حاورتها – سماح عادل :
الشاعرة والناقدة الجزائرية “شامة درويش” متخصصة في النقد المعاصر وقضايا تحليل الخطاب.. حصلت على الجائزة الوطنية الثانية في “مهرجان الشعر النسوي” بقسنطينة عن ديوان “جدائل متمردة” 2013، كما فازت في المسابقة العربية “القلم الحر” بمصر 2014 في الشعر.. حاورتها (كتابات) عن ديوانها “كعب يمشي على حافة الألوان”.. وعن النقد العربي:..
(كتابات): لِم اخترتِ طريق الكتابة ؟
- إنّ حضور الذات في المشهد التأويلي هامّ.. والذات باعتبارها فاعلاً في العملية التأويلية، تنقسم إلى شقّين، ذات مبدعة وذات قارئة متلقيّة، وما يحدث بينها وبين النصّ من تفاعل يكون إنتاجاً آخر، مع احترام المعنى الأصلي للنص، إنّ عمليّة الإنتاج هذه تحيلنا على الكتابة.. فالإنسان تقاس إنسانيته بالكتابة، لا بكونه موجوداً، وهذا ما أثبتته جميع النظريات والمناهج على مرّ التاريخ، ولو حاولنا استحضار معارفنا المفترضة ووضعناها جانباً، لاسيما ما يتعلّق بمسألة التفكير، نكون في مواجهة سؤال: هل نحن موجودون لأننا نفكّر، أم أنّ مسألة وجودنا ترتبط بقضيّة الكتابة ؟.. ربّما إنسانيتنا تتحقّق حينما نكتب، ومنه يمكن القول إنّ اختيار الكتابة كوجهة أبدية كان اختياراً للبقاء أطول مدّة زمنية، أو للخلود، ذلك هو الاختيار الإنسانوّي الأكبر، فشتان بين مستهلك ومنتج مبدع.
(كتابات): العبث.. الغرائبية.. السخط على العالم.. الوجع المختفي وراء السخرية.. لما يمتلئ شعرك بذلك ؟
- العبث والتحدي واللامبالاة والغرائبيّة أنماط حياة.. إن لم نقل هي أنماط كتابية، ظهرت في منتصف القرنِ التاسع عشر بعد أحداث الحرب العالمية الثانية ومخلفاتها في النفوسِ والأفكارِ ونظمِ الحياة، إذ أصبح الإنسان يشعر بالتشظّي والتشيّؤ، واللاجدوى، وقد أُسِّستْ الكثير من المدارسِ في أوروبا على خلفياتها، كما أنّ العالم ينحصر بين فلسفتين، ألفة وغرابة كما يقول “غادامير”، والعالم والحياة لا يكونان في حالة الجدّ إلاّ إذا جعلناهما محلّ سخرية وعبثنا بهما.. ففلسفتي تجمع بين الجنون والعقل، بين الفوضى والرتابة، بين التوتّر والاستقرار، كلّ هذا لا يتحقّق إلاّ إذا حدث التمرّد، هذا الأخير الذي يعطي للحياة قيمتها الكبرى، ولا يحاول محاصرتها، لأنّه باختصار يحرّض روح التفكير، والبحث عن القيمة الحقيقيّة للإنسان خارج أطر الدين والمجتمع، لم يكن هذا غريباً عن معظم الكبار في العالم، وهنا سأكتفي بذكر أنموذجين.. الكاتب الفرنسي “ألبير كامو”، الذي تقاطع مع “سارتر”، ومزج فلسفته الكتابية بعبثية الوجوديين وشيوعية الماركسيين، و”بشار بن برد” الذي كان ذا نزعة وجودية عبثية، وهي نزعة قامت على الحيرة العقيديّة، والإقبال على اللذة بالمرأة والخمر والإيمان بالحرية الفردية، والرهبة من الموت، فالسخرية هي وجع مزدوج، ولا يكتب الشعر سوى ذات موجوعة معجونة بالخيبات.
(كتابات): ما رأيك في هجوم البعض على قصيدة النثر ورفض اعتبارها شعراً ؟
- سأكتفي بالقول هنا (ما الذي جعل أهل قبيلة قريش يقولون عن النبيّ الكريم أنّه شاعر) وهم أهل القصيدة والشعر والبيان؟.. أليس هذا أكبر دليل على دهشتهم من هذا “التعبير” الغريب عنهم، والذي لا تلفّه أحضان الوزن والقافية كما يحدث ذلك في شعرهم؟.. ورغم ذلك قالوا عنه شعراً.. الشعر يا سيّدتي هو ما يحدث الدهشة داخلنا، ما نشعر ونحن نقرأه بالاختلاف، بلا نمطية الصورة، فكم من نصوص موزونة كانت أقرب إلى النثر من الشعر، وكم من نصوص منثورة أحدثت رهبة الشعر رغم غياب الوزن، قصيدة النثر بالنسبة لي قضية مفصول فيها منذ “أدونيس” رغم كلّ ما قيل، وهي الأبقى ومع ذلك لا يمكن تجاهل الوزن وأنا المفتونة به، وقد كانت لي تجارب كثيرة في هذا الجانب، إلاّ أنّني كنت أشعر بضيق الصورة داخلي.
