لم يكن انتخاب الرئيس الجديد إيمانويل
ماكرون، وهو من خارج المنظومة السياسية
الحزبية الفرنسية العريقة، هو القشة التي
قصمت ظهر الأحزاب ونظرية العمل الحزبي
التقليدي في فرنسا وحدها، وإنما برهان ساطع
جديد على وجود توجه كوني حديث وواضح بكل
الدول تقريبا نحو الابتعاد عن الاحزاب
والتحزب سواء بالانتماء او الولاء لها، وعلى
تمزق وتهافت وتعفن كل الاحزاب و النظرية
الحزبية للعمل السياسي بكل العالم،
والامثلة على ذلك متعددة دوليا وعراقيا.
وبعيدا عن كون فوز ماكرون انتصارا لليبرالية
والوسطية والتسامح وللشباب ودعما للوحدة
الاوروبية وللقديسة الالمانية ميركل، فان
السقوط المروع لاحزاب فرنسا الكبرى من
الديغولية الى الاشتراكية والى اليمينية
على يد شاب صغير العمر والتجربة انشأ قبل اقل
من سنة حركة صغيرة باسم التقدم En Marche استطاعت
بلع الجميع فرنسيا، واصدر شهادة وفاة لكل
احزاب العالم التي عرفناها بالقرنين
الماضيين.
وكان انتخاب الرئيس الامريكي دونالد ترامب
في نوفمبر الماضي، وهو البعيد عن عالم
السياسة وقضى جل حياته بعالم المال
والعقارات والترفيه، مفاجئة للكثيرين ولكن
لم ينتبه احد الى علاقة الامر بفشل صميمي
بالمنظومة الحزبية للعمل السياسي في عصرنا
الجديد. والكل فسر الامر على انه ظاهرة
امريكية متفردة تعودنا على مفاجئاتها
وتقلبات نتائج انتخاباتها ومزاجية الجمهور
الامريكي غير المستقرة، متناسين التداخل
الحتمي والترابط المفاهيمي والاشتراك
بالهموم والقضايا المعيشية والتطلعاتية بين
كل شعوب العالم بايامنا هذه, وسرعة انتقال
المعلومة وتبادل الافكار.
امريكا التي كانت تاريخيا محكومة بحزبين
تقليديين يتبادلان السلطة والخبرة بالحكم
تمكن رجل اعمال متهور بعض الشيء وفاقد لاية
تجربة سياسية ان يخترق احد الحزبين ويتسلقه
خلال فترة قصيرة ليصل الى رئاسة الجمهورية,
متجاوزا رؤوسا حزبية كبرى من الجمهوريين
المعتقين، ومنتصرا على سيدة محنكة سياسيا
ولها مع زوجها ورئيسها العشرات من سنين
الخبرة في الحكم وفي العمل الحزبي
الديمقراطي، وهو لا يفقه شيئا بادبيات ونصوص
وحتى مبادئ الجمهوريين، وكان يتبرع والى
سنوات سابقة قليلة الى الحزب الديمقراطي
المنافس لتمشية مصالحه المهنية الشخصية
باعتبارها هدفه الاكبر والوحيد. ولو لم يكن
هناك خلل هيكلي بتركيبة واداء ودور الحزبين
كليهما لما تمكن ترامب من الوصول لسدة
الرئاسة.
بريطانيا انقسمت على نفسها بالنصف تقريبا
قبل عام واحد الى مؤيدين للبريكست Brexit و
معارضين له. وهذا الانقسام الواسع ليس فقط
بين الجماهير والناخبين وانما داخل الحزبين
العريقين المناظرين لحزبي امريكا. فلايمكن
ان تقول الان ان حزب المحافظين او حزب العمال
مع او ضد البريكست. والموقف الرسمي المعلن
لرئيس الحزب من الموضوع، وربما لاول مرة
بتاريخ سياسة بريطانيا، صار لايعكس موقف
حزبه بتاتا ولا يؤثر عليه. لان ممثليه
وأعضائه في مجلس اللوردات او مجلس العموم،
وحتى باقي الاعضاء والناشطين واصدقاء كل حزب
منهم وجمهورهم التقليدي وناخبيهم ومناطق
نفوذهم المعروفة منقسمين بالنصف حول
الموضوع بصورة علنية وشرسة. وستجري انتخابات
تشريعية مبكرة وحاسمة الشهر القادم وسيكون
لاول مرة بالتاريخ التصويت للمرشحين على
اساس موقفهم من البريكست وليس على اساس
انتمائهم السياسي. وباستثناء حزب اليوكيب UKIP
الصغير المعروف هو وجمهوره بتبني البريكست,
فان حزبي العمال والمحافظين سيقدمان مرشحين
مع وضد البريكست بكل الدوائر الانتخابية
تقريبا! ويهمني من الموضوع هنا هو فشل
الحزبين في تبني مواقف مبدأية مميزة وجامعة
ومحافظة على تماسك ووحدة الحزبين وربما
بقائهما مستقبلا, وامكانية تطور شكل او
تنظيم او اسلوب جديد لقيادة العمل السياسي
البريطاني والعالمي.
