إعداد/ علي بكر
مع تراجع الوضع العسكري لتنظيم الدولة في العراق وسوريا، واقتراب حسم معركة الموصل، وربما بعدها مدينة الرقة، فإن التنظيم معرض للتفكك، وتشتت مقاتليه، مما يعني بالتالي عودة آلاف المقاتلين إلى بلادهم، بما فيها الدول العربية.
وإذ يملك التنظيم مخزونا بشريا ضخما من هؤلاء المقاتلين، فمن المحتمل بشدة أن تعود من جديد ظاهرة “العائدون”. لكن الموجة الجديدة من تلك الظاهرة ستأتي مختلفة عن الموجة الأولي في تسعينيات القرن الماضي، حيث الأعداد أكبر، والتركيبة والخصائص مختلفة، والمخاطر أعلى. يثير ذلك الأمر الذي التساؤل حول كيفية تعامل الحكومات العربية مع تلك الموجة الجديدة من العائدين، خصوصا في ظل التحولات التي شهدتها الظاهرة، وما ستفرزه من تحديات جديدة على الدول العربية.
أولا- أهم التحولات في ظاهرة “العائدون”:
اختلفت ظاهرة “العائدون” كثيرا عما كانت في الماضي، لاسيما مع تعدد التنظيمات الإرهابية المحلية والعابرة للحدود، التي أصبحت قبلة هؤلاء المقاتلين حول العالم، لاسيما في العراق وسوريا. وقد تطور دور المقاتلين الأجانب، خاصة في صفوف تنظيم الدولة، الذي صار يعتمد عليهم بشكل كبير، حيث يتميزون بدرجة عالية من الالتزام الفكري والتنظيمي، وكذلك بقدر كبير من الجرأة، خصوصا في القيام بالعمليات “الانتحارية”، أو “الانغماسية”، فضلا عن تقدم الصفوف في المواجهات المباشرة. وبشكل عام، صارت التنظيمات الجهادية تحرص على ضم مقاتلين أجانب لتحقيق مفهوم الأممية، عبر تعدد الأجناس والأعراق، إضافة إلى أن هؤلاء المقاتلين سيشكلون مستقبلا ركيزة دعوية وتنظيمية في بلدانهم.
ويمكن رصد أهم ملامح التغير في ظاهرة “العائدون” فيما يأتي:
1- ضخامة الأعداد: ففي منتصف عام 2016، وصل عدد المقاتلين الأجانب في العراق وسوريا، الملتحقين بتنظيم الدولة وغيره من التنظيمات الجهادية الأخري، إلى ما يقرب من 30 ألف مقاتل، نسبة لا بأس بها منهم ينتمون إلى دول عربية، الأمر الذي سيجعل المنطقة العربية بانتظار ما يشبه طوفانا من العائدين.
2- تركيبة متنوعة: ينتمي المقاتلون الأجانب المنخرطون في التنظيمات المسلحة إلى نحو 86 دولة من مناطق مختلفة في العالم. وإضافة إلى تعدد الجنسيات، تتنوع أيضا مشاربهم الفقهية والفكرية، التي يغذي بعضها بعضا، فتمتزج معا، وتشكل منظومة فكرية جديدة، تتسم غالبا بدرجة أعلى من العنف، وأعمق في التطرف. يعني ذلك الأمر أن “العائدون الجدد” محملون بأفكار في غاية التطرف والعنف، تختلف كثيرا عن الأفكار الجهادية والمتطرفة التي عرفتها المنطقة من قبل، مما سيفرض بالضرورة تعقيدات جديدة، وصعوبات في التعامل معهم، أو السيطرة عليهم.
