أكثر من نصف قرن ومحاولات إعادة الروح لما كان يعرف بـ (اليسار العراقي) والذي يشكل الحزب الشيوعي نواته الأساس؛ تتهاوى من دون أن تترك أي أثراً إيجابياً على ذلك الطريق، لأسباب تحتاج للكثير من البحث والتنقيب. مع مرور الوقت أصبحت المهمة أكثر عسراً وتعقيداً، لا سيما وأن التحولات الهائلة التي شهدها العراق في العقود الأخيرة، أحدثت خراباً في البشر والحجر لا مثيل له، وأنتجت واقعاً غرائبياً لا يستجيب كثيراً ومسطرة اليسار التقليدي. عندما نتصفح جوانب من حالتنا المزرية زمن النظام المباد وبعده، ندرك مدى اغتراب هذه الدعوات الطوباوية عن هذا الواقع، الذي يحتاج؛ الى فهمه وفك طلاسمه وهيروغليفياته قبل البدء في مشوار الألف ميل لتغييره أو إصلاحه. في بداية التسعينيات عقد الحزب الشيوعي مؤتمره الخامس تحت شعار (الديمقراطية والتجديد) وبعد مرور ربع قرن على ذلك وأربعة عشر عاماً على زوال النظام المباد، لم يفلح الحزب من تحويل ذلك الشعار الى واقع، حيث تمر الجولات الانتخابية من دون الالتفات الى مرشحي عميد الأحزاب السياسية واليسار العراقي، أما الأحزاب الأخرى التي تمتشق اسم الشيوعية والعمالية واليسار والطبقة العاملة، فلا تمتلك منها سوى تلك العناوين الضخمة والشعارات التي هجرتها البروليتاريا العالمية في قعر دارها، قبل انهيار جدار برلين وظهور البيروسترويكا والغلاسنوست في الاتحاد السوفيتي السابق بزمن طويل.
ان تتعاطف والمسيرة الشاقة والتراجيدية للشيوعيين ومناضلي الديمقراطية واليسار في العراق شيء، والموقف من الكيانات التي تدعي حالياً تمثيلها لذلك الإرث الوطني شيء آخر. غير القليل منا ما زال “يهدهد في السر أرجوحة” بالرغم من عتمة ومأساوية الواقع الراهن، لكن ذلك لا يدفعنا الى “تجريب المجرب” والتشبث بنسخ جديدة من الأوهام، عبر الحلول المكتبية البائسة وفرسانها من الأفندية، الذين يتوهمون العالم وأحداثه المتسارعة وفقاً لرغباتهم الشخصية وهلوساتهم المجنحة. لا يحتاج المتابع الموضوعي للمشهد الراهن؛ الى قدرات عبقرية كي يدرك نوع الهموم والاهتمامات التي تشغل الغالبية العظمى من سكان هذا الوطن المنكوب، وهي ما خلا عدد قليل من “النخب” لا يشغلها لا من قريب ولا من بعيد قضايا اليسار واليمين وغير ذلك من هموم الطبقات الاجتماعية المرتبطة بأسلوب إنتاج (قوى وعلاقات) واضح المعالم والغايات، لا كما هو الحال عندنا؛ حيث سوادنا الأعظم هم من عيال الرزق الريعي وجمعياته الخيرية.
إذا لم تخبرنا كل هذه المحطات والمشوار الطويل من الهزائم والخيبات؛ بأن فلول اليسار قد عفى عليها الزمن، فذلك يعني أن حالتنا ميؤوس منها، لأن “فاقد الشيء لا يعطيه” ولو كان بحوزتهم قطرة من الحيوية والديناميكية لكشفت لنا عن حالها طوال كل هذا الوقت من الجفاف واليباب العملي والنظري (زمن الشمولية بالأمس والديمقراطية اليوم). الحل من دون شك سيكون بالانطلاق بعيداً عن هذا اليسار المفلوج وهواياته العبثية، والبحث عن سبل تشق لذلك الإرث المشرق لليسار الحقيقي طريقاً، الى عقول وسواعد الأجيال الجديدة من الشبيبة العراقية، القادرة وحدها على تحويل المشاريع الحضارية المنشودة الى واقع. وهي مهمة أشرنا مراراً الى ارتباطها الوثيق بحالة المجتمع العراقي ككل، وقدرته على استرداد عافيته، وهي بالتأكيد لن تقدمها له الكبسولات اليساروية والتي يعاد ترميمها وتدويرها كثيراً عند مفترق الطرق..
نقلا عن الصباح الجديد