18 ديسمبر، 2024 6:48 ص

بين الإستبداد والأطماع.. “وجع التخلف” ينهش جسد الثقافة العربية

بين الإستبداد والأطماع.. “وجع التخلف” ينهش جسد الثقافة العربية

كتبت – نجوى المغربى:

“الوجع العربي”.. ربما تكون أكثر الجمل تعبيراً عن الوضع الثقافي العربي المعاصر وما آل إليه من تدني لحد التخلف والرجعية، برغم ما جمع شعوب ذلك الوطن العربي من وحدة الدين واللغة – وفي أحيان كثيرة وحسب آراء متنوعة – وحدة المصير السياسي، بالإضافة إلي عراقة الحضارات وقدمها وثراء التاريخ المشترك، إلا وان ضعف المثقف العربي وواقع حاله المتراجع مازال يلفت إنتباه العيون الراصدة والأقلام الناقدة من فرط تخاذله لقواعد جماهيره ونفاقه للانظمة المستبدة الحاكمة ومساهمته في صناعتها وتصديرها إنطلاقاً من مواقفه الفردية الضيقة كنخبة هزيلة، وليس كالنخبة الفرنسية التى أنارت حياة الشعوب بالحرية والعدالة او الإنجليزية التى عمقت الديمقراطية او اليابانية التي مهدت للطفرة التكنولوجية.. وغيرها من النخب التي اهلت شعوبها وطورت مجتمعاتها للتقدم والرقي، وليس للتقزم السياسي والاممي والتأزم الإقتصادي المزمن والتخلف الفكري لدرجة التراجع الذي أوصلنا لـ..”داعش”.

لماذا التخلف بعد قرن علي التقدم؟

في محاولته الإجابة علي هذا السؤال يبدأ الصحفي والمعلق الثقافي ببريطانيا “د. على القبانى”، بالتذكير أن “اليهودية بُعثت في أحضان الحضارة الفرعونية كما نزلت المسيحية بعدها في أحضان الحضارة الرومانية.. أما الإسلام فقد نزلت رسالته بين عرب الجزيرة، قوم بدائيون يعيشون جاهليتهم، فكان الاسلام هو الشرارة التي فجرت على أيدي هؤلاء القوم الأميين البدائيين أعظم حضارة عرفتها الإنسانية، لازال العالم كله يدين لها بالفضل في كل ما توصل إليه من إنجازات وإكتشافات وإبتكارات حتى يومنا هذا، ويعترف علماء الكون اليوم أنهم عيال على الحضارة الإسلامية!.. فمتى إذاً بدأ الإنهيار؟.. الجواب عندي: بدأ عندما هبط المسلمون، والعرب في مقدمتهم، عن مستوى الاسلام، الرسالة التي رفعت من شأنهم وفجرت أعظم حضارة على ايديهم ووضعت لهم اسمى منظومة للقيم وارقى منهاج لمكارم الاخلاق وحثت على طلب العلم وإعمال العقل والنظر والتفكر في كل ما يحيط بِنَا في دنيانا…

“بعدنا عن إسلامنا، وهبطنا عن مستوى الرسالة فتخلفنا حتى اصبحنا في مؤخرة الامم، بعد ان كنّا في صدارتها، وكانت لنا قيادة العالم لاكثر من قرون ستة.. لذا يتضح ان خروجنا من عالم التخلف والعودة للعالم المتحضر يستلزم ببساطة العودة إلى إسلامنا والإرتقاء لمستوى رسالته”.

ويرجع القباني اسباب تردي الوضع الثقافي العربي الراهن، إلي “فساد نظام الحكم وإعتماد حكم الفرد، الذي إستأثر بالامر كله في يده وبالتالي تحكمه في مال الأمة، يغدق به على من شاء، ويمنعه عمّن اراد في ظل سيف يُخضع به ويُكره كل من لا يغريه المال، وهكذا إلتف حول كل واي “حاكم فرد” المنافقون والطفيليون ممن اصطلح على تسميتهم بعلماء السلطان الذين يسمعونه ما يود ويبررون كل أحكامه.. وبالضرورة فساد الحياة السياسية يؤدي إلي إفساد الحياة الإقتصادية والإجتماعية وهزّ منظومة القيم وتحطيم المنهج الأخلاقي، ويتسرب التدهور والفساد إلى المناخ الثقافي ويتم هدم البُنية الأساسية للمجتمعات. واستمر الإنهيار قرون طويلة لأن الصرح كان ضخماً، حتى وصلنا لمرحلة الإنقلابات العسكرية، التي إغتصب بها جهلة غير مؤهلين السلطة في البلاد بقوة السلاح وفرضوا أنفسهم سادة على شعوبهم، وتحكموا في كافة سُبل الحياة وأركانها في المجتمع، هنا إبتعد المثقف الحقيقي عن بيئة لا يستطيع التفكير والعطاء فيها، وتم إبعاد من حاول البقاء منهم، لتخلوا الساحة لأشباه المثقفين الذين إرتضوا آداء دور “ابواق الحاكم” يرددون الإملاءات التي تلقى عليهم ويتبعون الأوامر التي تصدر لهم، في أخطر عملية إفساد للضمير العام وتشويه للفكر المجتمعي وتزييف للواقع المعاش وتخدير الشعوب بالاوهام الزائفة والشعارات الكاذبة دون خجل، رغم أن مخططاتهم أو المخططات المفروضة عليهم، تهدف إلى تحقيق كل ما يخالف تلك الشعارات المرفوعة والتي لا ترمي إِلَّا إلى دغدغة مشاعر الجماهير المغيبة”.

