كان اليميني الفرنسي فرانسوا فيون يتوجه للفوز بالانتخابات الرئاسية الفرنسية قبل أن تتراجع شعبيته بصورة دراماتيكية إثر الكشف عن فضيحة فساد عصفت به ودفعت إلى سدة الحكم بإيمانويل ماكرون. لم يكن الرئيس الشاب ليحظى بتلك الفرصة لولا فضيحة انتهاك الأخلاق السياسية وانكشاف “الحقيقة”. لكن الأمر ذاته لم يحدث مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي كان قد تعرض خلال حملته الانتخابية لسلسلة فضائح لم تغير من ولاء ناخبيه.
والحال أن السيناريو الفرنسي وليس الأميركي هو الشائع في الديمقراطيات الغربية. إذ من غير المتوقع أن تمر فضيحة أخلاقية تحظى بتغطية وسائل الإعلام من دون محاسبة الناخبين الذين يتأثرون بشدة بأخلاقيات وسيرة المرشح أكثر من سياساته كما تؤكد دراسات الرأي العام.
في حالة ترامب، ظهر تحيز وتطرف مناف للعقل السياسي الوسطي “السليم” في تلك الديمقراطيات. دافع مؤيدو دونالد ترامب عنه بجنون يقل نظيره. تضمن ذلك رفض حقيقة تغير المناخ أو لقاح الأطفال تماشيا مع المزاج اليميني للرجل. رفض مؤيدوه كل حقيقة صادرة عن المعسكر الآخر رغم كونها حقيقة لا تقبل التشكيك.
لا تعتبر تلك أجواء مناسبة للديمقراطية. إنها أجواء الحرب الأهلية حيث تنتفي الحقيقة ويطغى النزاع على كل تفاصيل الحياة اليومية قبل السياسية. هكذا راح محللون كثر يعتبرون ذلك الاستقطاب السياسي الحاد أهم تهديد للديمقراطية وللاستقرار السياسي الذي تعيشه البلاد.
أكد سلوك ترامب قبل وبعد الانتخابات ذلك التهديد. إذ وبسبب معرفته بهذا الاستقطاب ومساهمة حملته الانتخابية بصورة رئيسية في صناعته، رفض قبل أيام من الانتخابات التأكيد أنه سيقبل النتيجة النهائية حتى لو لم تكن في صالحه. شعر بأنه يتمتع بقاعدة واسعة من الموالاة التي تشكل عادة حجر الأساس في بناء الكثير من “الحركات الجماهيرية”.
ويشير استطلاع للرأي بوضوح إلى حدة ذلك الاستقطاب السياسي إذ في حين عبر نحو 75 بالمئة من الأميركيين في عقد الخمسينات عن عدم ممانعتهم أن تتزوج ابنتهم من رجل ديمقراطي أو جمهوري، انخفضت النسبة في العام 2016 إلى 45 بالمئة فقط.
شكل ذلك الاستقطاب السلاح الذي استخدمه الرئيس الجديد لمهاجمة “النظام” بصورة نظرية. ومع انتخابه انتقل إلى موقع الفعل. شهدت الأشهر الأولى لولايته تفضيلا صريحا للتصادم الفج بدلا من محاولة التحايل على المؤسسة الأميركية. لم ينتظر الرئيس الجديد سوى أيام قليلة قبل أن يصدر قراره بحظر السفر لمواطني سبع دول ذات غالبية مسلمة ليدخل في صدام مباشر مع القضاء الأميركي أظهر عدم اكتراثه بقانون توازن السلطات في هذه البلاد.
وتبع ذلك بمهاجمة وسائل الإعلام مدعيا أنها تبث “أخبارا مزيفة” وبكونها “عدوة الشعب الأميركي”. وأخيرا، والأهم ربما، هو تجاهله التام للحقائق البسيطة والدفع بأكاذيب صريحة لا يمكن الدفاع عنها. فتارة يدعي حصول تزوير واسع في أصوات الناخب الأميركي، وتارة يتهم الرئيس السابق باراك أوباما بالتجسس على إدارته. لا يبدو إضفاء صفة الجهل على تلك الأفعال مناسبا، إذ أثبتت إدارة ترامب أنها تتمتع بخبرة كبيرة في التخطيط وفي قراءة مزاج الناخبين والعمل على تحشيدهم لتحدي النظام.
اليوم، انتقل الهجوم على النظام إلى التدخل في سير التحقيقات المستقلة وذلك بطرده مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي جيمس كومي الذي يحقق بشأن تورط إدارة ترامب بالتنسيق مع روسيا للتأثير على نتيجة الانتخابات الأميركية. وتبعت ذلك سلسلة من التسريبات والأحداث التي أكدت أن الرئيس الأميركي كان مستاء ومحبطا بشدة من إصرار كومي على متابعة التحقيق.
يمكن أن يمثل هذا الحدث منعطفا في علاقة المؤسسة الأميركية مع الرئيس الجديد. لا يقتصر عمل الديمقراطية التمثيلية الأميركية على قوة المؤسسات والفصل والتوازن في ما بينها فقط، بل أيضا على إجماع الحزبين الرئيسيين وما يمثلانه من مصالح متضاربة على ضرورة استمرار عمل النظام بعيدا عن الخلافات السياسية. بمعنى آخر، هنالك مساحة محايدة بين الحزبين تمنع إمكانية تعطيل النظام بسبب الخلافات الحزبية. يمكن هذا العرف السياسي من تجاوز مشاكل الأزمات الدستورية وتعطل النظام السياسي والمضي قدما حتى في ظل مواقف ليست مواتية تماما لأحد الحزبين.
رفض ترامب العمل بهذا العرف السياسي الذي يمثله مدير الاستخبارات السابق جيمس كومي. فرغم انتمائه إلى الحزب الجمهوري وتعرضه للنقد من قبل الديمقراطيين لكنه كان يسير بالتحقيق إلى الأمام بما يخالف رغبة ترامب. إنها لحظة التصادم الأهم بين الرئيس الأميركي المتمرد والنظام السياسي وأعرافه التي تحظى بإجماع الحزبين.
نقلا عن العرب