عراقيا فان انصع دليل على فشل الاحزاب وقرب
انقراضها هو كثرتها العددية. مئات الاحزاب
المسجلة بمفوضية الانتخابات او تحت التسجيل
او خاضت الانتخابات الماضية. وهذا يعكس فشل
الاحزاب التقليدية الاسلامية والعلمانية
التي تطلق على نفسها جزافا الكبرى. اذ لولا
تهالكها وافتقادها للطروحات الوطنية
الشاملة والمعاصرة والمتحضرة لما خرجت من
رحمها او من بين جمهورها كل هذه الاحزاب
“الصغيرة” وقضمت منها، ناهيك عن فشلها
الملموس بالحكم وفسادها وغضب الجمهور منها
وابتعادهم وقرفهم منها. والملاحظ منذ سنوات
طويلة ان العمل الحزبي بالعراق هو موسمي
وليس متواصلا. ينشط مع قرب الانتخابات ويخفت
بعدها تماما. وان جميع الاحزاب تقريبا تخاف
من مجازفة نزول الانتخابات منفردة, وانما من
خلال ائتلافات انتخابية تنتهي بحكومة
محاصصة تكالبية مكسبية وغير مهنية. ليترسخ
بذهن الجمهور ان جميع الاحزاب كاذبة وفاشلة
وسارقة, وهي بالفعل ستؤول حتميا الى ذلك سواء
بالعراق او بكل الديمقراطيات العالمية،
وساهمت في فقدان الاحزاب للمصداقية والقبول.
فشعارات المرشحين الشخصية والرنانة أمام
الناخبين يتم موائمتها لاحقا مع توجهات
الحزب ورئيسه, وهذا بدوره يحرفها قليلا
ويمطها ليشكل تآلفا انتخابيا، ويلي ذلك
مرحلة التوافق والتحاصص وتوزيع المناصب
والمكاسب داخل البرلمان، فيأتي التطبيق
بعيدا كل البعد عن الشعارات.
من جانب ثان كان نجاح التصويت مؤخرا داخل
البرلمان العراقي ضد مفوضية الانتخابات
وبالضد من رغبة رؤساء الكتل الحزبية
المتحاصصة سواء بالتحالف الوطني الشيعي او
باتحاد القوى السني اكبر ضربة للاحزاب
ولتقاليدها المعروفة وتماسكها المتوقع
بالحاضر والمستقبل. وسبق هذا التصويت الفارق
الثورة البرلمانية “الاصلاحية” التي حدثت
العام الفائت والتي يبدو انها تبخرت الان،
ولكنها جميعا ساهمت في كسر احتكار رؤساء
الاحزاب لقرار مرؤوسيه وفي تحرر النواب من
سطوة احزابهم وتعليماتها الفوقية، وتجرؤهم
على التصويت فرديا وفقا لقناعاتهم الشخصية
وليس اوامر الاخرين. وهذا توجه سيستمر
ويتعمق مستقبلا وسيكون مفيدا للجمهور
الواسع والبلد، مع انه لحسن او لسوء الحظ
سيمزق حتما الاحزاب كافة, كما يجري بباقي
العالم.