“إن هدم المجتمع – اي مجتمع – يبدأ بتحطيم ومحو ثقافته، من خلال إبعاد وكتم اصوات المثقفين الحقيقيين.. إما بتجويعهم (بحيث لا يجدون فرصة للعمل، ولا منابر تسمح لهم بمخاطبة الجماهير –  ولا دور نشر تطبع لهم ما يكتبون)، وإما بترويضهم ليقولوا ما يطلبه السيد، وهم يَرَوْن مدى الإغداق على المنافقين والأبواق. فالحكومات الآن لم تعد في حاجة إلى “أجهزة الرقابة” التي بدأتها الحكومات العسكرية، بعد أن أصبحت الرقابة ذاتية، لأن الكاتب يعرف عواقب تخطي الخطوط الحمراء، التي لا تتوقف عند حدود الفصل والتجويع، وتصل إلى الإعتقال والسجن وربما القتل”.

لكل هذا يري د. علي القباني، سبيل الخروج من عالم التخلف، ينحصر في إعادة مناخ الحرية بأكمل صورها واعتماد الديموقراطية كآلية للقيادة الجماعية ونظاماً للحكم، بديلاً عن الفردية، والقبول بالتعددية الفكرية والإيديولوجية، وقبول الرأي الآخر، مما يسمح بإستعادة منظومة القيم المتناغمة مع تراث وثقافة الشعوب، وإحياء ثوابت العدل والمساواة ببناء دولة القانون، وهذا ما يخلق البيئة الصحية التي يبدع فيها المثقف، وينجح في بناء ثقافة جديدة تقوم عليها الصحوة، وتبدأ بها النهضة.. “الثقافة ليست رياضة ذهنية تستمتع بممارستها النخبة، ولكنها منظومة وعي وسلوك مجتمعي وممارسة يومية تضمن التطور الدائم والتحسن المستمر لأي مجتمع يوفر لها البيئة الصالحة”.

“اضرب الكلب المقيد لتخاف الكلاب الطليقة”

أما الناقد والكاتب المسرحى “د. أحمد ابراهيم حسن”، فيلفت النظر إلي زاوية آخري قائلاً: “منذ أن حاول المثقف العربي تتبع خطي الفلسفات الوجودية والشيوعية بحجة تتبع الجماليات، فقد فتح على نفسه بوابات السجن والمعتقلات، والحكومات العربية عملت بقاعدة (اضرب الكلب المقيد لتخاف الكلاب الطليقة).. فصار الطليق الحر مسكوناً بالخوف، ويجب ان يخاف طالما حارس البوابة الثقافية لن يسمح له بالمرور، بل ويذيقه من العذاب صنوفاً قد تطال أحفاده. وراء تخلفنا حكماً شمولياً، يفكر لنا ونحن نكتب، يحلم نيابة عنا ونحن نجعل لحلمه منطقاً، لا نخرج عن دائرته.. لذا فظهر الكاتب العربي في واد والمتلقي العربي في واد آخر، البعض وجد طاقة نور للهروب فتعلم الحرف الأعجمي وكتب بألسنة أخرى، ولكي يرضى الآخر عنه تنصل من الدين ومن القيم التى نشأ عليها، وإزدادت الهوة إتساعاً حين أغوى المال والجماهيرية الكاذبة كتابنا وفنانينا، وبرزت أعمالاً وكتباً بمستوى متدني وسطحي تحت شعار (الجمهور عاوز كده). لم نمتلك مشروعاً ثقافياً واعياً منذ قرن مضى يكون الإنسان محوره والمواطن جوهره، بل تم تلقينه وقتل ملكات الإبداع داخله، في ليبيا مثلاً تم حبس أناس لأنهم إخترعوا ولأنهم كتبوا  وخالفوا السلطة بذلك، وينسحب هذا الموقف الهذلي على كل حكومات الجور العربية”.

