مفهوم الحريات في عالمنا العربي، الملتبس أصلا، مرتبط ارتباطا شديدا بالتكوين النفسي للأفراد، بما في ذلك طبقة المثقفين الذين هم
أكثر حساسية وتأثرا وهشاشة نفسية.
يعاني المثقّف العربي على مدى عقود طويلة من هشاشة مشروعه الثقافي وقلقه المزمن، أقصد قلقه المشروع المُرادف لعملية الإبداع.
وإذا كانت القلاقل والانقلابات السياسية والحروب قد تُبطئ أو تُبدد مشروعه الإبداعي، إلّا أنّها من ناحية أخرى قد تشكّل له مادّة ثرية
لعمله.
فالمتغيرات المجتمعية العميقة والتناقضات المصاحبة لها قد تنتج بيئة صالحة للعمل الروائي، انظر إلى أميركا اللاتينية وحدّة التناقض
في مجتمعاتها المتكوّنة من خليط غير متجانس من الأعراق والأعراف والتقاليد وكيف خدمت تلك التناقضات الرواية عندهم، خذ مثلا
نجيب محفوظ في أعماله الأولى وكيف استفاد من حدّة التناقض في المجتمع المصري وفداحة الطبقية وخطل النظام السياسي الذي
كان سائدا آنذاك والذي أدى إلى ظهور الطبقات الشعبية المسحوقة، إذ شكّلت تلك التفاعلات بنيته الأساس في أعماله الروائية الفذّة.
وبقدر تعلّق الأمر في العراق وسوريا تبقى تلك المتغيرات بحاجة إلى وقت كي تختمر في مخيّلة المبدع حتّى تظهر ملامحها في
الرواية على سبيل المثال، شرط امتلاك الكاتب لمناخ الحريّة التي افتقدها على مدى عقود من حكم الأنظمة المستبّدة، ذلك لأن قضية
مصادرة الحريات والاستبداد وقمع الرأي الآخر قد بدأت في وقت مبكّر جدا قبل الأحداث الحالية وما ترتب عليها من انهيارات في
أنظمة التعليم والاقتصاد.
وإذا كان من يُلام بالدرجة الأساس في قضية مصادرة الحريات وعدم الاعتراف بالآخر هي الأنظمة القمعية نفسها، إلا أن مسؤولية
المثقف نفسه لا تقل أهمية وخطورة، إذ طالما شكّلت أزمة الحريات في العالم العربي قضية جدلية معقدة، ذلك لأن الأمر يعود إلى
الثقافة العامّة والتربية والسلوك الاجتماعي والتعوّد على تقبل الآخر، ولعل السؤال الذي يطرح نفسه بقوّة هنا هو هل أن الكاتب المقموع
الخارج من جحيم الدكتاتوريات قادر على التخلص من عقدة الخوف والحذر والشّك التي تربى عليها ولازمت سلوكه على مدى عقود
طويلة؟ أقصد الكاتب الذي طالما خضع لمحددات معينة ومقدّسات كرتونية وخطوط حمر أجهدت ذاكرته وعذّبت روحه طويلا، هل
سيستطيع امتلاك توازنه النفسي وبلورة رؤيته الخاصّة من جديد في مناخ الحريّة؟
للأسف مازال الموروث والاعتقادات التاريخية الملتبسة هما اللذان يتحكمان في مجتمعاتنا على الرغم من ظاهرها المتحضّر، في الغرب
يسمون ذلك خصوصية ثقافية، ويقصدون بها مجموعة القيم والتقاليد والأعراف والمعتقدات التي تربى عليها الفرد العربي، والتي تُشكّل
بالضرورة عائقا أمام تقبله الآخر، على الرغم من أن الغرب طالما انطلق من تلك المعتقدات الراسخة بذهنة في محاولاته المستميتة من
أجل فرض الديمقراطية الغربية على شعوب منطقتنا العربية، في الوقت الذي يدرك أغلب منظريه أن الديمقراطية ليست ثوباً موحد
القياس يناسب جميع الشعوب.
لقد أدت محاولات الغرب فرض ما أسماه بالأنظمة الديمقراطية على الكثير من البلدان مختلفة الثقافات إلى نتائج كارثية، مثل انهيار
المؤسسات وتدمير نظم التعليم وارتهان الاقتصاد للقوى الخارجية واستغلال قوى الإسلام السياسي للفراغ الحاصل وحالة الإحباط واليأس
لدى الناس من أجل السيطرة والقفز على مقدرات الأمور. وطالما نحن نتحدث عن الثقافة هنا فإن المثقف، شأنه في ذلك شأن بقية
شرائح المجتمعات العربية، خاضع لتلك الجدلية وإن لم يعترف بذلك، وما طغيان شعور الريبة والشكّ والتنافس في الأدب خارج
احتكاماته الفنية إلّا دليل على ذلك، لأن مفهوم الحريات في عالمنا العربي، الملتبس أصلا، مرتبط ارتباطا شديدا بالتكوين النفسي
للأفراد، بما في ذلك طبقة المثقفين الذين هم أكثر حساسية وتأثرا وهشاشة نفسية.
نقلا عن العرب