3- انتقال المقاتلين: نتيجة تعدد بؤر الصراع في المنطقة، تشكلت ظاهرة جديدة يمكن تسميتها “انتقال المقاتلين”، حيث تتعدد الخيارات أمام المقاتل، ويسهل عليه الانتقال من بؤرة إلى أخري، دون اضطرار إلى التوجه مباشرة نحو الوطن. وبالتالي، فإن هناك احتمالية لأن تتوجه عناصر تنظيم الدولة إلى أي دولة غير مستقرة أو تعاني اضطرابا. ومن ثم، ستكون المنطقة أمام ظاهرة أخري، هي ” المقاتلون الرحالة”، أو “العائدون غير المحليين”، أو “العائدون الأجانب”، بحيث يعود المقاتلون لكن إلى غير بلدانهم الأصلية.
4- الفكر التكفيري: من المعروف تاريخيا أن العائدين يعتنقون عادة الفكر الجهادي التقليدي. لكن نتيجة التشدد العقائدي الذي تبنته التنظيمات الجديدة، أصبح الفكر التكفيري هو المسيطر على العناصر المنخرطة فيها. كما أن لبعض تلك العناصر سجلا جنائيا، يتنوع بين جرائم سرقة، أو تجارة مخدرات، وغيرهما. ووفقا لدراسة أجراها المكتب الاتحادي لمكافحة الجريمة ومركز المعلومات، المختص بالتصدي للتطرف في ولاية هيسن الألمانية، فإن نحو نصف الأشخاص، الذين شملتهم الدراسة ممن سافروا إلى سوريا للقتال هناك (نحو 670 شخصا)، من المسجلين جنائيا بارتكاب جرائم عنف أو مخدرات. وبالتالي، فالعالم أمام شخصيات مقاتلة تجمع بين التشدد الفكري، والسوابق الإجرامية، مما يجعل محاولة تأهيلهم فكريا أو اجتماعيا في غاية الصعوبة.
ثانيا- صعوبة تأهيل الفكر التكفيري:
يختلف الفكر التكفيري السائد في أوساط العائدين كثيرا عن الفكر الجهادي التقليدي، الذي اعتنقه العائدون في الماضي، والذي كان يتمتع ببعض المساحات الفكرية التي تسمح بالحوار، مثل وجود العذر بالجهل، ولو بصورة نسبية، وعدم تكفير العوام على الإطلاق، فضلا عن عدم إباحة دماء المخالفين بصورة مطلقة. أما الفكر الحالي، الذي يعتنقه معظم العائدين، فيبلغ من التشدد والجمود ما يقلل كثيرا من فرص ترشيده، أو ترويضه. ومن أهم أهم سمات هذا الفكر التكفيري ما يأتي:
1- “التحجر الفكري”: وهو يختلف عن التشدد الفكري الذي يعني وجود احتمالية للمرونة، ولو بقدر ضئيل، مما قد يمثل قاعدة أو أرضية للالتقاء أو الحوار. بينما يري الفكر التفكيري المتحجر أنه الوحيد الذي يمثل الإسلام، وأن معتنقيه فقط هم المسلمون، ومن سواهم كفار. ويفسر هذا تكفير تنظيم الدولة للجميع، حتى التيارات الإسلامية الجهادية. وهو ما جعل هذا الفكر محل انتقاد حتى من أصحاب الفكر القاعدي المتطرف، فوصفوه بالتشدد والغلو. فمثلا، وصف أبو قتادة الفلسطيني أتباع هذا الفكر بأنهم “كلاب أهل النار”، الذين يعدون كل من لا ينتمي إليهم أعداء للإسلام والمسلمين، سواء كانوا حكاما أو محكومين. وبالتالي، فأي محاولة للحوار، أو المراجعة، أو تصحيح الأفكار من قبل الحكومات، أو أي جهة من خارج تلك التنظيمات نفسها، سينظر لها على أنها محاولة من الكفار لإثنائهم عن عقيدتهم.
2- التقية العقائدية: يؤمن أتباع الفكر التكفيري بأن كل من حولهم كفار، لكن يجوز التعامل مهم بالتقية، إذا كانوا أقوي منهم، مثل التعامل مع الحكومات والمؤسسات الأمنية، بإظهار التخلي عن المعتقد، أو كما يطلقون عليه “كتم الإيمان”، والتظاهر بقبول أي مراجعات فكرية، أو برامج تأهيلية، وذلك من أجل الحفاظ على النفس من السجن، أو الهلاك، وذلك من باب الضرورة، ثم العودة إلى الفكر التكفيري، والإفصاح عنه بمجرد زوال تلك الضرورة. وهذا ما يفسر فشل العديد من محاولات الترشيد الفكري التي ثبت أنها، في الأغلب، لا تكون مجدية، في ظل تلك التقية العقائدية.