وتصف المستشار الإعلامي بسفارة مصر في الإمارات العربية المتحدة “د. شعيب عبد الفتاح”، العلاقة بين المثقف والسلطة بأنها “شائكة وجدلية” على مر العصور العربية، “فالسلطة تسعى دائماً إلي تدجين المثقف وتطويعه ليصبح دائراً في فلكها وعاملاً من عوامل إستقرارها، وإن لم تنجح بالقدر الكافي في ذلك فعلى أقل تقدير تحويله إلى ظاهرة صوتية لا تأثير لها على ارض الواقع، في الوقت نفسه يسعى المثقف الجاد إلى خلق الوعى والحلم بالإبداع والتغيير، ومن هنا يأتي الإصطدام. وقد أسفرت هذه العلاقة الجدلية بينهما الى حدوث صدامات تاريخية بين الطرفين أشهرها مقتل عبد الله بن المقفع (724 م ـ 759 م) مؤلف “كليلة ودمنة” في زمن الخليفة العباسى المنصور بابشع ميتةً، وما حدث بعد ذلك للفيلسوف ابن رشد في قرطبة بين 1126 – 1198م، حين قام الخليفة أبو يوسف يعقوب المنصور بنفيه وحرق جميع مؤلفاته الفلسفية وحظر الإشتغال بالفلسفة والعلوم، بالإضافة إلي ما تعرض له الكاتب أبو حيان التوحيدي من موقف مشابه ايضاً لما حدث مع ابن رشد، وهكذا يمتلئ التاريخ العربي القديم منه والحديث باحداث جسام تروى لنا مشاهد المد والجزر والمهادنة والحرب بين المثقف والسلطة، في محاولة من كل طرف أن ينحو إلى إستغلال الطرف الآخر بشكل يرضيه، ويحقِّق مصالحه وغاياته”.

مؤكدة علي أن “علينا في الوقت المعاصر التسليم بإنحسار دور المثقف، نظراً لما يمر به العالم من ثورات فارقة ونوعية في مجال التكنولوجيا والمعلومات والتطور الخيالي لوسائل الإتصالات والتواصل الإجتماعي، بالإضافة إلى ظهور خطاب يميني شديد التطرف والعنف نَصب نفسه مالكاً للحقيقة ونافياً للجميع دون إستثناء، كل ذلك جعل المشهد الثقافي يعيش أضعف حلقات تأثيره عبر التاريخ. كما اتاحت الفورة التكنولوجية أخيراً فرصة سماع أصوات قُمعت وكُممت لسنوات طويلة بعد إكتشاف المثقف العربي لوهمه الذى عاش فيه لعقود طويلة يظن بأنه يقود الجماهير وقدرته بإشارة من قلمه على إلهاب مشاعرهم وتغيير مساراتهم، إنكسرت تلك الخرافة للأبد، بجانب دور التكنولوجيا الهائل في إختراق منظومة الثقافة والإعلام القديم الذي كان يروج دائماً لثقافة الممنوع والمحظور”.

“الثقافة المعاصرة ليست مهنة بل القدرة على النقد والتحليل وتوفر فرص التغيير، والمكان الوحيد للمثقف بين الجماهير وليس قيادتها، لأننا لم نعد في حاجة للمثقف الأيدولوجي بل نحتاج للمثقف العضوي القادر على إنتاج المعرفة، يكفي أن تقارير قياس إنتاج المعرفة الصادرة عن الأمم المتحدة تضع العالم العربي بشكل عام في تصنيف متراجع دائماً، وهذا ما يجب أن يوليه المثقف أهمية قصوى، مدركاً أن إنتاج المعرفة أصبحت قضية وجود”.

