أصبحت الديمقراطية ضرورة لاغنى عنها، واختياراً لا مفر منه فهي معيار صلاحية الخيارات الاخرى على صعيد السياسة والمجتمع والاقتصاد، انها مايمنح هذه الخيارات جميعها بعدها الانساني، ولايمكن تمثل هذه التحولات بعمق الا في اطار الدولة الحديثة التي تقوم على أسس ثلاثة، فصل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، ورقابة المجتمع على سلطة الدولة، وخضوع سلطة الدولة نفسها للقوانين التي تسنها، بحيث ينظر الى الدولة، بوصفها حقلاً يعكس تناقضات البنية الاجتماعية وتوازنات القوى فيها ..
ولابد من القول ونحن نتصدى لفكرة الديمقراطية وقيامها في العراق، لاسيما في تجربة وظروف المتغيرات الجديدة التي حملتها الوقائع بعد 9 نيسان 2003 من ان ندرك حقيقة ان الديمقراطية لم تعد مجرد مطلب ترفعه هذه الفئة او تلك من القوى الاجتماعية والسياسية، ولامجرد دعوة ثقافية تعقد لها الندوات والملتقيات، ولاهي سياسة تتوخاها الدول لاعتبارات استراتيجية فحسب، بل هي كل ذلك، وتمثل فوق ذلك كله مصلحة وطنية كبرى، فيها تستقر الاوضاع ونضمن فيها ولوج طريق التقدم الحضاري..
وقد يكون لزاماً علينا ان نؤكد في هذه المناسبة، انه قد يكون من الصعب القول ان الديمقراطية تملك حلولاً سحرية لجميع مشاكلنا، ولكن من السهل الاستنتاج، وخاصة في ضوء تجربة المجتمع العراقي مع النظام الشمولي، انها الطريق الاصوب للتعاطي المجدي مع التحديات المفروضة علينا، حين نقدم امكانية لايجاد الحلول، خاصة اذا ساد الفهم المسؤول لمعانيها والادراك الواعي لمتطلباتها ونقاط القوة والضعف فيها.. لكن ذلك يتطلب اعادة انتاج النظام السياسي على نحو يؤسس لديمقراطية تشكل اساساً لمشروع الاصلاح والتحديث والبناء بكل مستوياته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، بما يفرضه ذلك من اعادة بناء الدولة الوطنية العراقية الحديثة والشروع بتثبيت القيم ونشرها واشاعتها في المجتمع، ومنها حقوق الانسان، والمواطنة، وارساء الدولة الحديثة، وتوحيد المؤسسات وعقلنتها، والاهتمام بتركيز عال على انعاش النظام القضائي والقانوني واصلاح التعليم وبرمجة المعدلات الضريبية على وفق مستويات البناء الاقتصادي والمعاشي للمجتمع، ولانغالي اذا ما قلنا بان هذه القيم والتدابير يمكنها ان تضطلع بدور اكبر في انطلاقة العراق الجديد ودولته الحديثة الرائدة.
ومما لاشك فيه ان تحديات الحاضر والمستقبل اكثر تعقيداً من تحديات الماضي، فلم يعد في عالم اليوم من الممكن البقاء بعيداً عن ثورة العلم والتكنولوجيا والاتصال والمعلوماتية، فالعولمة الزاحفة لن تترك احداً خارجها الا للتهميش، فهي مرحلة جديدة من مراحل بروز وتطور الحداثة، تتكثف فيها العلاقات على الصعيد العالمي، حيث يحدث تلاحم غير قابل للفصل بين الداخل والخارج، ويتم فيها ربط المحلي والعالمي بروابط اقتصادية وثقافية وانسانية ويبقى التساؤل ملحاً في هذا الاطار، كيف نهيئ ارضية داخلية صلبة قادرة على التعامل مع معطيات وتطورات العالم المعاصر لتأمين المصالح الوطنية من خلال التكيف الايجابي مع متطلباته..