3- حتمية المواجهة: وهي من الاعتقادات الراسخة لدي أصحاب الفكر التكفيري، وتنطلق من وجوب وضرورة حدوث مواجهة مع الطرف الآخر الكافر، سواء الأنظمة الحاكمة في بلدانها، أو المواجهة مع العالم الغربي، أو المجتمعات الكافرة، نظرا لأنهم يعتقدون بأنهم أصحاب قضية عادلة. وعدالة القضية تقتضي المواجهة مع الآخر، لأنه ليس هناك أي بديل شرعي آخر يحقق الأهداف، مثل جهاد الدفع وجهاد الطلب، سوي تلك المواجهة. ومن هنا جاءت فكرة “حتمية المواجهة” التي لا يمكن أن تسقط شرعا، ولابد أن تتحقق واقعا، ولا اختيار فيها، ولا بديل عنها، ولابد أن تقع بعينها، وأنها لازمة في كل واقع، ولا تخضع للسياسة الشرعية(1). وهذا ما يجعل أصحاب هذا الفكر يرون أنه لا يمكنهم التعايش مع الآخر، أو التصالح معه.
4- غاية القتل: حيث إن القتل أصبح، عند أصحاب الفكر التكفيري، غاية وليس وسيلة، حتى إن إقامة الدول عندهم لا تتحقق إلا بالقتل. فـ “داعش” أعلن صراحة أن دولته باقية، لأنها بنيت بالدماء والأشلاء(2)، لذا فقتال الكفار (الآخرين) هو أيضا غاية يجب إدراكها طوال الوقت، لأنها قربي إلى الله، حتى إذا جلب هذا القتل أعظم المفاسد، وسبب أكبر الأضرار، لأنه صار فرضا عليهم، من باب أن القتال الدائم هو تحقيق لفريضة الجهاد(3). لذلك، يسرف معتنقو هذه الأفكار في قتل مخالفيهم، واستخدام الوسائل البشعة، مثل الذبح، وفصل الرقاب، والحرق. ولا يقتصر هذا على فئات بعينها، أو من يقاتلونهم فقط، بل يسري على الجميع، حتى المدنيين، وكل من كان في استهدافه مصلحة للإسلام(4).
5- الاستحلال: يعد من أسوأ النتائج التي ترتبت على الفكر التكفيري، إذ يصبح “الكافر” مستباح الدم، والمال، والعرض. والأخطر أن الاستحلال يصل عند أصحاب هذا الفكر إلى مرحلة الوجوب، لأنه يؤدي إلى إضعاف الكفار. فأخذ الأموال يضعف قدراتهم على القتال، والإسراف في القتل يضعف قوتهم، والاعتداء على النساء يدمر معنوياتهم، استنادا في ذلك إلى حديث “وجعل رزقي تحت ظل رمحي”، حيث يجب قتل من يمتنعون عن قبول الدعوة، واستباحة أموالهم، ودمائهم، ونسائهم، وذراريهم، فيكون ذلك هو الرزق الذي أفاءه الله على المؤمنين من أعدائهم.
ثالثا- كيف تتعامل الحكومات مع العائدين؟
في 2 ديسمبر 2016، تطرق الرئيس التونسي، القائد السبسي، لمسألة عودة المقاتلين التونسيين في التنظيمات الإرهابية إلى البلاد. وعكست تصريحاته مخاوف كبيرة لدي حكومات المنطقة تجاه ظاهرة “العائدون”، وكيفية التعامل معها، في ظل الأوضاع الأمنية والاقتصادية الصعبة التي يعانيها معظم دول المنطقة، مما يستدعي ضرورة الاهتمام بالمداخل والأدوات التي يمكن من خلالها التعامل مع تلك الظاهرة.
