واقعيا انتهت المقاومة في فلسطين عام 1948، وهدأت الجبهات ومضى المهزومون والمنتصرون في شأنهم. لم يحدث صراع عسكري يذكر بين عامي 1948 – 1967، ولم تكن حرب 67 التي سننشغل في المستقبل القريب بمناسبة مرور خمسين عاما عليها يريدها العرب، ولا يقدرون عليها، كانت انزلاقة أو ورطة غير محسوبة أو غير متوقعة، أو مغامرة تصعيدية سياسيا وإعلاميا وجماهيريا تقديرا بأن الحرب لن تحدث، ولكن الجنرالات الإسرائيليين الذين كانوا يدركون العجز العسكري العربي فاجأوا قادتهم السياسيين كما فاجأوا الدول العربية بحرب خاطفة وساحقة، وما حدث بعد ذلك لم يكن سوى مداراة للجرح النرجسي، رغبة في الموت وهروب من الخزي أكثر مما هو مقاومة. لم تكن المقاومة منذ عام 1967 سوى سلسلة من الخسائر والهزائم.
الأيديولوجي الذي يؤشر إليه بالعاجز عن رؤية احتمال الخطأ لدى الذات والمعقولية والصواب لدى الآخر يختلف عن المنتمي سياسياً وفكرياً الى التيار نفسه، بمعنى أن الأيديولوجي الإسلامي ليس بالضرورة هو كل إسلامي، والأيديولوجي اليساري ليس بالضرورة هو كل يــــساري، وكذا القومي والليبرالي، ولكن الأيديولوجي هو كل من ينتمي إلى فكرة انتماء يجعله يرفض أو يعجز عن إدراك احتمال خطئها أو صواب الفـــكرة الأخرى بغــــض النـــظر عن الاتجاه أو الفكرة أو الفلســـفة التي ينتمي إليها؛ سواء كانت دينية أو وطنية أو قومية أو سياسية أو فلسفية.
تبدأ الأيديولوجيات العاملة فكرة نبيلة تحررية أو إصلاحية، وفي لحظة انكسارها وفشلها قد تراجع نفسها وتغير من أفكارها واتجاهاتها، ولكنها في عالم العرب أنشأت حالة مَرَضِيّة مخيفة. فقد تشكلت جماعات وفئات من الأيديولوجيين المنتمين إلى تيار أو فكرة يتوقف إحساسهم بالزمن وإدراكهم للعالم والأفكار عند تلك اللحظة، والحال أن أكثر من يسيء إلى فكرة أو تيار ويعمل ضدها هم الأيديولوجيون المنتمون إليها، ولكنهم يسوقون أنفسهم ومؤيديهم ومجتمعاتهم إلى سلسلة من الشرور والأزمات، تبدأ بالعجز عن إدراك الواقع المحيط وعمق الأحداث الجارية في العالم وما يصاحبها من تحولات اقتصادية اجتماعية ثقافية، فيتوقف الإدراك ومن ثم التحليل والفهم والتقييم وفق المعطيات التي تشكلت في مرحلة الانتشار والتأثير، ثم الاعتقاد بأنه لا مجال للإصلاح أو العمل إلا بالعودة الى ما قبل لحظة الانكسار.
وينشئ التعصب في تفاعله مع الهزيمة والفشل الكراهية والحقد اللذين يشكلان المواقف والاتجاهات والأفكار والسلوك، فيكون الآخر شرّاً يجب التخلص منه، ويعجز الأيديولوجيون عن إدراك شيء مشترك مع “الآخر”، وفي الصراع الممزوج بالكراهية لا يعود اعتبار للمبادئ العامة والقيم والقوانين السائدة، إلا عندما تكون في مصلحة الأيديولوجيا والأشخاص المنتمين إليها، فلا تعود الدكتاتورية والاستبداد شراً إذا كانت حليفة لهم أو تعمل ضد خصومهم، ولا تكون الحرية قيمة عليا ملهمة ومقدسة الا إذا كانت حريتهم.
وتتشكل مصالح وعلاقات ومكاسب تقوم على الفساد والاستبداد والظلم، ولكن يأخذ الفساد اسماً حركياً جديداً هو الأيديولوجيا التي ينتمي إليها الظالمون والفاسدون والفاشلون، ويصبح الدفاع عن الفساد والفشل دفاعاً عن الأيديولوجيا وعن الذات والهوية، وتنشأ أجيال جديدة في ظل واقع الفساد الذي تحسبه إصلاحاً فلا ترى الإصلاح سوى مكاسب شللية وفئوية مغلقة ومحتكرة، ولا تؤمن بالحرية إلا لفئتها، ولا ترى الآخر بمن هو ليس من الفئة المغلقة جديراً بحق أو حرية.
وبمرور الزمن وتعاقب الأجيال، تنشأ تراتيب اقتصادية واجتماعية عن الفساد والفشل، ما يتحول إلى منظومات وتشريعات ومؤسسات وشبكة معقدة من العلاقات والمصاهرات والمصالح والشراكات والأفكار والاتجاهات والمعتقدات الاشاعات التي لم يعد أصحابها يدركون روايتها الحقيقية المنشأة.
وأخيراً يتحول هذا الوضع الشاذ والمتماسك والصلب إلى خلل نفسي وعقلي، ويكون هذا الخلل والوضع الشاذ قيماً وثقافات مكرّسة تدافع عنها وتبررها وتنظر لها مؤسسات اقتصادية وإعلامية وفكرية وتعليمية وأكاديمية، فيكون الشر أصلاً والخير خروجاً على الأصل وحالة تدعو إلى السخرية والنبذ.
نقلا عن الغد الاردنية