كتب – هاني رياض :
تحمل زيارة وفد من العراقيين المسيحيين لكربلاء يوم الأربعاء الماضي، وزيارة الأماكن الإسلامية المقدسة، وإقامة أول قداس مسيحي في بقايا كنيسة “الآقيصر” الأثرية غرب كربلاء، العديد من الرسائل والدلالات الإيجابية، فهي من ناحية تمثل تأكيداً على الوحدة والأخوة الوطنية بين شعب العراق بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية التى يحاول البعض بث الفرقة بين أبناء الشعب الواحد، والتى أشعلت وسائل التواصل الإجتماعي، واستدعت أن يصدر المرجع الديني الأعلى السيد “علي السيستاني” بياناً ينتقد محاولة الفرقة والوقيعة بين المسلمين والمسيحيين، وبقية الأديان الأخرى الشريكة في الوطن.. ومن ناحية أخرى الفائدة والقيمة الأثرية والسياحية التى تمثلها الزيارة ومحاولة إحياء وترميم الكنيسة الأثرية التى بنيت في منتصف ستينيات القرن الخامس الميلادي، وهي الكنيسة الأقدم في الشرق الأوسط، والوحيدة في غرب كربلاء، والتي تشير إلى احتمال وجود مدينة كاملة أسفل المنطقة التي بنيت فيها الكنيسة.
تاريخ الكنيسة ووصفها..
تبعد كنيسة “القصير” بحوالي 60 كم غرب محافظة كربلاء، والتي تضم مرقدي الامامين “الحسين”، واخيه “العباس” عليهما السلام نجلا الإمام “علي بن أبي طالب”، وتقع على بعد 5 كم من قصر “الأخيضر” الأثري المعروف، وتشير الدراسات إلى أن الكنيسة تعود لمنتصف ستينات القرن الخامس الميلادي، أي قبل ظهور الإسلام بـ120 عاماً، ويرجع المتخصصين تسميتها “بالقصير” أو “بالآقيصر” تصغيراً لكلمة القصر، حيث انها تشبه القصر، وهى بالقرب من “عين التمر” إحدى مدن مملكة “المناذرة” التي حكمت العراق قبل الإسلام، وقد هاجروا إلى العراق واتخذوا من “الحيرة” عاصمة لهم، وقد أسسوا مدناً عديدة في العراق منها “النجف، وعقولا، وعين التمر، والنعمانية، وأبلة، والأنبار، وهيت، وعانة”، وتعتبرمملكة المناذرة من أقوى ممالك العراق العربية قبل الإسلام، فكانت هذه المملكة هي امتداد للمالك العربية العراقية التي سبقتها مثل مملكة “ميسان” ومملكة “الحضر”، وقد امتد سلطان مملكة المناذرة من العراق ومشارف الشام شمالاً حتى عمان جنوباً متضمنة البحرين وهجر وساحل الخليج العربي، وقد استمرت مملكتهم في الحيرة من “266م – 633م”، حتى احتل الفرس تلك المملكة فأصبحت تابعة للفرس.
تم العثور على بقايا الكنيسة الأثرية أثناء التنقيبات التي أجريت عام 1976 – 1977، وتبلغ مساحتها نحو 1170 م مربع، ويبلغ طول بناء الكنيسة 16 متراً، وعرضها 4 أمتار، وهي مبنية من “الطابوق المفخور” أو الفرشي، ويحيط بالكنيسة من الخارج سور من الطين يحتوي على أربعة أبراج، كما يحتوي السور على 15 باباً للدخول، تحتوي الكنيسة على سبعة مداخل، وفي القسم الشرقي منها ثلاث حجرات تعلوها قباب صغيرة، وقاعة كبيرة للطقوس، وإقامة الصلاة تعلوها قبة ضخمة، أما المذبح تحتوي جدرانه على زخارف دينية، كما تحتوي الكنيسة على كوة بداخلها عقد بيضوي، وتوجد على جدران الكنيسة كتابات آرامية تعود إلى القرن الخامس الميلادي.
ويوجد بجوارها على مسافة حوالي 20 متراً مجموعة من القبور، وهي تنقسم إلى مجموعتين، المجموعة الأولى تخص رهبان الكنيسة، والمجموعة الثانية لعامة الناس من المسيحيين الذين يقومون بالدفن بجوار الكنيسة، كان كل مجموعة من هذه المجموعتين تحتوي على بناء حجري يضم الرفاة، فيما يغطى اللحد بحجر كبير، أما جدران القبور فهي مكسوة بالجص، واتجاه هذه القبور يكون دائماً باتجاه بيت المقدس، ويبلغ عمق كل قبر اكثر من 125 سنتيمتر، وطوله 120 سنتيمتر، فيما يبلغ عرضه 60 سنتيمتر، ومازال المسيحيين الكلدان يقومون بزيارة الكنيسة كل عام لإحياء القداس وإقامة الصلاة في مذبح الكنيسة.
الكنيسة بين المخاطر والفرص..
تعرضت كنيسة “القصير” إلى العديد من العوامل التي جعلتها مكاناً مهملاً وخرباً، سواء عوامل طبيعية مثل التعرية والرطوبة التى دفنت الكنيسة بالرمال، مما أدى إلى اغلاق أبواب الكنيسة الخارجية بطبقة من الجص والحجر، وعوامل بشرية من إهمال وسرقات ونهب لقبور الكنيسة التاريخية بعد احتلال العراق فى عام 2003، فقد تعرض أكثر من 30 قبراً للنبش من قبل اللصوص الذين اعتقدوا بوجود كنوز من الذهب والفضة والتحف داخل القبور، كما تعرضت الكنيسة للتخريب بسبب تحويل النظام السابق المنطقة الأثرية إلى ثكنة عسكرية للتدريب مما زاد من تدهور وتخريب الكنيسة الأثرية.
استطاع الوفد المسيحي الذي زار الكنيسة الأثرية لفت الانتباه لقيمة الاهتمام بالموقع الأثري وضرورة ترميم الكنيسة، وإصلاح ما تهدم منها، والإهتمام برصف الطريق الموصل إلى موقع الكنيسة، فمن الناحية السياحية تمثل الكنيسة فرصة لإنعاش حركة السياحة الدينية فى كربلاء، وتنوعها ما بين الإسلامي والمسيحي، بالإضافة إلى القيمة الأثرية لمكانة الكنيسة التاريخية باعتبارها أقدم كنيسة فى الشرق، وإمكانية حشد الإمكانيات والجهود الداخلية فى العراق لترميم الكنيسة، فضلاً عن الإستعانة بمنظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة “اليونسكو” التي قامت بزيارة موقع آثار كنيسة القصير، وقيل إنها وقعت مذكرة تفاهم مع حكومة كربلاء لإعادتها إلى لائحة التراث العالمي.
أخيراً يمثل الاهتمام بالكنيسة وترميمها رسالة قوية إلى الشعب العراقي بضرورة التلاحم الوطني ونبذ التطرف والفرقة بين أبناء الشعب الواحد، وأيضاً إلى الخارج بأن العراق سيظل وطناً لجميع العراقيين، وممثلاً وجامعاً للتنوع الثقافي والحضاري والديني لكل أطياف العراقيين كما كان عبر تاريخه الحضاري الممتد لآلاف السنين، فهل تنجح الحكومة العراقية في تحمل مسؤوليتها التاريخية فى الداخل والخارج ؟.