17 نوفمبر، 2024 11:36 م
Search
Close this search box.

«سومورون» لماكس رينهاردت: ليلة عربية على مسارح العالم

«سومورون» لماكس رينهاردت: ليلة عربية على مسارح العالم

قبل فترة قُدّم في إحدى القاعات النخبوية في العاصمة البريطانية استعراض تراوح بين السينما والمسرح، مع موسيقى مصاحبة قدمتها عازفة شرقية الأصول، وبالتحديد لأن الاستعراض نفسه يمت بصلة الى الشرق هو المستقى أصلاً من إحدى حكايات ألف ليلة وليلة. في شكل عام كان جزء كبير من الاستعراض ينتمي الى الفن الإيمائي. لكن كثراً من الحاضرين سرعان ما ربطوه بالسينما الصامتة، من ناحية الأداء التمثيلي كما من ناحية العلاقة بين الإيقاع الموسيقي والحركات المسرحية التي بدت بعيدة من رقص الباليه الذي كان يفترض ان ينتمي الاستعراض اليه. والحقيقة أن هؤلاء كانوا على حق. ولعل الدليل هو أن واحداً من كبار مخرجي السينما الصامتة في أوروبا، الألماني إرنست لوبيتش ما إن شاهد ذلك العرض نفسه على المسرح عند بدايات العشرية الثانية من القرن العشرين، حين كانت السينما صامتة وتعيش اندفاعاتها الأولى، حتى أدرك على الفور الإمكانات السينمائية للعمل قائلاً: «يبدو وكأنه خلق ليكون عملاً سينمائياً» وهكذا حوّله الى فيلم حمل طبعاً عنوان العرض المسرحي «سومورون» نفسه. لكن الأميركيين، حين اشتروا حقوق الفيلم لعرضه في بلادهم، حوّلوا عنوانه الى «ليلة عربية»، فعرض بهذا الاسم وكان بداية شهرة لوبيتش في العالم الجديد، ولكن أيضاً بداية شهرة الفاتنة باولا نيغري التي قامت فيه بدور الفتاة العربية. ومنذ ذلك الحين صارت «ألف ليلة وليلة» على الموضة في السينما الأميركية.

> غير أن ما سهى عن بال الجمهور الأميركي العريض يومها، كان واقع أن هذا العمل ليس من بنات أفكار لوبيتش، بل إن هذا الأخير حققه من دون أن يضفي تعديلات تذكر، وكأنه يؤفلم استعراضاً مسرحياً. أما الاستعراض المسرحي الذي خلق كل تلك الحالة الفنية التي ارتبطت بالليالي العربية، فكان من إبداع ماكس رينهاردت، الذي كان في ذلك الحين واحداً من كبار مبدعي المسرح الاستعراضي المرتبط الى حد ما بالتجديد الذي أضفته الباليهات الروسية على الحياة الفنية الأوروبية. والحقيقة أن رينهاردت لم يكتف يومها بأن يؤسس أعمالاً فنية مثل «سومورون» تُستوحى منها أعمال سينمائية، بل كان تدخله كبيراً في البعد السينمائي لهذا العمل، كما أنه لن يبتعد كثيراً عن السينما بعد ذلك، وصولاً الى تحقيقه ذات مرة فيلماً مقتبساً من مسرحية شكسبير «حلم ليلة صيف» مستخدماً فيه موسيقى شومان الرائعة التي كتبها الموسيقي الألماني للمسرحية نفسها.

> ونعود هنا الى الاستعراض قبل أن يتحول الى ذلك الفيلم السينمائي الذي أشرنا إليه. وقدمه ماكس رينهاردت «زاعماً» أنه مبنيّ على حكاية من حكايات الليالي العربية، لكن الواقع أن حكاية الاستعراض التي تتحدث عن أميرة تُخطف، والصراع الذي يدور من حولها بين الطيبين والأشرار، والأمير الشاب النزيه الذي يخلّصها في النهاية، لا وجود لها كما هي في ذلك العمل الحكائي الشرقي. كل ما في الأمر أن رينهاردت ابتكر الحكاية لغايات استعراضية وأدمجها في أسلوبه المسرحي جاعلاً من العمل مزيجاً من الإيماء والرقص والتعبير، خالقاً له ديكورات شرقية رائعة ومشاهد بصرية تحبس الأنفاس. لقد قدم هذا العمل للمرة الأولى في برلين كما قُدّم في سانت بطرسبورغ، وهنا كانت البولندية آبولونيا شالوبليتش بطلته، فانبهر بها رينهاردت الذي دعاها حين قرر لوبيتش تحويل العمل فيلماً لتكون هي بطلته. وهنا غيرت اسمها الى باولا نيغري…

> في 1911 إذاً، بعدما قُدّم العرض في برلين، ليشكل بالتالي حدثاً مسرحياً أساسياً في لندن، قبل أن ينتقل بعدها الى نيويورك ليتحول بعد سنوات قليلة ليس الى فيلم صامت تماماً بل الى نوع من عرض سينمائي إيمائي، كان نوعاً من تدخل ماكس رينهاردت في الفن السابع مقدماً فيه باولا نيغري في دور الفتاة العربية. كان حدثاً عربياً، او بالأحرى يمت بصلة ما، الى التراث العربي، في كل مكان قُدّم فيه.