1- الترشيد الفكري:
لدي عدد من الدول العربية خبرات سابقة في التعامل مع العائدين، أو غيرهم من المتطرفين المحليين، عبر استخدام آلية “الترشيد الفكري”، عن طريق مرجعات فكرية، أو برامج تأهيل للأفراد المتطرفين. ورغم أن هذه الآلية لعبت دورا مهما في الحد من العنف في الفترة التي سبقت الربيع العربي، فإن الوضع الحالي مختلف على أكثر من مستوي، حيث لم تعد الأوضاع الداخلية مستقرة بالقدر الكافي الذي يسمح باستخدام تلك الآلية.
كما أن الأفكار، التي كانت تعالجها تلك المراجعات، والبرامج التأهيلية في السابق، قد اختلفت بشكل كبير، حيث صارت أكثر تطرفا وعنفا، وأصبحت أقرب إلى الفكر التكفيري منها إلى الفكر الجهادي، خاصة أفكار تنظيم الدولة الذي يعد مصدر الفكر الرئيسي لمعظم العائدين. وبالتالي، فإن طرق الترشيد التقليدية، التي استخدمها بعض الدول -مثل برنامج “السكينة والمناصحة” في المملكة العربية السعودية، أو “المراجعات الفكرية” للجماعة الإسلامية في مصر، أو مراجعات الجماعة الليبية المقاتلة- التي أطلقوا عليها “دراسات تصحيحية في مفاهيم الجهاد والحسبة والحكم على الناس”، كلها لم تعد تجدي نفعا مع المنظومة الفكرية الجديدة للعائدين.
كما أن هذه الطرق لم تكن فعالة بشكل كامل مع الأفكار التقليدية، حيث حدثت انتكاسة للعديد ممن خضعوا لهذه المراجعات أو البرامج. ففي السعودية، شارك عدد ممن خضعوا لتلك البرامج في عمليات إرهابية، مثل الانتحاري سعد الحارثي، الذي فجر نفسه في المصلين في مسجد المشهد، في نجران، في 26 أكتوبر 2015، فقد كان ممن خضعوا سابقا لبرامج المناصحة.
وفي مصر، تعرضت المراجعات الفكرية، التي قام بها كل من تنظيم الجهاد المصري، والجماعة الإسلامية، لما يشبه الانقلاب عليها، حيث عاد بعض الرموز التي كانت تؤيد هذه المراجعات إلي العنف، مثل أبي العلا عبد ربه، قاتل الكاتب فرج فودة. فقد أمضي ما يقرب من 20 عاما في السجن. وعندما أتيحت له الفرصة، سافر إلي سوريا، والتحق بجبهة النصرة، وظهر في أكتوبر 2016 فوق إحدي آلياتها العسكرية، يحض أعضاءها على القتال.
اعتماد الحكومات إذن على طريقة المراجعات الفكرية، أو البرامج التأهيلية لتلافي خاطر العائدين هو أمر نتائجه غير مؤكدة، لاسيما في ظل ضعف هذه البرامج من ناحية، وتطور الأفكار من ناحية أخري، فضلا عن أن هذه المراجعات لم تكن وليدة رغبة حقيقية في الإصلاح، أو التصحيح، ولكن نتيجة الأزمات التي تمر بها هذه التنظيمات، ورغبتها في الخروج منها عبر تلك المراجعات الفكرية.
2- الإدماج المجتمعي:
قد تسهم آلية “الإدماج المجتمعي” في احتواء العائدين، وذلك عبر استقبالهم كمواطنين، ومنحهم الحرية، في ظل رقابة أمنية، لا تنتقص من تلك الحرية. كما تتضمن هذه الآلية توفير المساعدات اللازمة بواسطة الدولة لتمكين العائدين من التعايش، والاندماج في المجتمع، مع تذليل جميع العقبات التي تعيقهم في الحياة الطبيعية، حيث يري البعض أن ذلك قد يدفع العائدين تلقائيا الي التخلي عن العنف، ونبذ الأفكار المتطرفة، من أجل الحفاظ على تلك المكتسبات.
ورغم أن هذا التوجه يبدو، للوهلة الأولي، خيارا جيدا قليل الثمن، فإنه لا يخلو من بعض المعوقات، على رأسها رفض قطاعات من المجتمعات فكرة استيعاب أولئك العائدين من الأساس، فضلا عن عدم تقبل فكرة تقديم المساعدات لهم من إجل إدماجهم في المجتمع.
ولكن ربما يكون الأمر الأكثر أهمية أنه في ظل المنظومة الفكرية التي يعتنقها هؤلاء العائدون، فقد يرون تلك المساعدات حقا مكتسبا لهم، وبالتالي تكون وسيلة لإكمال طريق “الجهاد” المزعوم، نظرا لأنه فكر قائم على التقية في مواجهة الحكومات “الكافرة”. ومن أبرز الأمثلة على ذلك أبو زكريا البريطاني، الذي قام بعملية انتحارية استهدفت الجيش العراقي في فبراير .2017 إذ كان قد أطلق سراحه من معتقل جوانتانامو في 2004، وصرفت له الحكومة البريطانية تعويضا ماديا بلغ مليون جنيه استرليني. ورغم ذلك، توجه إلي سوريا عام 2014، وانضم إلي تنظيم الدولة. وفي الوقت ذاته، قد لا تسمح الأوضاع الاقتصادية في بعض الدول العربية، التي ينتمي لها العائدون، بالقيام بهذا الدور كما ينبغي، لاسيما في ظل الأعداد الضخمة المتوقعة من العائدين.
ومن ناحية أخري، فمن المحتمل جدا أن المراقبة الأمنية لن يكون بمقدورها منع من يرغب في القيام بالعنف من هؤلاء العائدين. فالشاب الذي قام بالاعتداء على كنيسة في شمال غرب فرنسا، في يوليو 2016، كان يخضع للمراقبة، عبر وضع سوار إلكتروني يسمح للشرطة بتحديد مكانه بشكل دائم. ورغم ذلك، تمكن من تنفيذ العملية، فكيف الحال بالنسبة للدول العربية التي تفتقد مثل هذه الإمكانيات؟ وبالتالي، فإن خيار “الإدماج المجتمعي” في التعامل مع ظاهرة “العائدون”، رغم جاذبيته، لا يبدو سهل التطبيق في الواقع.
3- الاحتجاز:
من أكثر الخيارات التي تتبناها الحكومات العربية، في التعامل مع ظاهرة العائدين، هو احتجازهم في السجون، نظرا لأنه يعد الخيار الأسهل، والأقل ثمنا، خاصة في ظل حالة الاهتزاز الأمني التي يعانيها العديد من الدول العربية في مواجهة التنظيمات الإرهابية المحلية، مما سيجعل من الصعب السيطرة على العائدين بشكل كامل خارج السجون، في تلك الأجواء.
كما أن خيار السجن يمكن أن يمثل فرصة ثمينة للقيام بمراجعات فكرية، لاسيما أن جميع المراجعات الفكرية تقريبا، التي حدثت في المنطقة العربية، تمت داخل السجون.
ورغم ما يبدو من سهولة هذا الخيار بالنسبة للحكومات، مقارنة بالخيارات الأخري، فإنه بدوره لا يخلو من تداعيات سلبية خطيرة، منه -على سبيل المثال- احتمالية نشر العائدون لأفكارهم المتطرفة داخل السجون، خاصة أن بعض الدول العربية، مثل تونس، ليس لديها سجون، خاصة للمتطرفين والإرهابيين. كما أن هناك دولا ترفض عزل المساجين المتطرفين عن بقية السجناء، مثل الجزائر، التي صرح مديرها العام لإدارة السجون، مختار فليون، في 17 سبتمبر 2016، بأنه لن يتم اللجوء إلي سياسة عزل المحكومين في قضايا الإرهاب.
ومن ناحية أخري، فإن من أخطر التداعيات السلبية لوضع العائدين في السجون احتمالية تشكيل “خلايا إرهابية” جديدة يمكن الاعتماد عليها بعد الخروج، خاصة أنها ستكون خلايا قوية وغير تقليدية، ستجتمع فيها خبرات العائدين الكبيرة، والمتنوعة تنظيميا وعسكريا. كما أن هذه الخلايا لن تكون مقصورة على المتطرفين فقط، بل يمكن أن تضم بين صفوفها الجنائيين، بعد إقناعهم بالأفكار المتطرفة. وقد أثبتت التجارب أن السجون تمثل تربة خصبة لتكوين التنظيمات، وتجنيد الإرهابيين. وربما هذا ما دفع بعض الدول إلي اتباع سياسة “العزل الفكري” في السجون، مثل بريطانيا التي أعلنت، في 22 أغسطس 2016، أنها ستعزل الإسلاميين المتشددين في وحدات خاصة في سجون مشددة الحراسة للحد من قدراتهم على نشر التطرف بين السجناء الآخرين.
وأخيرا، فبرغم أن هناك أكثر من خيار أمام الحكومات العربية في التعامل مع ملف العائدين، فإن الأوضاع الأمنية والاقتصادية في العديد من الدول العربية، خاصة الدول التي تنتظر أعدادا كبيرة من العائدين، بأفكارهم التي أصبحت أكثر تشددا وعنفا، سترجح غالبا خيار “السجون”، برغم كل سلبياته، نظرا لكونه الأقل ثمنا وخطورة، مقارنة بالخيارات الأخري، خاصة أن معظم الدول التي لها مقاتلون في صفوف التنظيمات الإرهابية، ولها خبرات سابقة في التعامل مع ظاهرة العائدين، مثل مصر، والسعودية، وتونس، والجزائر، والمغرب، قد فضلت هذا الخيار من قبل. ويبدو أنها لا تزال تفضله، فطلائع العائدين الذين وصلوا الي الدول العربية، تم إيداعهم السجون، فور عودتهم.
ومن ناحية أخري، لم تظهر بعد رؤية عربية محددة حول كيفية التعامل مع العائدين، مما يجعل الخيار التقليدي، وهو السجون، هو المرجح في الوقت الحالي، لاسيما مع وجود مطالب في بعض الدول بضرورة بناء سجون جديدة، تخصص فقط للمتطرفين. كما تتردد دعاوي بتطبيق العزل الفكري داخل السجون بين المساجين المتطرفين والجنائيين، وكذلك ما يعرف بالتصنيف الفكري بين المساجين المتطرفين أنفسهم، بناء على انتماء كل منهم لتيار محدد، وذلك لمنع تناقل وتبادل الأفكار الإرهابية، حتى لا تظهر ألوان جديدة من الأفكار المتطرفة، تؤدي إلي تعقيد الظاهرة الفكرية المتطرفة. وبالتالي، يمكن القول إن الخيار الأكثر ترجيحا في تعامل الدول العربية مع خيار العائدين هو وضعهم في السجون مباشرة، وأي خيارات أخري تأتي في مرتبة تالية لهذا الخيار.
الهوامش :
1- حتمية المواجهة وفقه النتائج، (الرياض: مكتبة العبيكان، الطبعة الأولي، 2005)، ص.23
2- مجلة دابق، العدد الخامس، 2015، مركز الحياة للإعلام، تحت عنوان: “باقية وتتمدد”، ص.23
3- تسليط الأضواء على ما وقع في الجهاد من أخطاء، (الرياض: مكتبة العبيكان، الطبعة الأولي 2005)، ص.53
4- مجلة “إيحاءات جهادية”، العدد الثاني، 2016، مركز إعداد الجهاد، تحت عنوان “العمليات الاستشهادية .. انتحار أم استشهاد؟”، ص46.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعريف الكاتب:
باحث في شئون الحركات الإسلامية
المصدر/ السياسة الدولية