يصعّد بعض البصريين من نقمته أزاء قضية النزاعات العشائرية المسلحة، التي أخذت تأكل من جرف أمن وطمأنينة السكان، حتى
انهم راحوا يلقون باللائمة على الوافدين للمدينة من خارجها، غير متنبهين الى أن المدن الكبيرة، ذات الاقتصاد الجيد والمتحرك
بامكانها استيعاب أكثر من ذلك، فيما يذهب آخرون- وهم محقّون- الى القاء اللوم على الحكومة التي عطلت القوانين، وأعتمدت سنن
وشرائع العشائر هذه، في إدارة العديد من مشاكلها الأمنية المعقدة، بعد أن عجزت عن إحلال الأمن فيها.
ولعل سائل يسأل: أكل المشاكل العشائرية المسلحة التي تحدث في المدينة يقوم بها هؤلاء الوافدون من خارج البصرة ؟ الجواب: لا،
قطعاً، إذ ان أبناء العشائر البصرية انسحبوا الى ذات المنطق، وصارت لهم أفواجهم من الرجال والبنادق، وتحصنوا بأسلحة خفيفة
ومتوسطة، وتأهبوا لكل طارئ، حالهم حال هؤلاء. وسؤال آخر: أكل الذين دخلوا المدينة بعد العام 2003 يتسببون بالنزاعات المسلحة؟
الجواب : لا، طبعاً. هنالك أناس جاءوا بفعل انعدام فرص العيش في مناطق الاهوار وأطراف مدينتي العمارة والناصرية، وهم النسبة
الأعلى بكل تأكيد. دخلوا المدينة باحثين عن فرص أفضل للعيش. ياترى، من ذلك الذي يقلق أمن الناس، ومن هذا النفر الذي لا يملك
غير البندقية في حل مشاكله؟ الجواب: هو، الذي وجد الحكومة المحلية ضعيفة، عاجزة، غير قادرة على إعمال القانون بين الناس.
ولكي نكون أكثر إنصافاً نقول: كانت البصرة أكثر أمناً قبل خمس عشرة سنة، والبصري آمن على حياته من أي تهور عشائري،
وكان صدام حسين قد حظر السكن والتملك على غير المولود في الفاو وأبي الخصيب ، في قرار كان أكثر صوناً لأرواح وممتلكات
الناس في البقعة الغالية هذه، وما كان يحدث في شمال البصرة من مشاكل مسلحة كان محدوداً الى حدٍّ ما. أما مركز المدينة فقد كان
أكثر أمناً. الجيش والشرطة والاجهزة الأخرى تحكم قبضتها على الشوارع والأزقة، على الرغم من انعدام الكهرباء وشحة الضوء.
الضعف في السلطة الأمنية ووهن الحكومة المحلية المنشغلة بالفساد والركض وراء الحصص في العقود السحت والبيوع الظالمة في
الضياع والاملاك والضمائر جعل المواطن البصري يحن الى السجن الكبير الذي كان نظام صدام حسين يفرضه عليه. الجوع والشح
في المال والقمع وانعدام الحريات قضايا تحتمل، ويمكن استيعابها إذا كان ثمنها القتل وانعدام الأمن واستباحة الوجود، إذا لم تجد من
يطمئنك على حياتك وحياة اولادك، كل ذلك محتمل ومتقبل من الناس إذا كان ثمنه البيكبات المحملة بالبنادق والبي كيسيات والرجال
الملثمين، العابرين على كل نقاط التفتيش دونما رادع لهم.
لا يتضايق سكان البصرة من وافد ما، ومن أي مكان جاء، فالمدينة عرفت بالتنوع منذ وجودها الأول. وهي، الى اليوم يدخلها ابن
الموصل والرمادي وابن كردستان والاوروبي ويقيم في فنادقها، ويتجول في اسواقها دونما معترض عليه، ومثل ذلك يأتيها ابن العمارة
والأهوار والناصرية والسماوة والكوت للعيش والسكن والاقامة الدائمة، ويلاقي الترحاب والقبول من اهلها، لكن ذلك يجب أن يكون
مرهونا ومحكوماً بجملة القوانين التي تحدد قواعد العمل والاقامة والعيش، وعلى الوافد لها أن يحترم خصوصية أهلها وطبيعة عيشهم،
وأن يتخلق بخلق الناس فيها، الخلق التي منها التسامح والصفح واللطف والعفو وحسن الجيرة واحترام المعتقد والانتماء. ليس العيش في
البصرة مثل العيش في العمارة والناصرية والسماوة والكوت يا ناس.
نقلا عن المدى