(كتابات): باعتبارك متخصصة في النقد المعاصر.. هل يمكن الحديث عن نقد عربي.. أم أنها محاولات نقدية تستمد مرجعيتها من النظريات النقدية الغربية ؟
- جُبِل العربيّ على النقد والذوق والتمييز بين الغثّ والسمين.. فمنذ “سوق عكاظ” وملكة النقد لها وجودها، وهذا أمر دعمته بلاغة وفراسة العربي وطبعه المفطور على الفصاحة والبيان، ومن هذا الباب يمكن القول: إنّ النقد متوافر عند كلّ إنسان يتذوّق الأدب ويتلمّس قضاياه، إلاّ أنّ المتخصّصين في النقد ليسوا بعدد الكتاب، أو لنقل ليست هناك متابعة دائمة لحجم الإصدارات الكبيرة التي تغزو السوق كلّ عام، وهكذا تبقى المتون الإبداعية حبيسة المكتبات والأدراج، ضف إلى ذلك اهتمام الأكاديميين بفئات معيّنة من المبدعين، وتجاهل البعض، لسبب أو لآخر، ثمّ إنّ المرجعيات الغربية (لا سيما ما يخصّ المناهج الحداثية منها) تعدّ مرتكزاً رئيساً في إخضاع الخطاب لما يصطلح عليه آنيا (تأويل النصوص) أو وضعها تحت مجهر المنهج، ذلك أنّ الدارس لا مفرّ له إلاّ إلى هذه الدراسات الغربية، في تفكيك النصوص وتأويلها، لأنّ الدراسات العربية بقيت تستهلك ما يصدّر إليها من الغرب رغم رفض الكثيرين لهذا الإقرار، فلا يمكن الحديث عن بنيوية عربية ولا عن سيميائية عربية ولا عن هيرمينوطيقا عربية ولا عن لسانيات عربية، إلاّ ما تركه السابقون كإرهاصات أوّلية لم تبن على إثرها دراسات تعمّقها أو تثريها، ولهذا السبب تحديداً نجد أنفسنا مضطرين لا مخيّرين في تطبيق هذه المناهج على نصوص إبداعية وغير إبداعية.
(كتابات): ما رأيك في حال الثقافة في الجزائر والعالم العربي ؟
- الثقافة في كلّ العالم تتطعّم من القراءة والاهتمام.. والجزائر جزء من العالم ومن العالم العربي تحديداً، لذلك ما يقال عن بلدي هو تقريباً ما تشترك فيه بقية الدول العربية مع اختلاف نسبي عند كلّ بلد، فالثقافة تحتاج إلى صالونات للشعر والسرد، وتحتاج إلى دوريات للنشر، وتحتاج إلى مسؤولين يدعمونها على مرّ العام، وتحتاج إلى بيئة اجتماعية تقدّر الكتابة، وتقرأ ما يصدر، وتتابع الكتاب والكتّاب كما تفعل مع الماء والهواء، وهذا غير متوفّر للأسف في بلداننا، لأنّ الحروب قتلت في المواطن البسيط الاستقرار، ونحن نعلم أنّه أهمّ عامل يمكنه توفير جوّ ثقافيّ، يؤسّس لمشهد متكامل نسبياً، كما أنّ الدول المستقرّة أمنياً تعاني مأزقاً اقتصادياً أو اجتماعياً، هذا وتبقى الثقافة المخرج الوحيد من أزمة تخنق الذات الكاتبة من قيد الحصار إلى فسيح الحرية.
(كتابات): لم الرجال في شعرك يرتدون أجساد النساء أو يأكلونها كطعام ؟
- أحاول التنويع في مواضيع الكتابة.. لأنّ تكرار ما يكتبه الآخرون يعدّ عجزاً عن الإبداع، أو تقليداً لما يكتبه غيري، وفي اعتقادي أنّ نصّ (ضمير مضمر/ظاهر) أكثر النصوص جدلاً في المجموعة الشعرية “كعب يمشي على حافّة الألوان”، ذلك أنّه يحكي عن فئة الرجال، ونظرتهم إلى المرأة، أو نظرة المرأة إلى الرجل، وهي في الحقيقة نظرة الثقافة التي أعطت الرجل صلاحيات لا تمتّ للمعتقد أو للإنسانية بشئ، ثقافة جعلت جسد المرأة وساطة للخطيئة، أو مكاناً لارتكاب هذه الخطيئة، متناسية أنّه الجسد نفسه الذي تناسلت منه سلالات الأنبياء والقدّيسين وعظماء العالم، وأعتبر نصّ (ضمير مضمر/ظاهر) رسالة لإعادة النظر في مسألة الجسد (جسد المرأة)، وجعله مكاناً لاكتشاف الوجود، بما هو حياة.. أحببت كذلك منح هذه الكينونة بعدها الكوني، كما أنّ ذاتي الشاعرة تقول: توقّفوا عن ارتداء أجساد النساء وقت الحاجة، واجعلوهم جلداً ولحماً ودماً وروحاً، تشعرون بوجعها كلّما مرّت عليها هبّة ريح.
