يتذمرُ بعض الشعراء الكبار من تيّهان قصائدهم الجديدة وتراجع تناولها نقداً وتحليلاً واهتماماً ، مُحمّلينَ الدماء الجديدة من الشباب وكثرة قصائدهم ، وهيّمنتها على النشر في الصحف والمجلات ” ورقية والكترونية ” ، وِزرَ ذلك التيِّهان .
وفي واقع الأمر يقودنا هذا التذمُر لتفسيراتٍ تُؤخذ على محاملٍ وأوجُهٍ مختلفة ، منها الأنانية والتعالي واحتكار الصنعة (( إذا ما جاز اعتبار الشعر صنعة )) ، ومنها ايضاً ” النرجسية ” وما يتمخض عنها من نزعة عدوانية حيال المنافسين ، اللذين لاوجود لهم سوى في عقول البعض ، مع ضرورة الإعتراف : ليس جميع مايُنشر من القصائد (( الفتيّة )) يمكن تصنيفها شعراً سليم البُنيّة إطلاقاً ، إذْ يتخلل البعض منها ضُعفاً وتَعَثُراً ، بيّد ذلك لايُبرر قمع اصحابها وناظميّها ، ومنعهم من التعبير والنشر .
او ربما وضع محاولاتهم موضِعَ التهكم والتندُر .
وكأنَّ جميع الشُعراء وُلِدوا مُبدعينَ عُظماء ، دون مرورهم بتجارب متواضعة إنتابها الإخفاق في أحايين كثيرة ، وليس إنتقاصاً القول : ان السوادَ الأعظمِ منهم قطعوا اشواطاً نحو الجودة تخللتها الهفوات سواء في العناصر او الأغراض او المُقوّمات .
وإنسياقاً مع نفوسنا البشرية الأمارة (( بسوء الظن )) ، يصبحُ لِزاماً التوضيح وإزاحة اللبس التالي : الدفاع هنا عن المحاولات الشعرية المتواضعة ، لايعني قط ، التشجيع على استساغة اللغة الهابطة ، مقيتة النبر في الأذان .
قدر الأخذ بيّدِ المبتدئين والحؤول دون وقوعهم أسرى الفشل والإحباط الذي يُسببهُ النقد اللاذع الهادم للأمل وتردي المعنويات .
وربما يجدني البعض متحمساً في التشجيع على العودة الى تراثنا اللغويّ والنهل من معين نتاج الأجداد ، وهذه حقيقة فيها جانب من الصواب ، إلا انها لاتصل حد التطرف والمغالاة في الواردِ مما يكتب البعض من جيل الثمانينات والتسعينات للقرن المنصرم ، وهو يُحاكي الأشعار العربية القديمة في نصوصه التي يطغى عليها طابع التقليد والميّل الى إيراد الغريب من الألفاظ التي ربما تلائم العصر ” الجاهلي وما تبعهُ وصولاً للعباسي ” ، منها مثالاً : ( حسا ذو عفا ، الأقْعَسِ ، عصبصب ، أرْتِعُوا ، ماضي المشرفي .. وغيرها ) .
صحيحٌ ان الشعر نابع من ذاتيّة الشاعر وعاطفته وخياله ، فينقل الأثر الذي يحسُهُ الى سواه ، وصحيحٌ ايضاً إحتياج الشاعر الى التأنقِ في عباراته وتخيّر الفاظه في تصوير وجدانه وإثارة وجدان المتلقي ، إلا ان الإيغال في التقليد والإكثار منه سيّولد نفوراً وحالةً غير مُستساغة لدى جمهور الشاعر ومُحبي الشعر ، لاسيما وان مُعظم الجمهور من الوسط الأدبي والثقافي الذي يُميّز الغث من السمين ، سواء في المنظومِ ام المنثور .
لذا يقتضي الإنصاف تشجيع الشباب المبدعين والشدِّ على اياديهم في استمرارهم لنظمِ الشعرِ عمودياً كان ام تفعيلياً ، وربما آن الأوان لأن نحتفل بولادة احدهم في هذه الظروف الحرجة التي يمرُ بها قطرنا وامتنا ، وسط تكالب قوى الشر والعدوان علينا .
والإحتفاء هنا إحياءٌ لِسُنةِ اسلافنا من الأجداد ، إذ كان القُدامى منهم يعتبرونه لسان حالهم في التعبير عن الأفراح والاتراح وتدوين المفاخر والتأشير على مواطن الجمال في الحب والغزل ، بدل احتكاره على اسماءٍ يُريدُ بعضهم ان يحتفظ بألقابهِ وجوائزهِ الدهر كُله .