كيرا مورادوفا المخرجة الأكراينية، من الكلاسيكيين الأحياء في السينما السوفيتية –الأكرانية- الروسية. واحدة من أكثر المخرجين حصدا للجوائز في المهرجانات العالمية المحترمة، على الرغم من أن أفلامها “ليست للجميع”. كانت من بين المخرجين السوفيت التي وُضعت أفلامه على الرفوف حتى أطلقت البيريسترويكا سراحها، وحتى روسيا “الديمقراطية” تجرأت ووضعت فيلمها “أعراض الوهن” على الرف، ليحصل بعد ذلك على جائزة أفضل فيلم روسي.حاورها المخرج الوثائقي بافل سيركوف،فأعجبني اللقاء ونقلته الى العربية، مختصِرا بعض ما رأيته محليا يخص الروس وحدهم.
• كيرا جيورجيفنا، ألم يبدو لك ،في لحظات الانقباض، أن تسجيل حياة مُتَخَيَّلة على شريط من السليلويد ( أو من أية مادة يصنعونه الآن) قد يكون عمل أشباح؟
ـ أية أشباح هذه، إذا كنت أنا موجودة. وأنا أمارسه. بما أننا بشر أحياء، فليس هناك أكثر حيوية منه. أشباح؟ هذا حين تنظر أنت، نعم انهم على الشاشة. لكن حين تعمل ذلك، تصنع من نفسك، من ما يحيط بك،من كل ما موجود. نظرتك إلى العاملين في السينما، تجريدية. العاملون في السينما محترفون خشنون، مثل الجراحين وأستطيع القول ،أنهم –أحيانا- مثل القصابين. وأنت تقول : عمل شبحي. نتيجة العمل يمكن أن تبدو شبحية. نعم، أوهام، لكنها تُنحت بالمطارق والفؤوس.وبواسطة وسائل تكون –أحيانا- قاسية جدا. كلا، جديا…
• أنا وثائقي.
ـ لماذا تسأل ، إذن؟
• هل ترين، أحيانا، يبدو لي أن هناك أشياء ضرورية للناس أكثر من الأفلام ، مهما كانت تلك الأفلام .
ـ ضرورية بأي معنى. مثل مرحاض، أو مثل ماذا؟
• مثلا، ضرورات حيوية.
ـ هكذا، ربما تكون السينما شيئا غير ضروري، ترفا. وكل الفنون ترف، غير ضروري. ترف ، أفيون، مخدرات. ثم ماذا؟ ولماذا على أن أصنع أشياء ضرورية للناس؟…
• أنا لا أؤكد ذلك.
ـ أنا أصنع ما يعجبني، إذا كان ذلك ممكنا، إذا حصل.
• هذا ما كنت أتوقع سماعه منك.
ـ هكذا-فقد سمعت.
• يقول الناقد فيكتور بوجوفيح ، أن أفلامك لا يوجد فيها أبطال ثانويون، وأن ظهور أبطالك ليس بسبب حاجة الموضوع. انه اختراق لواقع إنساني آخر. ومع ذلك يورث حرقة عاطفية. هذه تعابير الناقد. إنها معبرة..
ـ حرقة عاطفية- هذا جيد، على الأكثر… (تضحك)؟
• قلتِ أنكِ-في ما يخص سيناريو فيلم “الوداع الطويل” أخذت سيناريو جاهزا، ثم شرعت في إفساده بما يناسب ما تحتاجيه. فماذا تقصدين بذلك؟
ـ هذه كانت نكتة، بدرجة ما. في البداية رفضت نتاشا كل ما اقترحته عليها، مثل كل مؤلف يحب أعماله. فهذا يشبه تزويج ابنتك لرجل غريب. أما أنا فكان يبدو لي أني لا أفسد السيناريو بل أحَسِّنُه.
• لكنك أنت قلت هذا وأنا كررته.
ـ في نهاية المطاف،قبلتْ وجهة نظري، لكن ليس توا. لم يُعرض الفيلم مباشرة بعد إكماله. مرت سنة-ربما- وشاهدت نتاشا الفيلم، ثم شاهدته ثانية، ولم أعد أذكر أكتبتْ لي أم كلمتني بالتلفون ، وأخبرتني أنها شاهدت الفيلم –الآن- وبدون مشاعر السيناريو، وأنه أعجبها.
• هل تتصرفين هكذا –دائما- مع السيناريوهات التي يكتبها لك آخرون: تفسدين –كما تقولين-ثم تحَسِّنين كما ترينه مناسبا؟
ـ عملت-أيضا- مع جريجوري باكلونوفي ، لكننا كتبنا سوية.
