18 ديسمبر، 2024 7:48 م

حزب الله الغارق في سوريا و’التمنيات’ بطول بقائه

حزب الله الغارق في سوريا و’التمنيات’ بطول بقائه

‘براعة’ حزب الله في صناعة البيئات العدوة له فاقت براعة إسرائيل في ذلك، والصمت اللبناني اليوم حيال تورطه في الحرب السورية يستبطن في جوهره تمنيات بدوام البقاء غارقا في وحولها.

الدعوات إلى خروج حزب الله من سوريا لم تعد من يوميات القوى السياسية اللبنانية التي تصنّف في موقع المختلف أو المعادي لحزب الله، كما أنّ القوى الإقليمية والدولية باتت غير مهتمّة بهذه المسألة ما دام وجود مقاتلي حزب الله لا يشكل أيّ إضرار بقواعد اللعبة التي تدار في جانب النظام السوري بقواعد روسية، علما وأنّ الإدارة الأميركية وإسرائيل كانتا على الدوام تشجعان ضمنا تورط حزب الله في القتال السوري، وإن لم تذهبا إلى حدّ الترحيب الرسمي بوجوده العسكري في العديد من المناطق السورية.

التدخل الروسي المباشر والعسكري قبل نحو عامين في سوريا ساهم إلى حدّ بعيد في تراجع المطالبات السياسية اللبنانية وحتى العربية بخروج حزب الله من سوريا، فيما استمر الموقفان الأميركي والإسرائيلي على حاليهما من دون أي تبدّل، مع استمرار إسرائيل في تصيّد قوافل سلاح حزب الله دون أي رد منه، بل مع مَيل واضح لدى قيادة هذا الحزب إلى اعتماد أسلوب الصمت حتى لجهة الكشف عن الاستهدافات الإسرائيلية له في سوريا، والتي هي دائما تستهدف حصرا ما تعتبره تهديدا لأمنها.

فكما بات معلوما، فإن الجهد العسكري وجحافل المقاتلين من حزب الله الذين يصوبون سلاحهم ضد فصائل المعارضة السورية لا يعتبران هدفا إسرائيليا، فقط الصواريخ التي يحاول حزب الله نقلها عبر الأراضي السورية إلى لبنان وتصنفها إسرائيل سلاحا استراتيجيا تعتبر هدفا إسرائيليا مشروعا بغطاء روسي ورضا إيراني، يفسره امتناع حزب الله عن الرد على العشرات من الغارات الجوية الإسرائيلية التي استهدفت قوافل سلاح أو مخازن أسلحة استراتيجية في مناطق قريبة من دمشق.

السمة البارزة في الموقف الإسرائيلي تجاه ما يجري على المقلب الآخر من حدودها الشمالية هي المحافظة على الهدوء على حدودها سواء في الجانب السوري أو اللبناني، وهذا ما يوفره حزب الله في لبنان، أما في سوريا فلا شكّ أنّ المعادلة التي تريدها إسرائيل في الجانب السوري قائمة لجهة الاستقرار الذي لم يهتز فعليا منذ عقود، ولم يتغيّر الحال رغم الحرب الدائرة على امتداد الأراضي السورية، فيما حزب الله وإيران يظهران التزاما بعدم خرق هذا الاستقرار رغم الذرائع التي توفرها إسرائيل لهما للقيام برد على العدوان الإسرائيلي الذي يتكرر بين الفينة والأخرى على مراكز حزب الله كما أشرنا آنفا، علما وأن نظرية تدخل حزب الله في سوريا -كما يكرر قادة حزب الله- تقوم على فكرة ضرب المشروع الإسرائيلي في سوريا، فضلا عن مهمة شق طريق القدس التي قال زعيم حزب الله إنّها تمر من حلب ومن مدن سورية أخرى.

الموقف الإسرائيلي يلتزم الصمت وعدم التدخل العسكري في مواجهة أيّ نشاط إيراني عسكري مباشر أو غير مباشر عبر حزب الله وغيره من الميليشيات، ما دام هذا النشاط يتركز على مواجهة فصائل المعارضة السورية سواء كانت معتدلة أو مصنفة إرهابية، وفي الوقت نفسه بث العديد من التقارير الاستخباراتية عبر وسائل الإعلام التي تشير إلى أنّ حزب الله يكتسب في حربه السورية خبرات عسكرية وقتالية عالية، فيما تتلقف وسائل إعلام “الممانعة” هذه التقارير لتعيد عرضها على جمهورها كوسيلة من وسائل البحث عن مبررات استمرار قتاله في سوريا، وكالنعامة التي تضع رأسها في الرمال تنطلي هذه المقولات الإسرائيلية على بعض الجمهور، الذي تناسى ما فعله تدخل حزب الله في سوريا به.

