من المعلوم بأن الممارسات الفكرية تتغير مع الوسائط الجديدة، فلكل عصر تقنية و لكل تقنية أثرها علی الفكر. فالتفكير في عصر السلطة الناعمة ببعدها الإفتراضي و مخيالها السِبراني، القائم علی التشكيلات الرقمية والتراكيب العددية اللامتناهية، ليس كالتفكير في عصر الكُتّاب و النَسخ والشفاهة.
فبتغير الثقافة تتغير العلاقة بالمعرفة و الإرتباط بالنصوص القديمة والموروث الجامد. و هذا التغيير يؤثر علی أنماط السياسة والسلطة والديمقراطية و يضع الهويات، التي تدعي براءة الإختراع في مجالات العلوم الغيبية و أفكار ماوراء الطبيعة موضع التساؤل و يفتح في الوقت نفسه فضاءات تبدو أقوی أو أولی من العقائد والإيديولوجيات، التي لا تستطيع أن تفتح علی تعدد الأمكنة والعوالم والإنتماءات. التعامل مع الفكر الديمقراطي و علی كيفية ممارسته هو رهن لقراءته الخصبة والفعالة، بعقل تواصلي تبادلي و بفكر تركيبي و بمنطق تحويلي توليدي يفسح المجال للمساهمة في تكوين المشهد والحضور علی المسرح الإنساني.
ما نلمسه اليوم في العراق من إرتداد في الفكر الديمقراطي و تحسين في تدمير النبتة الديمقراطية اليانعة وتشويه صورة الفدرالية، تارة بإسم القومية و تارة بإسم المذهب أو الدين، شاهد صارخ علی النوايا الخفية عند البعض من الذين يتربعون اليوم علی عرش السلطة في هذا البلد ويريدون أن يكونوا صاحب القرار الأول والأخير في القضايا الجانبية والحساسة لممارسة الغزوات والحروب والإستمرار في أعمال الإرهاب و لإعادة ثقافة المذابح الجماعية، غير مهتمين بالمهالك والأخطار والنتائج المدمرة. هذه النوايا إن تطبق علی أرض الواقع لا تجلب معها سوی ولادة الفقر و التفاوت والإستبداد، بقدر ما تعزز النزاع والعنف والإختلاف الوحشي.
نرجسيتهم تدفعهم إلی ممارسة الأستذة علی إقليم كوردستان لتذكيره و تهديده، بأنهمن العسير عليه أن يخطوا خطوات نحو الإنفتاح و الديمقراطية والمجاهدة في سبيل التنمية والرقي علی جغرافيته السياسية و العمل علی توسيع رقعة المواطنة لدی حكومته من غير أن ينال العقاب بضربة عسكرية قاسية و فرض الحصار علی ساكنيه، لإعادة العلاقة السابقة التي كانت تطبق علی أساس الإستبعاد بعقلية الإصطفاء و أحادية القرار ومنطق المدافعة والمحافظة ونظرية التخوين المؤامرة لضرب الفكر الأخر والرأي المخالف، تاركاً إختلاف الألسن والطبائع والأفكار طي النسيان.
إنه التهوين والهويم والتهويل، الذي يجعلهم يعتقدون بأن “إنقاذ العراق” و خلاص العراقيين و نهضة عرب العراق مرهونة بالعودة الی تجربة النظام المقبور في المركزة والقيادة والإستخلاف و “التقدم والرفاه”، لتحقيق ما لم ينجح صدام الطاغي في تحقيقه طوال فترة حكم البعث الفاشي.
والمهتم بالشأن الكوردستاني يعلم بأن حكومته تعمل بسياسة تركيبية تواصلية تتعاطی مع الأمور بديناميكية خلاقة و منهجية فعالة، لتحليل الواقع من أجل الإنخراط في صناعة الحاضر و المراهنة علی ما يمكن أن يحدث في المستقبل و تسعی في كسر الجمود و فتح المجال للتبديل والتغيير، مهتماً بالتحولات التي يشهدها العالم في الأفكار والوقائع، من نماذج الرؤية الی أنماط العيش، ومن سلم القيم الی منظومات التواصل.
و ما يسعی اليه رئيس إقليم كوردستان بسياسته الحكيمة هو إقتداء العراق بالثورة الفرنسية و مبادئها الإنسانية السامية و تأكيده بأنه في حالة فشل العراق السير نحو هذا الإتجاه للأسباب التي ذكرناها فسوف يستمر كوردستان في تجربته الديمقراطية نحو أهداف الثورة الفرنسية لجعها واقعاً حياً علی أرضه.
ما نحتاجه هو كشف أوجه العجز والقصور في ما هو مستخدم أو مستهلك لتحديث أفكارنا و مفاهيمنا و ممارسة عقلانيتنا ومواقفنا التنويرية بصورة مثمرة و إيجابية لإقامة علاقات منتجة، فعالة وراهنة مع ذواتنا ومع فلسفة الشراكة الحقيقية والتعايش السلمي والواقع والعالم المعولم ونبذ تلغيم القضايا المنتجة للعجز والتخلف والإستبداد. و ليعلم المستبد رئيساً كان للحكومة أم معارض أنه في عصر الشعوب لا تقرأ لغة الإتهام والإستعداء ولا تنبني الدولة علی أساس التمييز والإصطفاء و لا يحتاج الإصلاح الی عقل أحادي، تحكمي، إنفرادي،وإنما يحتاج الی عقل وسطي، تعددي، تداولي و لامجال لمصطلح الديكتاتور في قاموس هذا العصر.
وختاماَ: الدفاع عن الهويات والعناوين بالثوابت من القيم والمفاهيم أو الطرق والأساليب المجربة في العراق، كما يمارسه صاحب السلطة في بغداد هو سلاح مفلول، مآله خسارة ما ضحی من أجله العراقيين و ما أرادوا بناءه من دولة ديمقراطية تعددية فدرالية.