إشكاليّة أخرى لا يفصح عنها هذا النمط من نماذج الافتاء الّتي تطرّقنا إليهم في الجزء 1 من هذا المقال كي نستطيع أن نلتقط ولو مبرّراً واحداً لهم نستأنس به كي نتجرّع مرارة تصدّرهم المشهد الثقافي في هذا الزمن الأميركي الفوضوي , هي أنّنا بينما نراهم يشدّدون على “الحجاب” وعلى النقاب وعلى “البوشي” أيضاً ويتوعّدون وكأنّهم أوصياء على الناس “هم يعلمون انّ الوصاية أقصر الطرق لاستعباد الناس بعد أن ولدتهم أمّهاتهم أحراراً” بالويل وبالثبور وبالكفر وبدخول النار وبالخروج من الملّة وبالتحريم على الزوج “هم يعنون المثقّفات والواعيات من النساء بالطبع” كلّ من خالف فتاواهم التحريميّة تلك .. وهم أنفسهم هؤلاء باقة المفتون في عصر العولمة هذا , السادة القرضاوي والقرني ومحمد حسان والسستاني وعرعور والعواجي والشيرازي والعودة وطنطاوي الخ والقائمة بهم تطول “هذا الأخير طنطاوي هو فقط لم يحتج على منع فرنسا الحجاب بأمر من نظامه الحاكم وليس من موضوعيّة إسلاميّة اكتشفها!” , لم نرهم أو نسمع بأيٍّ منهم قد أطلق تصريحاً واحداً يعطنا رأيه فيه أو فتوى منه وهل هي خطأ أم لا “مع شرح الأسباب” عن تفشّي ظاهرة تحويل العلاقة الخاصّة بين العبد وربّه “السجدة” إلى الساحات الرياضيّة وملاعب كرة القدم ؟.. أنا عن نفسي لا أتوقّع منهم ذلك , ولأسباب كثيرة لا يتّسع المجال لذكرها هنا , وتوقّعي مبني على معطيات أكبر من موضوع السجدة “الشائكة التفسير” وأيسر لهؤلاء المفتون وأوضح وأكثر إقناعاً للجهات المرتبطين بها لأنّها من أكثر الأحداث الّتي يمكنهم بها كسب الشارع الإسلامي إلى جانبهم يستطيعون بها التغطية على ما سيُطلب منهم لاحقاً من “تسهيلات” تساعد المشروع الأميركي على المضيّ قدماً في المنطقة .. ذلك أنّنا إذا ما انتقلنا لمجال آخر أوقع ثقلاً على الحائر السائل , أنّنا لم نحصل من أيٍّ منهم لحدّ الآن على إفتاء أو تفسير مقبول واحد ولو عبر الفضائيّات الّتي يطلّون علينا برؤوسهم منها أو عبر مواقعهم الإلكترونيّة , يتماشى مع الشارع المسلم , الحقيقي , وليس “التايواني” عن ما فعلته وتفعله قوّات الاحتلال الغربيّة في أفغانستان وفي العراق من انتهاكات صارخة واستباحة للمقدّسات وللحرمات وتهديمهم لأجزاء من الصحن الحيدري وتهديم المساجد والمآذن والدوس على رؤوس المصلّين في الفلوجة والبصرة والموصل والكوفة ومدينة “الصدر” وباقي حواضر العراق وتمزيقهم للمصحف الكريم والدوس عليه بأقدامهم والتجرّأ على رميه “بالمراحيض” في غوانتانامو .. فقط سمعنا أصواتهم وفتاواهم ضدّ رسّام الكاريكاتير الدنماركي وضدّ وجبات الجبنة الّتي يأكلها ! .. فهل استضعف الدنمارك هؤلاء “فوصفوها” .. أم ماذا .. ؟ .. أم أنّ شحن الجوّ العام العالمي والعربي بقضايا الدين والتدين بوجهه السلبي هو المطلب من دوائر غربيّة بعينها “رجال الدين” من نمط ما ذكرنا , على دراية بهذا الشحن “موصّى” لهم به غربيّاً قصده تعميم ظاهرة التديّن السلبي عربيّاً وشرق أوسطيّا , لكنس المعتقد الحرّ أو اليساري “المزعج” وإزاحته عن هذه المناطق لتعبيد طرق العولمة الرأسماليّة ومستلزماتها كبديل “ثقافي” لهذه الأوساط , بحقن مجتمعاتنا شيئاً فشيئاً بالظواهر الدينيّة ومشاكلها المفتعلة حدّ إشباع شعوبها لترسيخها في وعيهم حتّى تصل إلى درجة مزاج عام لديهم , أكثرها مباشرةً افتعال الغرب الأزمات الدينيّة “المزمنة” هدفها بلا شكّ شحن كلّ الأضداد السائرين في فلكها , تضيع وسطها الحقوق والقوميّات وتتلاشى الأوطان ويبقى على الساحة فقط تداول الغيب والماورائيّات تقاد عن طريقها بسهولة ويسر هذه المجتمعات حيث يشاء الكهنة والسلاطين .. بالمناسبة ؟ .. ليس من المستغرب أن يفهم “ولاة الدين” في العالم , ونعني بهم رجال الدين , بوذيّون ومسيحيّون وإسلاميّون وسيخ الخ , إشارات التعميم الغربي الّتي سرعان ما يلتقطونها ويعلمون جيّداً مقاصدها , فهم سبق لهم وأن اتّفقوا على حشد شعوبهم خلفهم من حيث لا تشعر تلك الشعوب للمساهمة مع “أهل الكتاب” ودوائرهم الاستعماريّة الاستخباراتيّة الغربيّة الّتي تخاف الله وتسبّح بحمده ليل نهار على إسقاط “الاتّحاد السوفييتي” الملحد ! ..
..أنا كغيري من المثقفين المنفتحين على عقول الآخرين مهما كانت طروحاتهم الفكريّة مالم تكن ملوّثة بالعرقيّة وبالمذهبيّة الّتي قضى على مثيلاتها الموروثة عن عصر الجاهليّة الإسلام نفسه , لست ضدّ منافسة الضفة الغربيّة من العالم الآخر ولا غيرها من ضفاف , وسواء , بالألعاب الرياضيّة أم بغيرها من فعّاليّات إنسانيّة , نساءً ورجالاً , شرط أن لا يتدخّل فيها اغتصاب الحقوق أو السلاح .. بل على العكس أنا كغيري من الّذين يقفون بقوّة مع ذلك التنافس .. ولكن ( شرط أن يكون التنافس نابعاً من أرضيّة انتماء كفؤ يوازي بجميع أبعاده انتماء من هم منتمون للضفة المقابلة ) , لا أن يكون التنافس عالة على “القوانين الأولمبيّة” مثلاً , والّتي صنعها لنا السيّد الغربي “حمايةً للضعيف” مثلما صنع لنا خصّيصاً حزمة الفعّاليّات المعنونة تحت مسمّيات “حقوق الانسان” وغيرها من منظّمات باتت مكشوفة ومكشوفة أغراضها منذ أمد طويل .. ( أي يجب أن يؤدّي رياضيّونا الصلاة ) إذا ما أدّوها , وهنا أصل موضع هذا المقال , من وعي ذاتي مسند بالانتماء باللاّوعي بالذات المتماهية تلقائيّاً بمرتكزات دولة متفوّقة “وغير معتدلة” تضيف “لمسابقيها” وبقيّة “قوى الاستطلاع الثقافي” هالة من الخصوصيّة الواجبة الفرض على جهات التنافس الأخرى وكفؤ لها من حيث الثقل السياسي الدولي وأن لا نقبل بديلاً غيره آخذين بعين الاعتبار أنّ المتنافس الغربي أو الأميركي عندما “يصلّي” بطريقته الّتي عهدناها , عقب “فوز” رياضي ما يحقّقه مثلاً , فإنّما نابع من شعور “ذاتي” خاص به وليس جمعي كما يظن “أخوتنا بالله” ؟! , قوامه مرتكزات راسخة تعلوها ذات ينتعش بها صاحبها “الغربي” وينتشي .. ذات منتمية لمجموعة حِزَم إشراقات مكوّنة للحسّ العالي المتراكم في اللاوعي لديه وبالانتماء والافتخار وبالتفوّق المبنيّة جميعاً , والممهّد لها تربويّاً منذ الصغر , على الإنجاز العالي حدّ التطرّف والانعزال الكينوني عن الـ “مثل” الّذين هم “نحن” ! .. “صلاة” مشحونة بمثل هذا “المضمون” يؤّديها من هذا النمط المتفوّق , من المؤكّد سيكون لها وقعها الخاص في النفوس لذلك استفزّنا مثل هذا النمط واستفزّتنا “صلاته” في مناسبات مغايرة أدائها في غير مواقعها بالنسبة لنا , كما استفزّنا سابقاً منذ أوّل ظهوره على أراضينا بشكل غير مباشر “مستشرقون .. رسّامون وأدباء وطوبغرافيّون” أو بشكل علني قبل ما يناهز الثلاثمائة سنة “استعمار” , تبعناه وقلّدناهم ولو بشكل آخر … لا يهم فالمقصد واحد ! ..
إنّ إقحام السجدة في المجريات الرياضيّة مثلاً “رياضيّو السعوديّة بكرة القدم , ومن ضمن حلقات نشر ــ التقمّص الشعائري الديني ــ والسعوديّة مركز الاستقطاب الديني الأول لدينا نحن المسلمون , هم أوّل من عمّم هذه الظواهر , كالحجاب مثلاً وسط الفنانات والفنانين المصريين سبعينيّات القرن الماضي , وهم من وقف وراء انتشار ظاهرة السجدة في الملاعب وأوّل من فعّلها جماعيّاً في ملعب ميونيخ عندما سجد اللاعبون الكرويون السعوديون بحلقة دائريّة وسط الملعب في بطولة كأس العالم لثمان سنين خلن أسمعنا بعدها المعلّق الرياضي الألماني تعليقاً لا يسرّ !” , هو إقحام للدين في غير محلّه , خاصّة في كرة القدم والرياضة عموماً , فليس صحيحاً أن يصبح من المألوف لدينا أن “هدفاً” يتحقّق بمن استطاع تسجيله في مرمى “الخصم” إلاّ وقد “خرّ ساجداً” صاحبنا , بظنّه , وبظنّ من أفتى له بجواز ذلك من مثل وعّاظ القشطة “واللوزينة الدينيّة” والمنتمون بكلّ تأكيد للإسلام الأميركي ومواصفاته “العصريّة” المضمونة للراعي الأميركي خراج “سحابتها” أينما “أمطرت”..