> غير أن العرض لم يكن ساحراً ومبهراً بمجرد اقتباسه عن الليالي العربية، بل لأن الاقتباس كان من الضخامة والحيوية، إذ أدى الى ولادة انعطافة جديدة في تاريخ الإخراج المسرحي وفي برلين ثم لندن على الأقل. نقول هذا لأن المخرج الذي كان وراء العمل الذي أحدث كل ذلك التجديد في الحركة المسرحية بلجوئه الى النص العربي وإمكاناته الاستعراضية الفسيحة، كان نمسوياً، سبق له أن اختبر أساليبه الجديدة في فيينا كما في مناطق عدة من العالم الجرماني، وذلك انطلاقاً من 1903، أي العام الذي قرر فيه أن يتوقف عن التمثيل المسرحي ليتحوّل الى الإخراج فيحدث في هذا العالم ثورة ما بعدها ثورة.

> كان مبدع العمل إذاً، ماكس رينهارت اشتهر على نطاق واسع في طول أوروبا وعرضها في ذلك الحين كرجل من كبار رجالات المسرح، أما السنوات العشر الأخيرة من حياته قبل وفاته في العام 1943، فقضاها في الولايات المتحدة إثر فراره من النازية، مثل غيره من كبار مبدعي أوروبا في ذلك الحين، في 1933. والحال أن أميركا عرفت كيف تحول ذلك الذي اعتبر أعظم مخرج مسرحي في عصره، الى رجل سينما ايضاً، لكن هذه قصة لاحقة.

> عندما وصل رينهارت الى لندن باستعراضه «العربي» كان في الثامنة والثلاثين من عمره، وكانت شهرته قد سبقته بوصفه الفنان الذي افتتح للمسرح عصراً جديداً، يحل الإخراج الاستعراضي فيه مكان الحبكة والموضوع كعنصر مسرحي له المكانة الأولى، وهذا ما جعله يمعن في استخدام الأدوات التقنية والديكور والإضاءة، ويتفنن في تحريك الجموع المسرحية كنقيض لسيطرة النجوم الممثلين على اللعبة المسرحية، كما سعى الى إيجاد أفضل السبل لدمج العناصر الغنائية والموسيقية في صلب العمل من دون أن يقوده ذلك الى الاكتفاء بتقديم العمل الأوبرالي. ومن ناحية أخرى كان في طليعة المخرجين الذين استعادوا في المسرح الأوروبي الحديث، أسلوب المسرح اليوناني القائم على جعل الخشبة المسرحية، حلبة تتوسط قاعة العرض يحيط بها الجمهور من كل مكان (باستثناء الخلفية المكرسة للديكور) بحيث يشعر الجمهور بتورطه واندماجه في العمل. أما الحركة المسرحية الدرامية نفسها فكان غالباً ما يستعيض عنها بديكورات استعراضية ضخمة ذات رسوم أفقية وعمودية تتنوّع بتنوّع الفعل الدرامي المسرحي نفسه.

> كان ما جاء به رينهارت وطوره في ذلك الحين يشكل ثورة مسرحية حقيقية، بخاصة أن مسرحياته الاستعراضية كانت غالباً ما تتطلب قاعات فسيحة وبالتالي جماهير غفيرة من المتفرجين. ومن هنا كان يقدم بعض تلك الاستعراضات في قاعات السيرك ولا يفوته للمناسبة أن يدمج ألعاب السيرك في الفعل المسرحي نفسه. وهذا ما كان يقتضيه، بالطبع، اختيار نصوص ضخمة مبررة لضخامة العروض. فكان اختياره لـ «اوديب الملك» ولـ «ألف ليلة وليلة» ولمسرحية «المعجزة» ثم لـ «حلم ليلة صيف» و «ماكبث» و «يوليوس قيصر» و» آغاممنون» لاسخيلوس التي قدمها في نيويورك فاكتشفه العالم الجديد من خلالها ليكتشف بالتالي انفتاح آفاق مسرحية واسعة أمامه.

> هذا الاكتشاف الأول للعالم الجديد، حققه ذاك الذي كان ولد العام 1873 في بادن بالقرب من فيينا، سيتلوه اكتشاف ثانٍ حين هجرته الى أميركا هرباً من النازية، وسيشمل الاكتشاف هذه المرة، اكتشاف فن السينما، حيث ترى هوليوود وقد اجتذبته في 1935، ليساهم في تحقيق فيلم مقتبس عن «حلم ليلة صيف» لشكسبير. وكان العمل من النجاح إذ إن العروض انهارت على رينهارت لتكرار التجربة، لكنه تباطأ في الاستجابة لأنه لم يتمكن أبداً من أن ينظر الى تجربة السينما نظرة جدية هو الذي كان يؤمن بالعلاقة الوثيقة بين حضور الجمهور وحضور العمل جسدياً. لذلك اكتفى بأن يرعى، في الولايات المتحدة نجاحات وأعمال سينمائيين كانوا في الأصل من المهاجرين الألمان الذين تربوا على يديه ومروا عبر «مسرحه الألماني» قبل أن تجتذبهم الولايات المتحدة والسينما ومن بينهم، بول ليني ومورناو وارنست لوبيتش وكونراد فيدت. ومن ناحية أخرى لئن كان ماكس رينهارت استنكف عن تقديم جزء من حياته ونشاطه للسينما، فانه قدم لها ابنه المخرج غوتفريد رينهارت الذي كتب العديد من السيناريوات للسينما الهوليوودية، كما أخرج بعض الأفلام الناجحة وأهمها «مدينة من دون رحمة» (1961) الذي لم يكف عن القول بأنه مدين لأبيه بالفضل في تحقيقه على تلك الشاكلة.

نقلا عن الحياة

أحدث المقالات