش، إبراهيم عوّاد السامرائي، حاكمٌ مدنيّ هو نفسه! أمّا تعريف الكاتب فالح عبد الجبّار للمدنيّة(5) بأنّها “اعتمادُ حكم دولة القانون،” فهو تعريفٌ إنشائيّ، وعديمُ الحصيلة العلميّة؛ فالدولة السعوديّة نفسها دولة لها قوانينُها، فهل هي دولة مدنيّة؟!
وليس تعريفُ عبد الجبّار للعلمانيّة بأفضل حالًا، إذ يقول إنّها “احترامُ الدولة لكلّ الأديان والمعتقدات على قدم المساواة”!(6) ولكنّ عجبنا سيزول حين نعلم أنّ هذا الكاتب هو أوّلُ مَن عمَّد السياسيّ الراحل وصديقَ الاحتلال الأوّل، أحمد الجلبي، بلقب “الليبراليّ العراقيّ المعروف،” مع أنّ الجلبي هو صاحبُ فكرة العراق المؤلَّف من كياناتٍ فيدراليّة، مستلهِمًا فكرةَ الولايات العراقيّة الثلاث في العهد العثمانيّ،(7) وهو الذي أسّس أوّل كيان سياسيّ طائفيّ صريح في تاريخ العراق، خلال السنوات الأولى من الاحتلال، تحت اسم “البيت السياسيّ الشيعي!”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اولا: المفردات الأجنبيّة الواردة أعلاه بحروفها اللاتينيّة حسب ورودها (Secularism):
(Saeculum) – (Laicté) – (Laos) -(Laikos) – (Laiklik)
ثانيا: المترجم العربيّ أسقط ترجمة الأسطر التالية على الرغم من أهمّيّتها: “وكثيرًا ما كان يُنظر إليها على أنّها معادية للمسيحيّة ومضادّة للأديان. أمّا في النصف الثاني من القرن العشرين، فقد بدأ بعضُ اللاهوتيين المسيحيين الدعوة إلى المسيحيّة العلمانيّة، واقترحوا أنّ المسيحيّة ــــ في هذا العصر ــــ لا ينبغي أن تكون مهتمّة فقط بالشؤون المقدّسة والأخرويّة، بل يجب أن يجد الناس في العالم الفرصةَ لتعزيز القيم العامّة المسيحيّة. ويؤكّد هؤلاء اللاهوتيّون أنّ المعنى الحقيقيّ لرسالة يسوع المسيح يمكن اكتشافُه والوفاءُ به ــــ تطبيقيًّا ــــ في الشؤون اليومّية للحياة الحضريّة العلمانيّة.”
ثالثا: كارين آرمسترونغ، النزعات الأصوليّة في اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام (دمشق: دار الكلمة، 2005)، ص 102.
رابعا: محمد عبده، الأعمال الكاملة ج 3 ص 144. اقتبسه د. عزيز العظمة في كتابه المرجعيّ المهمّ، العلمانيّة من منظور مختلف.
خامسا: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=50501
سادسا: المصدر السابق.
سابعا: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=79764
نقلا عن العالم الجديد