قد يقول قائل “وما الضير .. فرحان وشكر الله وحمده على “النصر” أو على “الفرحة” الّتي غلبته فسجد لله .. فشكو بيهه يعني مو أحسن من ما يروح للسينمات أو يتخّم بالشوارع أو يتحارش بالرايحة وبالجاية ! .. هي هكذا ستكون إجاباتهم وبمثل هذا المفهوم الجامع لفهمهم , تقريباً وهي تذكّرنا بأقاويلهم “الشططيّة” واحدةً منها “شلون نقبل يحكمنا علمانيّون يشربون الخمر!” .. بينما نسي من مثل هؤلاء الوعّاظ أو من سيدافع عنهم , وهم يشكّلون اليوم الغالبيّة مع الأسف , ونقول لهم ؛ أنّ الصلاة أصلها ( خشوع ) .. ولا خشوع وسط هيجانات ! ولا تستقيم حالة السجود “أو سيتم قبولها” بحسب منطق التديّن الحقيقي , وسط “شلوشة” فرح وتعانق وقُبَل وقفزات في الهواء وتقفّز ورقص ارتجالي “حتّى ولو كان رقص منظّم” ووسط “تمرغل” بحشيش الملعب و”ترافس” ووسط ضجيج عالي على إيقاعات أبواق المشجّعين وطبولهم ووسط صيحات الرائعين “قدوري ومهدي” الّتي تكاد صيحاتهما تخرق طبلات الآذان ووسط أهازيج الجمهور المرعدة المزبدة في أرجاء الملعب .. إذ أنّ الرياضي “الساجد” يا سادتي لم يكن هنا بصومعة يتأمّل خاشعاً يلوم ذاته ويعنّفها على ارتكاب الخطأ أو المعاصي فيستجيب له الباري بأن يغفر له عن طريق “عربون تسامح” كأن يبشّره بغلام يحمل اسمه ليكون آيةً للعالمين وليس “هدف” ! .. كما ولا ننسى انّ الدعوة “للإسلام” لم تأتِ “للتحدّي” فالدعوة تبشير وتحذير وإنذار لا كيد وإغاضة عن طريق أداء شعيرة دينيّة وكأنّ مؤدّيها يغمز لمنافسه من الضفة الأخرى بأفضليّة ما يحمل من معتقد ! , وذلك ما يجري في مسابقات اليوم الرياضيّة بكرة القدم خصوصاً متناسين أنّ السجدة لله وليست لإغاظة من بظنّه يريد هديه للإسلام حين يريه بهذهالسجدة ما لم يره فيؤمن الخصم فوراً وينطق الشهادتين ! ..
السجدة بحسب ما فهمناها, نهاية تراكم من خشوع مسبق وليس على أساس تباري ولهاث بين “خصوم” , أي تأتي السجدة بعد سكون وانفراد طويلين قد يودي بمن أدّاها , فيما بعد , الخروج عن دائرة الوجود للحظات إلهيّة معيّنة .. أو قد تأتي السجدة لنبأ انتصار في معركة حقيقيّة , أو تأتي عن نبأ سار أو فرحة آنيّة لها ارتباطها بالممارسة الّتي ذكرنا لتحقيق فعل مجدي للمجتمع من أصل تمنّي مكرّر على الله .. لأنّ “خرّ ساجداً” بمثل تلك السجدة الّتي أدّاها في لحظة ما النبيّ “داوود” أتت من تأمّلات مقدّمتها نكران ذات ولوم شديد لها متتالي أقرب إلى التقريع وبخشوع تام كانت لتلك اللحظات الزمنيّة أوّلياتها السابقة لأسابيع أو شهور خلت في لحظة تجلّي لا يعلم درجة صفاء فطرتها إلاّ الله تسامت ضمن حلقة تدبّر وتفكّر وانبهار بقدرة الله وحسن ولطف “تنبيهه” لداوود في موضوع خاص نتائجه كانت بمثل ذلك السموّ , “سجدة” .
“موديل” أو “مودة” السجود , في الملاعب وفي الملاعب الكرويّة تحديداً “وبدعة ــ إخوانيّة ــ أخرى سبقتها هي قراءة البسملة من قبل الملحّن الموسيقي قبل بدئه تمرين العزف !” انتهاج ديني متطرّف ومنحرف عن حقيقة الإسلام خاو من أيّ مضمون ويعبّر بوضوح عن حالة بؤس وخسران وتبعيّة يعاني منها “المسلمون” اليوم تعكس صورة خاوية خربة عنهم غاية في السلبيّة “وانتفاخ شديد في التعويض النفسي” تعطي مؤشّراً لا لبس فيه عن ما وصل إليه العقل “المسلم” المغالي من انحدار في الفهم الصحيح لقيم الإسلام العليا .. إذ , فبدل أن يكون “المسلم” داعية .. شاهد ومبشّر ونذير .. نراه منفعل ومتوتّر يهزّه “نصر” وهمي سرعان ما يطويه النسيان في اليوم التالي ..