العراقيون استنزفوا أعواما بل عقودا من أعمارهم وسواقي من دمائهم ليثبتوا بديهيات يتعايشون معها يوميا منذ مجيء الخميني إلى السلطة في إيران قادما من باريس عام 1979. فالمشروع الإيراني بدأ كشركة مساهمة لتصدير الأزمات إلى العراق أولاً لأسباب عقائدية مذهبية صرفة، ولنشاط مقلديها من الأحزاب الجاهزة لاستلام وتوزيع الإرهاب وخلق الظروف الموضوعية للمواجهة المباشرة وإشعال فتيل الحرب باستثمار ردود الفعل الحتمية لدولة تتعرض إلى استهداف مؤسساتها ورموزها وقادتها.
هذا ما حصل في واقعة جامعة المستنصرية وما تلاها، وهي، أي جريمة المستنصرية، التي تكشفت خيوطها تماماً بعد احتلال العراق عام 2003 لأنها كانت موضع فخر لدعاية انتخابية لحزب العمل الإسلامي الذي وزع ملصقات تحمل صورة منفذ العملية القتيل ومعها عبارات إشادة ببطولته التي أدت فيما بعد إلى الحرب الإيرانية العراقية، هكذا جرت الأمور متسارعة ودون كتمان أو تقية، وشعار طريق القدس يمر من بغداد، ومسافر كربلاء وغيرها من مقتنيات تصدير ثورة الخميني كانت حاضرة بالتفاصيل في أتون حرب مفروضة ومفروغ منها، أودت بحياة أكثر من مليون إنسان من العراقيين والإيرانيين معا، وولدت فراغا وأرضا حراما بين الشعبين آثارها ممتدة في الأرواح والنزعات الإنسانية لمن فقدوا أحبائهم.
ملالي إيران لم ينقطعوا يوما حتى بعد انتهاء الحرب عن أهدافهم في تصدير ثورتهم المذهبية بمختلف الأساليب، وشنوا حروباً ضد بيئة العراق واقتصاده ووحدة أراضيه وشعبه باستغلال عناصره في الداخل ومن حملة الجنسية العراقية لتنفيذ مخططاتهم وخلق الأزمات، ومن أساليبهم وقائع عايشتها في انتشار البذور الفاسدة والتالفة التي لا تصلح للإنبات وهي من مصادر مزورة ومجهولة وبأسعار منخفضة كلفت عدداً من الفلاحين جهد موسم زراعي، إضافة إلى نتائجه في الأسواق وفي زمن الحصار.
تطول قائمة مصائب ثورة الخميني على العراق، متجاوزين مصائبها على الداخل الإيراني لتتكفل به الشعوب الإيرانية ومقاومتها بثورتها المضادة وتباشير فجرها أو اندلاعها المتجدد الذي تتسرب منه بعض الحقائق إلى وسائل الإعلام رغم التعتيم وتكميم الأفواه والاعتقالات، وصولا إلى الإعدامات التي تسجل أعلى نسبة في العالم ولا تدانيها إلا حكومة العراق وما يجري في سجونها من فظائع وفضائح، لكنها تظل حكومة بمرجعية طائفية وسياسية يسيرها نظام المرشد خامنئي، ويعز علينا كمواطنين أن نطلق اسم العراق ملحقاً بها.
يقال إن الاعتراف سيد الأدلة، وبه ننتقل من الشبهات إلى الإثبات؛ وما كلفنا الكثير من التشخيص وتوفير القرائن منذ أعوام على تبعية الميليشيات، والتي يقترب عددها من 130 ميليشيا أو أكثر، إلى تنظيم دولة إيران الإسلامية وتحديداً ضمن تشكيلات الحرس الثوري وفيلق القدس الذي يقوده قاسم سليماني مع نائبه إيرج مسجدي، وكلاهما يعملان في العراق، الأول مستشارا لشؤون الأمن الوطني لرئيس وزراء العراق حيدر العبادي، والقائد العام للقوات المسلحة، والثاني سفيرا لبلاده في العراق وهي وظيفة شكلية تتعلق بمهمات سفارة روتينية مع قنصلياتها وملحقياتها، إضافة إلى تسهيل تمرير الصادرات إلى العراق من الطاقة إلى المركبات وصولا إلى مستلزمات الغذاء.
وهي برمتها تخضع تلقائيا لفضائح تزكم الأنوف لرداءتها وعدم شمولها بمقاييس السيطرة النوعية والجودة أو التساهل معها على أقل تقدير. فالتقارير تفاجئنا عن حالات تسمم أو وفيات لعدد من الحالات المرضية نتيجة تناول منتجات إيرانية أو أدوية إيرانية مستوردة، ولذلك شؤون وشجون.
لم نعد بحاجة إلى تشخيص أو تأكيد أن الميليشيات أصبحت بحكم تمرير قانون هيئة الحشد الشعبي في البرلمان جهة رسمية لها كافة الصلاحيات والواجبات وتأتمر عسكريا وسياسيا، كما هو معلن، بأوامر رئيس الحكومة؛ وبما أن قائد الحشد الشعبي وفي بداية أبريل الماضي صرح إنه جندي لدى قاسم سليماني وتابع للمرشد خامنئي وأوصى بدفنه في “مقبرة الشهداء” مع الإيرانيين بطهران، ووصف إيران بأم القرى بالنسبة له ولهم، فالمعادلة تبدو غير متكافئة.
لكن زعيم ميليشيا متنفذ في هيئة الحشد الشعبي قالها بملء فمه فخورا وصريحا مستجمعا كل الانتقادات الموجهة لدورهم بصفتهم جزءا منضويا تحت قانون برلمان عراقي وقوات نظامية عراقية وأوامر رئيس حكومة عراقي ولمهمات عراقية وتم تأسيس نواتهم بفتوى مرجعية مذهبية يفترض عراقية ومن تسفك دماؤهم عراقيون؛ قال زعيم الميليشيا إن عقد الحرس الثوري اكتمل في لبنان واليمن والعراق وسوريا مع إيران، وإنهم ماضون ليس في مشروع إقامة الهلال المذهبي الطائفي فحسب، بل يتعداه إلى ما أسماه البدر المذهبي للمشروع الإيراني.
بما يعني أن ما نراه خيانة عظمى للوطن وكرامة وسيادة العراق، يراه ويرونه فعلاً جهاديا مقدسا في خدمة العقيدة وفقه ولاية الخميني ومن بعده خامنئي، وإن أي كلام عن المواطنة ومشروع الدولة المدنية والنظام الديمقراطي والتعايش السلمي المجتمعي وشعار الأخوة في عدم بيعهم الوطن، هي مجرد تسويق أو مساكنة مؤقتة تنتهي بعد مرحلة داعش والانتخابات القادمة، فسياستهم تعتمد على تبويب التقية وفق نمو المشروع على الأرض أو لمستلزمات المناورة.
إن الساعة البيولوجية لمشروع تنظيم دولة إيران الإسلامية حملت في جيناتها أمراضا تعجل بنهايتها لعدم قدرتها على التعايش مع محيطها، لضمان أمنها ومصالحها بعيدا عن عدوانيتها المفرطة وتوجهاتها في صنع الأزمات بحماقات لا مثيل لها من أجل تحقيق أهدافها المثيرة للسخط والازدراء.
المفارقة أن من يطالب بتدويل قضية المختطفين من أهل مناطقهم الانتخابية، لا يبدي رفضه لقانون هيئة الحشد الشعبي جملة وتفصيلا، إنما يهادن لأن القانون لم يأخذ وقتا كافيا في المداولات بين الكتل البرلمانية، المصيبة أن هناك من البرلمانيين والسياسيين ومنهم من أدعوهم بذوي الاحتياجات السياسية الخاصة والمحسوبين على التيارات المدنية يريدون ولو دليلاً واحداً على أن إيران تتدخل في شؤون العراق أو لها جندي واحد على أرض العراق لاعتبارها دولة معتدية على السيادة ويستوجب ردعها.
دولة تابعة للحرس الثوري، بفيلق أحزابها وكتلها البرلمانية وحكومتها وقضائها وبقواتها المسلحة وقائدها العام وبفيلق إعلامها، وفساد بنيتها الاقتصادية والتعليمية والثقافية والنفسية والاجتماعية، وبنظامها السياسي؛ هل من المنصف اختصار أزمتها بمحاربة ميليشيا معينة أو تنظيم إرهابي أو بقضايا اختطاف وإطلاق سراح تحت إشراف وزارة الداخلية؟ بعد الاعتراف بالخيانة العظمى هل مازال المتهم بريئاً؟ ذلك هو المفتاح الخاص للتعرف على ثوابت ميزان العدالة في العالم، وكلنا آذان صاغية لقرار الحكم على إرهاب ولاية الفقيه الإيراني.
نقلا عن العرب