تمّر الذكرى الرابعة والخمسون لثورة 14 تموز عام 1958 تلك الثورة أو الانقلاب العسكري الذي أطاح بالنظام الملكي العراقي وقد عاش فيه العراق مرحلة اسقرار وتطور وعدالة على الرغم من حالة الفقر التي عانى منها الشعب العراقي آنذاك ، وبعد نجاح ثورة تموز استطاع الزعيم عبد الكريم قاسم الذي تسلم منصب رئيس الوزراء بعد قيادته لتلك الثورة التي ألتفت من حولها اغلب طبقات المجتمع العراقي وبخاصة الفقراء منهم وعلى الرغم من فترة حكمه القصيرة فقد دخل قلوب العراقيين حتى انه لقب بابي الفقراء ، لكونه كرس جل جهده من اجل رفع المستوى المعيشي لطبقات المجمع التي كانت ترزح تحت خط الفقر ! كان قاسم همه الاول هو الشعب وكيفية القضاء على وضعه الاجتماعي والاقتصادي البائس من دون النظر الى نفسه وذويه وقد عاش ومات وهو لا يملك من المال غير راتبه ، لا بل مات وهو لم يسدد فاتورة ايجار البيت الذي يسكنه !
لم يمّر في تاريخ العراق المعاصر مثل هذا الرجل النزيه والعفيف الذي اخلص اخلاصاً منقطع النظير لوطنه وشعبه ، لكن النفوس الضعيفة الدنيئة تمكنت من القضاء عليه في مبنى الاذاعة وتم اعدامه بطريقة عبرت تعبيراً واضحاً على مدى الهمجية والمستقبل الدموي الذي ينتظر العراق ، ومنذ الثامن من شباط عام 1963 توالت الانقلابات والمجازر الدموية والحروب والدمار والخراب والنكبات الواحدة بعد الاخرى على يد الانقلابيين الذين برهنوا على حقدهم الدفين لهذا الشعب !
وعلى الرغم من ان ثورة الزعيم قاسم مهدت لانقلابات كثيرة تعاقبت واستسهلها آخرون لكثرة الدماء التي سفكت فيها في محاولة للوصول الى السلطة ليس إلا ! وقد وصل حالنا الى ما هو عليه الان بعد تضحيات كبيرة ومازال الشعب العراقي يضحي إلا اننا نحاول ان نستلهم من هذا الرجل الخالد في ضمائر العراقيين معاني كثيرة جسدها خلال فترة حكمه تتلخص بالوفاء لوطنه وشعبه وشجاعته في التصدي للمؤامرات التي تحاك في الظلام لتبديد ثروات العراق القليلة آنذاك ، لقد كان مثالاً يحتذى به بالنزاهة والشرف الامر الذي جعل من الشعب العراقي بعد رحيل عبد الكريم قاسم ان يعتبر رحيله بمثابة خسارة كبيرة لم تعوض ولو بعد مئات السنين ، وهذه هي الحقيقة الشاخصة في نفوس معاصريه الذين تعرفوا عن كثب على انسانيته العالية ونفسه الابية التي لم ترض الظلم والتفرقة بالرغم من بعض الاخطاء السياسية التي اقترفها وجعلت من حكمه ان يتهاوى بسرعة !
لقد تمكن قاسم خلال فترة حكمه القصيرة ان يبني عرشه داخل قلوب العراقيين ولذلك عاش في ضمائرهم لاكثر من خمسين عام وسوف يستمر لمئات السنين وسيذكره التاريخ بكل احترام وتقدير على العكس من البعثيين الذين لعنهم التاريخ ابان حكمهم وحتى سقوطهم المروع المخزي ، ومازالت افعالهم المشينة تنفضح اكثر فاكثر ليعرف القاصي والداني مدى الخراب الذي الحقته هذه الزمرة بالعراق !
وإذ يحتفل العراقيون بثورة تموز 1958 مستذكرين مواقف القائد المخلص لشعبه وياخذهم الحنين الى ايامه التي لا تتكرر حتى في زمن الديمقراطية التي مزقتها المحاصصات الطائفية من قبل احزاب مازالت حتى هذه اللحظة لا تفقه ماذا يعني الوطن !
كان عبد الكريم قاسم اثناء حكمه بامكانه ان يجمع الثروة الطائلة وان يمتلك ما يحلم به إلا أن نفسه الطاهرة ابت ذلك بترفع فكان يتقاسم راتبه الشهري مع اخته ومازاد يوزعه على الفقراء والمحتاجين بينما نرى في هذا الزمن الاغبر ان احزاب المحاصصة داخل الحكومة العراقية تسرق كل شيء وبطريقة مفضوحة وغير مكترثين بالفقراء والمظلومين الذين بذلوا من التضحيات الجسام حتى يتخلص العراق من الانظمة الدكتاتورية المتسلطة على رقاب الشعب لعقود !
لم تستوعب الدرس جيداً كل الاحزاب العراقية التي تحكم اليوم فقد عماها طمعها بجمع المال من ثروات العراق حتى وصلت الى مستوى لا تحسد عليه من لعنة الشعب ونقمته ! ولم تستمر الاوضاع هكذا ، فالعراق معروف منذ الازل في كل كبوة له لا بد ان ينهض من تحت الرمال مثل العنقاء .
فتحية لابي الفقراء عبد الكريم قاسم في ذكرى ثورته التي اعطت للعراق درساً في النزاهة والاخلاق والاخلاص للوطن لا يمكن ان يتكرر في هذه الظروف الحرجة التي يمّر فيها الوطن ..