• ومع ليونيد جوخوفسكي؟
ـ كان عندي سيناريو خاص بي، عن فالتنتينا وجيلوجي. وقرأت –مصادفة-قصة جوخوفسكي حول الجيولوجي وعاملة المقهى، حول علاقاتهما، وعن سفره إلى مكان ما.
• و على أية حال، أود توضيح علاقتك بالسيناريوهات التي يكتبها لك آخرون. وما هو الفرق في الاقتراب، حين يعود السيناريو لك وحدك؟ وهل يعاني التعديلات في عملية تحوله إلى فيلم؟
ـ السيناريو –بصورة عامة- لابد أن يخضع للتعديلات، حتى في فترات التصوير والمونتاج والتصويت. فالمكتوب على الورق، الذي هو الأساس الدرامي للفيلم، يختلف عن المُصَوَّر على الشريط، الذي يسمى المادة السينمائية. للمونتاج دراميته الخاصة،في تحويل النسب في تناسب الأجزاء ،المقاطع،المشاهد،اللقطات. فمن كيفية ما سأولف، يمكن أن يسقط جزء من الحوار، وتأليف حوار آخر يحل محله في التصويت، وقد تظهر ضرورة لإعادة التصوير.وإذا كانت إعادة التصوير ليست شائعة ، فان إعادة التصويت تحدث كثيرا. وهكذا، فمنذ مكان التصوير، يتبدل شيء ما طول الوقت. وقبل ذلك في السيناريو الأدبي، الذي نكتب على أساسه السيناريو الإخراجي. بعد ذلك ندخل الفترة التحضيرية . السيناريو الإخراجي المقطع إلى لقطات،يكون دليلا لاختيار الممثلين وأماكن التصوير الخارجية والداخلية. تنتقل من مكان إلى آخر، تفكر، تتكلم وتتكلم وتتكلم. وهذا يشرع في التغيير، مغنيا المشاهد والحلول والحوارات. تكتب اللقى الجديدة على صفحات جديدة، موجودة في السيناريو، عمدا. بعد ذلك يبدأ التصوير، فتضع ما تبتكره في دفاتر صغيرة، تدخلها ضمن السيناريو الإخراجي. ويحدث أحيانا أن يبتكر المخرج منعطفا دراميا ويحققه على الفور. وهذا ما يحدث بدون انقطاع. حتى نهاية الفيلم.
• كنت أتصور أنك لست من بين المخرجين الذين يشبهون أومار ايوسيلياني مثلا، الذين يرسمون كل لقطة في السيناريو.
ـ كلا. فأنا أولا، لا أجيد الرسم، وثانيا، قد تكون المسألة كلها في ذلك..
• الفيلم-بالنسبة لك-كائن حي، ينمو بقدر ما..
ـ بالنسبة للآخرين، هو أيضا كائن حي، لكن بطريقتهم الخاصة . حدثينا، كيف تبنين الصورة. فأنت تعملين –في الغالب- مع مصور واحد هو غينادي كاريوك.
ـ أنا –بصورة عامة- محظوظة في ما يخص المصورين.
• حدثينا عن الصوت ، عن الموسيقى، عن المونتاج.
ـ أحدثك عن كل شيء، كيف يمكن ذلك؟ (تبتسم)
• عن العمل في كل من هذه المكونات.
ـ هناك عمليات محبوبة وعمليات مكروهة. المحبوبة لي هي التصوير والمونتاج، والمكروهة حتى القيء هي التصويت، بسبب الاعادات الكثيرة، والميكانيكية. علي أن أتغلب على نفسي. وهناك شيء آخر لا أحبه، انه فترة التحضير، حين تقلق حول الممثلين، لأنك مجبر على الاختيار،إنها عملية مؤلمة، لا أطيقها.
• أنت من الذين يعملون اختبارات للممثلين؟
ـ طبعا. لكن ليس دائما. في العادة، نعم. في العادة يحدث أن يبقى ممثلان يتسابقان على الدور، فكيف أختار؟ إنها عملية قاتلة. فتبدأ بالانتظار كي تميت الصدفة أحدهما (تضحك) أنا اهزل طبعا.
• النوتة الموسيقية –الصوتية؟ كثرة الأصوات..
ـ طنين بدل الموسيقى…
• في الغالب تُسمَع عدة حوارات، في آن واحد. وأحيانا قائل الحوار شخص لا نراه في الكادر. فهل تتعمدين ذلك؟
ـ بالتأكيد. فلا وجود لشيء غير ضروري، في هذه الحرفة. مجرد لا وجود لهذا الشيء.كيف ذلك؟ أنا أعمل شيئا ما…
• أنت تهدمين تصوراتي عنك.