كان لمصر نصيبها من التخلف وتدني الحاضر الثقافي العربي لانها جزء منه، كما يقر بذلك الناقد والمفكر المصري “د. سمير غريب”، “فقد عاش المصريون قروناً من التخلف منذ إنتهاء الدولة العباسية الأولى وحتى حكم محمد على في القرن التاسع عشر. بدأ محمد علي في تغيير الواقع في مصر واستمرت رحلة هذا التغيير مع الإستعمار الإنجليزي وحتى ثورة 1952 التي بدأت تغيير الواقع بشكل مختلف عما سبقها. سرعان ما توقف هذا التغيير مع هزيمة 1967 وعادت مصر إلى الوراء بسرعة رهيبة بسبب نظام الحكم الذي بدأ مع أنور السادات وحتى الآن، النظام الذي سمح بولادة ونمو الإتجاهات الدينية المتخلفة والإرهابية التي عمقت من واقع التخلف، هذه بإختصار شديد رحلة مصر مع التخلف. والحل في نظري يكمن في إعلان تغيير جذري في الواقع المصري يستند على ثقافة متقدمة متحررة”.

معني التخلف

يري أستاذ اللسانيات والمعارف “د. عمر العباسى”، أن “دور العلم الشرعي توفير فرص بناء الإنسان الذي يقود البناء المادي، فلا يمكن الإستغناء عن بناء الإنسان اولاً نظراً لإعتماد أي نهضة وتنمية عليه. هنا يجب علينا بداية تحديد معني التخلف الذي يعانيه الواقع الثقافي العربي، نحن كمسلمون التخلف لدينا راجع إلى الإبتعاد عن منهج الله تعالى، لكن ما هذا المنهج تحديداً؟..

هل هو الخطاب الديني الموجود على الساحة وكثرة المفتين والعلماء، بالتالي يجب تجديده وتغييره، وهذا مستحيل لأنه شرع منزل وحي من الله، لكن ما لا يفطن إليه هؤلاء العلماء والدعاة، هو تصحيح الخطاب الديني وليس تجديده وهي عملية يتصدر لها المثقفين، فالإسلام دين جمعي يتشارك فيه المسلمون بناء حضارتهم”.

في سياق مشابه يري الناقد والشاعر “د. عبد الحكيم ذرد”، ان المسألة تتمحور في الصراع بين الإسلام الإنسانى والإسلام تحت سلطان سادات الدنيا واصحاب الثروة والجاه، مما انتج تفسيرات لنصوص الدين حسب ما يعضد سلطان الحاكم ويعدم العدالة الإجتماعية بحصرها داخل دور الصدقات وترتبط في الواقع بما يجود به اصحاب اليد العليا دون الإلتفات إلي حقيقة ان المقصد الرئيسى لاى دين هو الوصول إلى العدل وأوله العدالة الإجتماعية، فوجهوا كل الاحاديث الدالة على أن الأصل هو العدالة وأصلها أن المال مال الله ونحن مستخلفون عليه مروراً بحديث الفضل إلى حديث المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص وغيرها الكثير من الاحاديث والسنة المطهرة احالوها بدراسات فقهية إختلقوها إختلاقاً وكأنها من علوم الكلام، ترسيخاً لفكرة ان العدالة ليست قاعدة وانما القاعدة الاصيلة هى تفضيل الله لبعض خلقه علي بعض درجات فى الرزق ورفعهم فوق بعض درجات، وكأن الله سبحانه أراد الجوع والمرض والعرى للفقراء، على عكس المعنى الحقيقى للتفضيل والرفع بأنه تفضيل إدارة وليس تفضيل إمتلاك، فالأفضل أفضل بقدرته على إدارة رأس المال لصالح البلاد والعباد وليس المقصود هو الربح كما رسخ فى ذهن العامة والمتعلمين واورثه علماء الكلام، حتى وجدا العامى الفقير يقول “الحمد لله الذي فضل بعضنا علي بعض فى الرزق”.

وعن أسباب جهل المثقف العربي المعاصر، فيرجعها “ذرد” إلي ضعف الإيمان الذي يعانيه بعض الشعراء والكتاب العرب فعلاً، او عدم فهم حقيقة الدين ورسالته في تحقيق الحياة السعيدة، أو مرجعه امراض النفس وشهوات الدنيا فيصبحون انفسهم سجن حقيقي للعقول والأرواح كما هم سجناء أهوائهم الشخصية المتدنية، فيجب مقارعتهم بالمبدعين الحقيقيين لإظهار عجزهم ومرضهم. مقترحاً لحل إشكال الواقع الثقافي العربي الضعيف “تغييرالقائمين على الإعلام ومناهج التعليم الخاص بالعلوم الإنسانية وعلوم الفكرالدينى، بالإستنباط من أصول الفكرالقائم ما يصلح الواقع وإن لم يجد فى القديم فيترك للنبغاء من أهل العلم الإحرارالمتجردين من مظاهر الترف فى الحياة، وهذا من وجهة نظرى هو الفيصل بين أهل الفكر الحقيقى واهل التجارة والتزييف”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة