“أودعكم ، اعذروني عما بدر مني ، بعد قليل ساشعر براحة ابدية” ، آخر كلمات للملياردير البريطاني بيتر لورنس سميدلي صاحب أفخم الفنادق وسلسلة العقارات في بريطانيا، قبل ان يلفظ انفاسه الاخيرة حين قرر انهاء حياته بموافقته وامام اسرته في عيادة بسويسرا من تلك التي تساعد المرضى على إنهاء حياتهم. بعد تقدمه في السن وظهور علامات مرض العصاب الحركي الذي عانى منه يرافقه في احتفال الموت الرحيم هذا محاميه وطبيبه وزوجته التي رافقته في أجمل ايام احساسهم بالمتعة ونعمة الثراء والخلود!.
هذا المشهد المفزع في معناه ، مما لايمكن بسهوله استيعاب مجرياته ،يُبرق رسالة عن أشهر حدث حتمي مرتقب يختتم سيرة اي كائن في الوجود بعد حدث ولادته. مصير لايوقفه طب ولاتؤجله ثروة ولا تغير وجهته صناعة ولا تحتاط منه اعظم قوات الحماية . ففي الوقت الذي نعرفه جيدا وننتظره جميعا ترانا نتعامل معه على انه صدمة ومفاجأة وشيئ غير معقول ! ، لاسيما وان حدوثه غير مرتبط بزمن أو عمر او حدث محدد كالحرب أوالسلم .
مافعله بيتر لورنس سميدلي يؤكد ان رجال الاعمال وصنّاع الثروة مصرون على تلقيننا الدروس العملية، ليقدموا لنا خلطة من منطق الحسابات الرياضية بوصفه واقعا، مع بضاعة الغيبيات الدينية بوصفها سرّا لولاه لما عبدنا إلها . خلطة سامة ، ندفع اقساطها من عواطفنا جيلا بعد جيل حتى تنفد، لنصل يوما الى وداع تقليدي بارد لأصدقائنا قبيل الموت وتسليم حاجاتنا جميعها ، بعد إحراق مايحرجنا اثناء غيابنا الابدي . لنكتشف بان كل شيء ملكناه او تشبثنا به أو انجزناه على الارض او تحتها أو على الورق ليس لنا حقٌّ فيه أو جائزة وجودية عليه ، حتى اسماؤنا التي زهونا بها وتتبعنا نطقها على الالسن عشرات الاعوام وملايين المواقف المختلفة ، لاتعدو كونها علامة كتلك التي يوسم بها السجين خلال حياته خلف القضبان حتى اطلاق سراحه.
وعلى الرغم من شيوع ظاهرة انتحار الاثرياء في العالم ذكورا وإناثا لاسباب كثيرة ، وترددهم على عيادات في سويسرا وغيرها طلبا للموت الرحيم ، أ و انتحارهم بطرق شائعة كما فعل ايلي بلاك الرئيس السابق لسلسلة بنوك ليمان براذرز الشهيرة في الولايات المتحدة، الذي رمى نفسه من الطابق 44 لاحدى عماراته في منهاتن عام 1975 او ستيف غود، رجل العقارات الاميركي الذي انتحر بإطلاق النار على رأسه، وسلسلة طويلة من المليونيرية مشاهير الفن او الاعمال الذي انهوا حياتهم بانفسهم ، لكن مشهد انتحار أو قل وداع بيتر لورنس سميدلي الذي بدا رومانسيا طبيعيا محفوفا بالدفء العائلي بعيدا عن الصخب ، يستفزنا اكثر ، ويجعل الموت بالنسبة لرجل أعمال مشروعا منظّما ناجحا في حياته ! جرأة لايملكها الا شخص بعادة الاثرياء الذين لايخشون شيئا في صراحتهم حتى مع انفسهم .
ملامحُه اثناء التصوير الذي تناقله اليوتيوب وبثته قناة البي بي سي البريطانية ، يجدد الدعوة الى التصالح مع الموت ، الى ايقاف الحملة الدعائية ضده ، وتحريم الطقوس المهينة له ، فالموت ليس سوى محو نهائي لفكرة مفترضة انتهت ، وترْكِ الاحياء يتداولون علاماتها حتى يأتيهم جماعات أو فرادى، وهو ليس مفاجئا كما يروجون ، وهو حق واتفاق وتسليم سلمي للحياة وليس عقوبة ، بل هو البند الاساسي في عقد الحياة الذي يبدأ بالولادة وينتهي به ، واية محاولة للافلات منه او تأجيله، أو التنصل منه محاولة غير مجدية ، واي رهان على شيء في غيابه ، رهان مضحك فاشل ، لايمت للعقل أو الاتفاق المعتاد بصلة.
مشهد وداع سميدلي الرومانسي مع استعراض صور من حياته ، ينصحنا بعدم التفكير نهائيا بشيء دون الموت ، علينا استقباله باحترام والاستعداد له بمحو الاسماء كما هو التحضير لاختيارها قبل الولاده، وافراغ الخزانات بالتدريج كي لاتتكدس مخلفات واثقالا، ثم الاحتفال به حين يحين احتفالا تلقائيا هادئا بسيطا آمنا محايدا دون ضجيج.