23 نوفمبر، 2024 12:36 ص
Search
Close this search box.

ورثة العنف

العنف السياسي لا يمكن إيقافه ما لم تتم السيطرة على العنف المجتمعي وكبح جماحه، وهو ما لا يمكن توقع حدوثه ما دامت المؤسسة
الدينية قادرة على فرض حلولها القدرية على المجتمعات المغيبة عقليا.
فتح الربيع العربي الباب على مصراعيه أمام المجتمعات العربية لتداول العنف العلني بعد أن كان ذلك العنف سريا.

وإذا ما كانت الأجهزة الأمنية التابعة للأنظمة السياسية قد احتكرت ممارسة العنف زمنا طويلا، فقد صار في إمكان الأفراد والجماعات
أن تقوم بممارسته من غير أن تخشى عقابا بعد انهيار الدول.

هناك من يفسر تلك الظاهرة من جهة كونها رد فعل على تاريخ من العنف غير المبرر الذي كان يُمارس تحت مظلة القانون، غير أن
هناك مَن يقول إن عنف الدولة منع المجتمعات من ممارسة العنف فكان بمثابة مظلة حماية لها.

وهو ما يعني أن المجتمعات العربية لم تكن مسالمة ومتسامحة كما يُشاع عنها، وأن العنف الذي مورس في حقها كان من إنتاجها. ولو
لم يكن ذلك العنف موجودا لما هنأت بالاستقرار.

ولأن الانتقال من عنف الدولة إلى عنف المجتمع كان قد حدث سريعا، فإن الالتفات إلى ما جرى في الماضي لم يعد مهما وضروريا
بالرغم من أن العراقيين على سبيل المثال قد صدموا باكتشاف المقابر الجماعية التي ورثوها من النظام السابق.

لقد خف تأثير صدمتهم حين أدركوا أن المقابر الجماعية هي صناعة محلية، كان النظام هو الطرف التنفيذي لها في مرحلة ما. لقد
استمر إنتاج تلك المقابر بالرغم من غياب النظام الذي صار موقع تشهير بسببها.

لم يكتف العراقيون بإرثهم الدموي بل أضافوا إليه من فنون العنف ما يثقله.

وهو ما فعلته الشعوب العربية الأخرى بإتقان وبراعة.

لا يصدق أحد أن ضحايا العنف كانوا يحلمون بعنف أشد بشرط أن يكونوا هم سادته.

حين انتقلت السلطة من طرف إلى آخر انتقل معها حق ممارسة العنف. لم يكن ليخطر في ذهن أحد من الولاة الجدد أن يلتفت إلى
الوراء ليحلل ظاهرة العنف ويفكك ماكنتها من أجل البدء بعصر جديد، يكون نظيفا من العنف.

لقد أثبتت الوقائع التي شهدها غير بلد عربي أنه ما من أحد من الأطراف المتنازعة في إمكانه أن يرفع يدا متعففة من العنف وزاهدة
به.

تجربة جماعة الإخوان المسلمين التي لم تستغرق في الحكم سوى سنة واحدة تثبت تأصل ظاهرة العنف في فكر وسلوك الحركات
والجماعات السياسية التي لا تجد معنى للسلطة من غير ممارسة قمع الآخرين المختلفين، سواء جرى ذلك القمع انتقاما أم على سبيل
الترويض والتدجين والإخضاع.

لقد نسف تبني العنف الجسور بين الأحزاب والمجتمع، فتحولت الأحزاب إلى عصابات تقمع وتمارس العنف حسب موقعها من السلطة،
غير أنها في النتيجة تتبنى، مجتمعة، موقفا واحدا من المجتمع، هو ذلك الموقف القائم على إخافته وإرهابه من أجل إلحاقه بها عن
طريق العنف.

وما المتاهة التي انتهى إليها الليبيون بعد سقوط نظام العقيد معمر القذافي إلا نموذج لما يمكن أن تنتهي إليه الأمور لو لم تتفرد جهة
واحدة بممارسة العنف ضد الجميع. في ظل غياب تلك الجهة صار الجميع يمارس العنف، بعضه ضد البعض الآخر، سعيا وراء
ظهور القوة التي تحل محل النظام السابق.

أما حين تنفرد قوة مسلحة مثل حركة حماس أو حزب الله بشعب ما فينتهي ذلك الشعب إلى المصير الذي انتهى إليه الفلسطينيون في غزة، ونصف الشعب اللبناني من خنوع وانجرار وراء مشاريع مشبوهة. وهو ما يكشف عن تماهي العنف المجتمعي بالعنف الذي تمارسه تلك القوة المسلحة.

الحقيقة التي ينبغي وضعها تحت المجهر هي أن العنف السياسي لا يمكن إيقافه ما لم تتم السيطرة على العنف المجتمعي وكبح جماحه، وهو ما لا يمكن توقع حدوثه ما دامت المؤسسة الدينية قادرة على فرض حلولها القدرية على المجتمعات المغيبة عقليا.
نقلا عن العرب

أحدث المقالات

أحدث المقالات