كانت الاحزاب سابقا تجمع نخبا وافرادا
متوافقين تماما حول فكرة معينة مميزة
ويحاولون بتكاتفهم وتعاونهم توصيلها مخلصين
لمجتمعهم املا بفائدة الجميع. لكن كل احزاب
اليوم وقعت بفخي النفاق و – او المافيا، فلم
يعودوا احزابا بنظر المجتمع الذي كانت له
صورة تخيلية مختلفة عنهم. فكل احزاب اليسار
بالعالم صارت تتبنى بعض طروحات اليمين
وتقترب منه، والعكس بالعكس. وخير مثال عليها
هو حزب العمال البريطاني الذي حوله توني
بلير الى يميني اكثر من اليمينيين ببعض
المناسبات. بينما صار حزب المحافظين يتبنى
مشاريع وقوانين اشتراكية يكفر بها كل الاباء
المؤسسون للحزب. وفي العراق عندنا نجد اليوم
كل الاحزاب الاسلامية تقريبا تتبنى شعارات
الاصلاح والمدنية وحتى العلمانية
والليبرالية، وهم ابعد مايكونون عنها نظريا.
بل وهناك من الاسلاميين من يتبنى اللادينية
والالحاد ويدافع عنهما! على الجانب الاخر
نرى العلمانيين والمدنيين ينافقون
الاسلاميين وخرافاتهم وطقوسهم تحت دعوى
احترام عقائد الاخرين التي لم يقل بها احد
سابقا. وهذا التماهي والتداخل بين شعارات
وتطبيقات الاحزاب بالحكم والمعارضة ساهم
جديا في تقويض اسس الجميع وضحك الجمهور
عليهم والنفور منهم.
كما تحولت معظم الاحزاب بكل العالم الى
عصابات او ما يشبه عصابات المافيا والمحافل
الماسونية، ولكن بغلاف رسمي وقانوني براق.
جميعها تقدم امتيازات لاعضائها اكثر مما
تقدم لباقي المواطنين عند توليها للسلطة.
والمواطن بالعالم ليس من الغباء بحيث تفوته
ملاحظة ذلك، ولا يمكن ان يقتنع باي تبرير
لهذا التمايز مهما كان. فهي عداوات واحقاد
متراكمة بين المواطن والاحزاب ولابد لها ان
تتمظهر بشكل او باخر يوما. وحيث ان كل
العصابات بالعالم لا يمكن ان تكون يوما
عادلة في توزيع غنائمها بين افرادها
وبالتساوي، فان كل الاحزاب تشهدد تفككا
وانشقاقا مستمرين وتناحرات وصراعات داخلية
تنخرها كالسوسة. اما عندنا في العراق فهو
البلد الوحيد بالعالم الذي يفتخر به حزب
سياسي واحد او اكثر بان اسمه الرسمي هو
عصائب، اي جمع عصابة! وامتلاك الاحزاب
لمليشيات مسلحة فهذا بحث اخر.
سبب اخر لفشل الاحزاب عالميا ولا علاقة له
بخطأ او صواب ارتكبته بنفسها، وانما يعود
لطبيعة انسان اليوم. فالفردانية العالية غير
المسبوقة وحب التميز هي سمة معاصرة عند كل
ذكر وانثى على هذه الارض، بل وصار البعض يدعم
المتميزين والشاذين والمختلفين كنوع من
تحقيق التميز لنفسه. فلم يعد كثير من الناس
يرضى ان يرتبط او يصوت لنفس الحزب او لنفس
الفكرة مثله مثل غيره والكل يسعى للتحرر
والتجديد والتغيير. بل ان مجرد طرح فكرة ان
الاحزاب صارت من الماضي ولم تعد تناسب العصر,
وهي بالفعل كذلك، ومناقشة ذلك علنا وباوساط
واسعة ستلقى رواجا حتى بين غير المقتنعين
بها، من باب التجديد والتغيير. وحتى ياتي
اليوم الذي تنقرض به جميع الاحزاب الحالية
فان بعضها سيظل عصابات تصريف اعمال. ولا
نتوقع بروز احزاب مهمة جديدة وانما طرق
مبتكرة لادارة الديمقراطية والحكم والعملية
السياسية بعيدا عن الحزبية. وسنرى قريبا
ذوبان واضمحلال كثير من الأحزاب الحالية
والتقليدية والطارئة. كما سنشهد قريبا
وببقاع مختلفة من العالم نسخا أخرى من ترامب
وماكرون، ممن هم بعيدون عن السياسة والأحزاب
الآن، لكنهم سيتصدرون المشهد قريبا في
بلدانهم.