ان صياغة معادلة جديدة في حياتنا الداخلية تأخذ بعين الاعتبار تعاظم التحديات في ظل علاقة بين السلطة والمجتمع قائمة على القناعة والثقة والتفاعل الحر، علاقة مقننة في إطار عقد اجتماعي جديد يوفر الشفافية وروح المواطنة والمؤسساتية والقانون، وهي بحسبي وحدها الكفيلة بوضع العراق على اولى درجات التأهيل الحضاري والاصلاح والتحديث المنشود. صحيح ان مصير اعادة بناء الدولة الوطنية الحديثة في العراق، مرتبط بالتطبيق، اذ ان كل القوانين والاجراءات والتدابير، قد تواجه اشكالاً من الردع والتأجيل والاعاقة عند التنفيذ أو يمكن تنفيذها على نحو بطيء وبيروقراطي خالٍ من الحيوية والابتكار لابل يترافق تنفيذها احياناً مع نية بابطال مفعولها والامثلة كثيرة في هذا الشأن. أن الاصلاح والتحديث لايحتاجان فقط الى اصدار مراسيم وقوانين، بل يحتاجان ايضا الى من يقوم بتفعيل هذه القوانين ووضعها حيز التنفيذ، لقد علمتنا التجربة ان شيوع الفساد والبيروقراطية واللامبالاة بمصالح الناس لدى الجهاز الاداري التنفيذي من العوامل التي تبث اليأس عند الناس وترفع درجة السخط بينهم، وتشكل الرقابة المجتمعية التي تتحقق في ظل الديمقراطية ووجود منظمات مستقلة للمجتمع المدني، والمساءلة القانونية ضمانتين مهمتين لمحاصرة الفساد، ومحاسبة المسؤولين عنه، كما تشكلان ضماناً أساسيا لحسن أداء تنفيذ القوانين وصيغ النزاهة في العمل وهو الامر الذي يحقق ظروفاً لتنفيذ الاصلاح الاقتصادي، ومن ثم توفير الامل لدى الجمهور في امكانية تغيير احوالهم المعيشية نحو الافضل.
لاشك ان تحديد الاولويات ومراجعة الاهداف المزمع تحقيقها ضرورة ملحة في عراق العهد الجديد، ليتم التركيز على متطلبات بناء الدولة الحديثة ومقتضيات الاصلاح والتحديث فيها وكذلك العمل الجاد على تكريس القواعد الديمقراطية وبناء المؤسسات الدستورية وتفعيل نشاطاتها وتأثيراتها ومعالجة المشكلات المعيشية وتأهيل وتحديث الهياكل والبنى الاقتصادية والاجتماعية وتحقيق التنمية والارتقاء بمستويات القدرات العراقية الكفوءة فضلاً عن الانفتاح على العالم، والتعامل معه من موقع الشراكات المتكافئة، في ظل التوجيهات السياسية والاقتصادية الجديدة التي لم يعد هناك مجال لتجاهل آثارها السلبية والايجابية على جميع بلدان العالم.
لقد كان لغياب الديمقراطية عن الحياة السياسية والاجتماعية في العراق العثرة الكبرى امام بناء الدولة الحديثة، والثغرة الاساسية في عدم تقدم البنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، ولعل مسألة الديمقراطية هي من أهم الدروس التي يمكن استخلاصها في هذا الامر، فقد ادى الى اضعاف دور المواطن وتقليص المشاركة الحقيقية في العمية الانمائية وضعف الانجازات التنموية الحقيقية، اذ ان التقدم الشامل لايمكن تحقيقه واستمراره في ظل غياب الاصلاح الاجتماعي والثقافي والسياسي، والاستناد الى قاعدة ديمقراطية اوسع وتمتع فعال بالحريات السياسية والفكرية..
من اجل ذلك تبدو الديمقراطية في رأس اولويات التأهيل والاصلاح في العراق، فالاصلاح ونجاحه يستدعيان مقولات جديدة، تؤسس عدداً من المفاهيم والقيم وتحديد سماتها ومهماتها على نحو واضح وجلي ومن تلك المفاهيم والاليات، المجتمع المدني، الدولة الحديثة، المواطنة، وتكاد تبرز اهمية ذلك اذا ماأدركنا اننا وبالضرورة لابد من ان تكون لدينا لغة سياسية وطنية حديثة فعالة ومنظمة، في الوقت ذاته ينبغي ان يتم تفعيل حساسيتنا الراصدة لمقتضيات هذا الواقع في امكانية وجود قناعة قائمة ترى بأننا اذا لم نتلامس مع هذه الحقائق فأن معنى ذلك سيبقينا خارج تسلسل عمليات التقدم الانساني… ان نجاح العراق الحديث واصلاحه سياسياً واقتصادياً، يكمن في جعل هذا التطور والبناء شاملاً وضرورياً وان يقوم ايضاً على الدعوة باستقلال القضاء وسيادة القانون، اضافة الى كل اسس النظام الديمقراطي، بما يضمن قيام دولة حق وعدالة وقانون قوية متوازنة وحاضرة.