(كتابات): هل يمكن اعتبار كتابتك كتابة نسوية تتمرد على سطوة الرجال وامتلاكهم قرون من الحروب والنفاق والانتصارات الزائفة ؟
- لا أحبّ تصنيف ما أكتب.. ولا أسعى إلى تكرار تجاربي في الكتابة.. أحاول جهدي كي أتميّز في كلّ عمل أصدره، كما أنّني لا أؤمن بامرأة كاتبة ورجل كاتب، بل أشعر أننا كيانان إنسانيان نكتب لذات إنسانية تخالفنا الرأي والثقافة، نحن نكتب ذواتنا متخلّين عن فكرة الجنس والإجناسية، في الآن نفسه أعترف أنّ التاريخ كُتب بيد رجل منتهٍ في الذكورة، ولم تكن المرأة – كذات تشترك معه في كلّ شئ – حاضرة في كتابة هذا التأريخ، من هنا بقي السؤال مطروحاً، هل كلّ الانتصارات المنسوبة للرجل كانت حقيقية، أم أنّها نسبت إليه من باب امتلاكه للسلطة؟.. إنّ هذا الزيف في التأريخ، هو انتصار لفعل الاعتلاء، اعتلاء الرجل الحكمَ، واعتلاؤه جسد المرأة واعتلاؤه القرارات، في حين لا يمكنه فعل ذلك كلّه دون ذات إنسانية خُلِقت لكي تعدّل مزاج الكون المتقلّب، وتبثّ فيه روح الجمال.
(كتابات): تكتبين القصة وتكتبين الشعر هل تعدد أشكال الكتابة يكشف عن ذات ثرية أم حائرة ؟
- إنّ حضور الحيرة دليل على حضور (اللغز) في الكتابة، لا سيما أنّ ما يشغل الشعر خاصّة هو حضور السرّ، سرّ لا يصيبه الوهن، سرّ يجد له مكاناً بين الغموض واللباقة، سرّ الذات القلقة وجودياً، اللاّمستكينة للراهن وللمسكوت عنه، حيرة تدفع الشعر والنثر معاً للخروج إلى عوالم التأويل، الحيرة ثراء في التفكير، وتنويع في ممارسة الغواية الفنية، والانتقال بأريحية بينها، دون الشعور بذلك.
(كتابات): سخرت من وسائل التواصل الاجتماعي والواقع الافتراضي.. هل ساعدتك وسائل التواصل الاجتماعي على الوصول للقراء ؟
- تعدّ وسائط التواصل الاجتماعي ميزة عصرنا.. الذي لم يعد يعترف بالحدود الجغرافية، ولا حدود الصورة والصوت، ولا حدود الحدث، إذ أصبحت خادمة مطيعة لكل ذات طامحة، فأصبح الكاتب مجرد اسم وحروف تتحكم فيها كبسة زر للوصول إلى العالم بأسره، لهذا السبب تحديداً أقول (المجد لهذه الوسائط الإلكترونية) التي خلقت لي أصدقاء وجمهوراً يتابعني في كل مكان، جمهور اختار الكتاب للتواصل، أمّا عن سؤالك، فأنا لم أسخر من وسائل التواصل الاجتماعي، بل رصدت ظاهرة (vpn) البديلة عن تدفق شبكة الانترنت، وقد تزامن ذلك مع الامتحانات الرسمية في الوطن، حاولت رصد الظاهرة بطريقة ما، وجعلتها نصّاً شاهداً على الحدث.
(كتابات): هل واجهت صعوبات في طريق الكتابة.. في النشر وفي قبول شعرك ؟
- ككلّ المبتدئين أخذت نصيبي من التحايل على مجهودي في النشر.. في التجربة الأولى، وهو أمر غير أخلاقي تماماً، إلا أنني تجاوزته في التجربة الثانية لما طبعت المجموعة الشعرية (كعب يمشي على حافة الألوان) مع دار الألمعية.
الكتابة نبضي الذي يحرّكني، فمنذ طفولتي وأنا أحاور الألوان والموسيقى، والحروف، لذلك جعلت من كلّ ظرف صعب مساحة للإبداع، ولم أتوقف يوماً عند حاجز يمنعني من الوصول، أمّا ما يخصّ مسألة قبول نصوصي فتلك خطوة ينبغي لها الصبر والعمل الدائم، والتجديد في المواضيع والإتيان بمعان غير مألوفة، لأنّ القارئ الحداثي لا تستهويه النمطية، ولا المواضيع المهضومة، لهذا السبب تحديداً أحاول تطويع كلّ التقنيات الحداثية للانتشار أكثر وقبول نصوصي لدى القارئ، وتبقى توقعات الكاتب ذاتية، لأنّ القبول تحدده أطراف أخرى.