ـ ماذا؟ كنت تتصورني مثل فراشة أرفرف؟ كلا ، فأنا محترفة جدا.
• هناك سؤال آخر ، قد هيأته، معروف أنك تكرهين الأنماط الشائعة، فهل تحبين الاصطفائية، أنواع الشذوذ عن المألوف، المفاجآت، التشوهات الزمنية والإقصاء، التشوهات الفضائية،لماذا؟
ـ أحب المفاجئات، لكن بأي معنى؟ حين يقدم لي أحدهم مفاجأة، لا أن أجلس وأفكر “ينبغي تأليف شيء مفاجئ، فمنذ مدة لم أبتكر مفاجآت”. فالمفاجآت إما أن تظهر وإما أن لا تظهر. وبالطبع حين أبتكر شيئا، ويقولون لي بعد ذلك ” اسمعي ، لقد كان مثل هذا سابقا، البارحة شاهدناه في فيلم، فأنا أجيب قائلة “يا للأسف” وأرمي بذلك الشيء.
• لكن، ومع ذلك تفضلين من بين حالتين، المفاجأة؟
ـ كلا، أفضل الحالة المناسبة، التي تصلح في الوضع الحالي. فها أنا أتكلم معك وأحاول أن تفهمني بصورة أفضل، أضع نفسي في مكانك. وفي السينما أيضا، أحاول أن أعمل أفضل حركة ممكنة، وكأني ألاعب نفسي لعبة الشطرنج. وحين أشعر بالملل،أشرع في التفكير: كيف لي بالترويح عن نفسي وإسعادها وإفراحها. فأبتكر شيئا ما. أبتكره أنا أو يبتكره غيري. أما المفاجآت؟ أحب كثيرا العمل مع أناس مبدعين أيضا. إنها سعادة حين يكون حولك هكذا جو: الكل يقترح أشياء ما، تدخل في العمل. الممثلون والمدير الفني والمصور وأي كان. الحياة تصبح سريعة وخفيفة ومريحة، بدون عتاب متبادل. ولذا غالبا ما أفضل غير الممثلين على الممثلين المحترفين، لأن غير الممثل مثله مثل أي غير محترف، يحمل في دواخله الكثير من المفاجئ، غير المتوقع. لأنه لم يوضع داخل قوالب المدرسة. يبدو لي أنني أفضل المناسب بصفته الحياة ذاتها.
• وبأي مواصفات عدا الشعور بالصدق، تهتدين ؟
ـ من ناحية ، أنا أطيع الجميع وأستمع للجميع، الكلمة الأخيرة هي كلمتي. المخرج يعني المخرج، وإلا كان ينبغي أن نكتب أسماء الجميع بصفتهم مخرجين. حين قدمت مؤسسة الدول للسينما اقتراحات بتعديلات كثيرة، قلت لهم ” اكتبوا أسماءكم في العناوين، لأنكم تتدخلون في عمل إبداعي.
• تعرفين، هناك تعبير معين : الفن هو واقع ثان. لكن أفلامك لا تستقيم معه.
ـ ما دمت تضع هذا كمسلم به،فأنا أخذت بالتفكير: “ولماذا لا تستقيم؟ ها ها”، إذن أنا لا أفهم ما هو الواقع الثاني.
• انه إعادة إبداع الحياة، في أشكال الحياة ذاتها.
ـ كنت أحسب الواقع الثاني على الضد من ذلك، عالما موازيا معينا أخر،يقع فوق عالمنا الفاني، ويتلامس معه جزئيا، لكنه مع ذلك مغلق على ذاته. سنشرع الآن باللعب بالكلمات إلى ما لا نهاية له، لنضل فقط..
• هل تريدين تعليم المتفرج شيئا ما، والإيحاء له بشيء ما؟
ـ كلا، لا أريد ولا أستطيع. لأنني –ببساطة-لا أملك المعارف الكافية. ولا أحد يملك، كما يبدو لي. أريد أن تكون مشاهدة أفلامي ممتعة للمتفرج، كما أستمتع أنا بصنعها. الرسالية، مضحكة وغريبة علي. أستطيع أن أشتم أحدا ما أو أخرج له لساني، أن أصرخ عاليا في الصحراء، ففيلم “أعراض الوهن” هو صرخة من هذا النوع. لكن يستحيل تعليم أحد شيئا. أتسمع كيف أعبر عن ذلك تعبيرا قاطعا؟ أنا أُعلِّم أن التعليم مستحيل.