ان العراق يواجه فرصة تاريخية تكمن في اعادة بناء الدولة العراقية الوطنية الحديثة، بالاعتماد على تضافر جهود النخب الفكرية والسياسية والكتل والحركات والاحزاب والتجمعات والمنظمات من كافة الوان الطيف العراقي ومن دون استثناء، فلا يجوز تفويت هذه الفرصة، بل يجب الحرص على دعم ومساندة اوجه التحول الديمقراطي، الذي يفتح الافاق امام اعادة صياغة عراق جديد مبني على أسس جديدة وحضارية.
ولكن ثمة من يرى ولاسيما في اطار النظرة الموضوعية للواقع العراقي الان، بان هذا الامر ليس سهلاً، فالدولة المدنية الديمقراطية تتطلب تجاوز الولاءات الضيقة، الدينية والمذهبية والعرقية والمناطقية والعشائرية وتتطلب جعل الدستور عقداً اجتماعياً بين المواطنين، كل المواطنين، على اساس المساواة التامة فيما بينهم، بصرف النظر عن دينهم او مذهبهم او قوميتهم او اتجاههم السياسي، وان تكون السلطة التي تنبثق عن الانتخابات ممثلة لكل مكونات الشعب، وخصوصاً في المرحلة الحالية من بناء الدولة الديمقراطية الاتحادية المدنية المنشودة، ولن يتحقق هذا الامر مالم يكن هناك دور فعال للقوى الديمقراطية العلمانية في مجمل العملية السياسية الجارية حالياً في ظل اعمال الارهاب والتخريب المتفاقمة وتصاعد العنف الطائفي، وفي ظل الضعف الشديد للوعي الديمقراطي وفقدان الثقافية الديمقراطية بين اوساط واسعة جداً من ابناء الشعب جراء ما عانته القوى العلمانية الديمقراطية على ايدي النظام الديكتاتوري، وماتعانيه اليوم على ايدي القوى المعادية للديمقراطية، وتستخلص هذه الرؤية نظرتها من صعوبة اقامة دولة مدنية ديمقراطية حقاً في الظرف الراهن، بالتأكيد على اهمية مالحق بالطبقة الوسطى في العراق بوصفها الحامل الاكثر لاهمية افكار بناء الدولة، وبسبب ماجره الاحتلال وعواقبه السلبية حتى الان من اعاقة جدية لانتعاش العملية الاقتصادية، بما يساعد على استعادة الطبقة الوسطى لدورها في بناء الدولة المدنية الديمقراطية، ولذا تقف مهمة نشر الوعي الديمقراطي والثقافة الديمقراطية بين افراد الشعب، وتعبئة كل القوى التي تهدف الى اقامة دولة مدنية ديمقراطية عربية وكردية وتركمانية وكلدو آشورية داخل البرلمان وخارجه في مقدمة المهمات التي ينبغي التصدي لانجازها بالتزامن مع مهمة القضاء على الارهاب والتخريب والعنف الطائفي والعمل على تعزيز دور التيار الديمقراطي في العملية السياسية ولن يتم هذا بشكل فعال بمعزل عن استعادة الطبقة الوسطى لدورها في الحياة الاقتصادية والسياسية. وباختصار فأن قوى التيار الديمقراطي، بما فيها الحركة القومية الكردية وطلائعها السياسية هي القاعدة السياسية والطبقة الوسطى الى جانب الواعين من شغيلة اليد والفكر، هم القاعدة السياسية والطبقة الوسطى الى جانب الواعين من شغيلة اليد والفكر، هم القاعدة الاجتماعية للدولة العراقية المدنية الديمقراطية الاتحادية الموحدة المستقلة المنشودة من قبل غالبية ابناء الشعب العراقي.