في الصفحة الأولى من روايتي “وشم وحيد” (2011) وقبل كتابة الإهداء، آثرت أن أسجل وصف ابن بطوطة لمصر “يستبد العسكر، والشعب يئن تحت وطأة الحكم، ولا يهتم الأقوياء بذلك، والعجلة تدور”. كان الشعب قد أنجز مهمة خلع حسني مبارك، وظننا في أيام البراءة أن الثورة ستخطو تلقائيا وترسّخ مبادئها، ولم ندرك أن طيّ صفحة مبارك بداية جهاد أكبر؛ لتنزيه الأنفس عن شهوة الانقضاض على المكاسب الصغيرة وإغراءات الملك، وظلت سفينة الثورة تراوح مكانها، فتميل إلى اليمين وإلى اليسار، ولم أتخيل أن تستقر بحمولتها في أوحال ورمال، لتنفذ فينا بصيرة ابن بطوطة، بجملة دالة لا تزيد على 13 كلمة.
الأدب العظيم ليس فقط ما يمنحنا فرص إعادة تأويله، فيستجيب لجديد أبعد من زمن كتابته، وإنما هو الذي يتقصّى أحوالنا، بقدرته على أن يقرأنا، متجاوزا وعي قائله وثقافة عصره.
خلافا لابن بطوطة كتب عن مصر رحالة ومفكرون، فابن خلدون وصف القاهرة بأنها “حضرة الدنيا، وبستان العالم، ومحشر الأمم، ومدرج الذر من البشر، وإيوان الإسلام”. ونقل قول قاضي العسكر بفاس للسلطان في مجلسه “إن الذي يتخيله الإنسان، فإنما يراه دون الصورة التي يتخيلها، اتساع الخيال عن كل محسوس، إلا القاهرة، فإنها أوسع من كل ما يتخيله فيها”، فأعجب وصفه السلطان. أما نقولا زيادة فكتب تحت عنوان “هذه هي المدينة” أنه في القاهرة رأى “مدينة لأول مرة. القدس ودمشق وحلب وبيروت بدت لي قرى كبيرة جدا بالنسبة إلى هذه المدينة… في القاهرة عرفت معنى المتحف. باختصار بهرتني القاهرة المدينة”.
في قلب لوحة متغيرة لهذا الكيان البشري والعمراني والمعماري الكبير يصعب إدراك تفاعلاتها وتحولاتها، فلا يلاحظ الأبوان تغير ملامح ابن لا يفارقهما، في حين يسهل على عين لم يطفئ القرب بصيرتها وينزع مهاراتها في الرؤية أن تبصر، بموضوعية وعدوانية أحيانا، تفاصيل تذوي أو تضاف بين زيارة وأخرى. لا تتشابه رؤى ومشاهدات عبدالكريم غلاب ومحمد برادة ورشيد يحياوي ومحمد مشبال وأحمد المديني وأحمد برقاوي وخالد عمر بن ققة وخليل النعيمي.
كل يرى -ويجدـ في القاهرة ما يود. فيكتب سلطان القاسمي باطئمنان “ما أكثر المؤمنين فيك يا مصر”، أما خالد النجار فيؤمن بما يسميه البعض “مرحلة الليبرالية” ولا يحب تجربة جمال عبدالناصر، ويكره ثورة يوليو 1952 وآثارها التي ليس منها بالطبع سياسات أنور السادات. كان النجار ينتظر صلاح عبدالصبور في مكتبه بالهيئة المصرية العامة للكتاب وفوجئ بإسرائيلي، “هذا الغازي… شعرت وكأن نصلا حادا وباردا يخترقني… كانت لحظة رهيبة تكشف لي فيها مدى السقوط الساداتي ومدى الغياب العربي عن التاريخ”.
العين الأجنبية غير المتورطة في عداء أو محبة هي الأكثر حيادا. من هذا النموذج المستشرق الروسي جينادي جورياتشكين، وقد ترجم نبيل رشوان كتابه عن المؤرخ المصري رؤوف عباس، وفيه تأملات ربما لا تجذب انتباه المواطن المصري. غادر جورياتشكين موسكو للمرة الأولى عام 1967 ليدْرس في جامعة القاهرة لمدة سنة، وعاد إلى مصر عام 1969 كمترجم عسكري ممنوع من القيام بأيّ عمل بحثي.
أول درس كان تحذيرا من رئيس قسم الأدب العربي في معهد اللغات الشرقية بجامعة موسكو ألا ينسى الفصحى؛ لأن العامية المصرية “طاغية جدا، وهي تحاول أن تأكل لغتنا الفصحى!”. ونصحه بأن يقرأ 30 دقيقة أسبوعيا بصوت عال، ليحافظ على ضبط نهاية الكلمات، ولا يهم محتوى النص، فاختار مقال “بصراحة” لهيكل، واستغرب زملاؤه واعتبروه مجنونا، ولكنه صان لغته الفصحى وجوّدها. لم يتوقف الكثيرون أمام حال الفصحى المنطوقة في مصر، هذا غير خاف بعد أن وضعتها الفضائيات في الواجهة، فلا يصمد مثقفون مصريون في مناظرات أمام ضيف شامي أو مغربي لا يجد صعوبة في الاسترسال بفصحى لا تسعف المصريين. ويسجل جورياتشكين أن أستاذة اللغة والأدب في جامعة القاهرة “كانوا ينتقلون للحديث بالعامية”، فيضطرب الوافدون.
حضر جورياتشكين عام 1986 إلى القاهرة كباحث، وتزامن وصوله مع تمرد جنود الأمن المركزي 25 و26 فبراير1986 “وكانوا مثيرين للشفقة.. بالإضافة إلى أن الضباط كانوا يهينونهم لدرجة الضرب”. كان في الجامعة غليان آخر، تلخصه ثلاث طالبات إحداهن منقبة، دخلن مكتب رؤوف عباس في حضور جورياتشكين، واتهمنه بأنه ناصري، وقال إنه ينتقد عبدالناصر والسادات، فأعطينه صورة، وقلن له “إذا لم تكن مؤيدا لناصر، اِلق بالصورة ومزقها الآن”. هذه الروح العدوانية تظهر في دار الوثائق بالقلعة، ملأ المؤلف الاستمارة، وتوقف أمام خانة الديانة، فسأل المديرة مدام سوسن ماذا يكتب؟ فجاء ردها “بشكل فج: أكتب شيوعي!”.
نقلا عن العرب