كلما استمر حزب الله في تعميق الشروخ داخل البيئة المحيطة بإسرائيل كلما زادت الطمأنينة لدى قيادة الكيان الإسرائيلي وهذه المعادلة قابلة للاستمرار
ذلك أنّ أيّ مراقب يدرك أنّ الحرب مع إسرائيل لم تعد واردة في حسابات حزب الله بعدما صارت إسرائيل عمليا أقل خطرا عليه إذا ما قيس الخطر بالمواجهات التي يخوضها في الميدان السوري والإقليمي، فالشرخ الذي نشأ بالدم بين حزب الله والسوريين بات يشكل مصدر الخطر الأول عليه، بينما الطوائف اللبنانية تتربص به وهو يدرك أن أي حرب مع إسرائيل ستكون فرصة للانقضاض عليه من كل ما هو محيط به. وليس كلام أمين عام حزب الله قبل أشهر سوى تأكيد على ذلك حينما صنف السعودية والجماعات التكفيرية بأنها أخطر عليه من إسرائيل.

من هنا فإن “براعة” حزب الله في صناعة البيئات العدوة له فاقت براعة إسرائيل في ذلك، والصمت اللبناني اليوم حيال تورطه في الحرب السورية يستبطن في جوهره تمنيات بدوام البقاء غارقا في وحولها، بعدما رمى بكل المطالب والتمنيات اللبنانية الرسمية وغير الرسمية بأن لا يتدخل في دعم النظام السوري عسكريا، في خانة التخوين وفي سلة العداء للمقاومة وصولا إلى اتهام من يطالبه بالعودة إلى لبنان والدولة بأنه إرهابي أو مساند للإرهاب.

التمنّيات بطول القتال في سوريا والغرق في وحولها هما ما يتلقاهما حزب الله اليوم، لا سيما بعدما صار وجوده بلا أفق يمثل انتصارا بل جل ما يتمناه هو الحد من الخسائر، وبعدما صار رهينة الحسابات الدولية والإقليمية والتي تشكل إسرائيل وأمنها ومصالحها، الثابت الأول في هذه الحسابات سواء كانت هذه الحسابات أميركية أو روسية، أو حتى من قبل الأطراف الإقليمية والعربية التي باتت تتعامل مع الخطر الإيراني باعتباره مهددا لاستقرارها الداخلي، كذلك إيران وحزب الله يلتزمان التزاما مطلقا بأولوية حماية الحدود الإسرائيلية من خلال عدم المسّ باستقرارها، ذلك أنّ الطرفين بالمعنى العسكري هما الأكثر قدرة من حيث التسلح على توجيه ضربة موجعة لإسرائيل إذا أرادا ذلك، لكنهما يدركان أنّ تدمير سوريا والتورط في هذه الجريمة هما أقل خطرا عليهما من قيامهما بتوجيه أيّ ضربة عسكرية لإسرائيل.

علما أن إسرائيل هذه “أوهن من بيت العنكبوت” كما يكرّر حسن نصرالله، ويحتاج تدميرها إلى سبع دقائق ونصف كما قال قائد الحرس الثوري الإيراني قبل أشهر. هذا ما يكشف إلى حد بعيد أّن الوجود الإيراني على الحدود الإسرائيلية لا غاية له إلا تأمين مصالح الدولة الإيرانية، فقتال إسرائيل أو خوض مواجهة لتحرير فلسطين لم يكن يوما بالنسبة إلى إيران أمرا يتصل بأولويات الأمن القومي الإيراني بل شعارا غايته التمدد والمساومة عليه في لعبة التفاوض مع الشيطان الأكبر أو لابتزاز بعض الحكومات الإقليمية العربية وغير العربية.

الدعوات لحزب الله بطول البقاء في سوريا لا يشذ عنها إلا السوريون الذين تسبب حزب الله والانخراط الإيراني في الدفاع عن النظام السوري في تهجيرهم وتدمير بيوتهم، أما بقية الأطراف، ولا سيما إسرائيل وغيرها من الدول الكبرى بمن فيها لبنان فتدعو له بطول البقاء على أرض لم تألف وجوده، أرض حوّلها إلى أرض محروقة، لا يتجرأ على أن يدير ظهره لإنسان فيها حتى لو كان من أتباع النظام السوري، أرض استنزفته وتستنزفه رغم أنه حوّل العديد من مناطقها إلى أثر بعد عين. حزب الله غرق في الرمال السورية ولا أحد يريد أن يمد له طوق النجاة لا الأصدقاء ولا الأعداء، فقط إسرائيل تربتُ على كتفيه بالمزيد من الكلام المعسول عن الخبرات القتالية التي اكتسبها وحزب الله الغارق في دمائه والمحاصر بالأعداء يحب أن يصدق ذلك.

إسرائيل تدرك أن حساباتها في الأزمة السورية يتم احترامها، ورغم كل ما يقال عن قيامها بضربة موجعة لحزب الله هو من الإشارات والتحليلات التي تتكرر منذ سنوات، فإنه كلما زادت إسرائيل من وتيرة تهديداتها وحتى ضرباتها لحزب الله، كلما بدا أن حزب الله شديد الالتزام بشروط الأمن على الحدود مع إسرائيل، وكلما استمر حزب الله في تعميق الشروخ داخل البيئة المحيطة بإسرائيل كلما زادت الطمأنينة لدى قيادة الكيان الإسرائيلي، وهذه المعادلة قابلة للاستمرار وكفيلة بأن تحوّل النفوذ الإيراني في سوريا بالمعنى الاستراتيجي إلى عنصر أمان لإسرائيل لن تفرط فيه بسهولة.
نقلا عن العرب