لماذا لا تبادر أحزاب الحكم والقوى خارج العملية السياسية إلى طرح مبادرة تحالف سياسي عربي لا طائفي بعيدا عن المصالح الحزبية الضيقة، وهي فرصة للقطع مع التحالفات الطائفية.
الأزمة التي أثارتها قضية رفع العلم الكردي على المباني الحكومية لمدينة كركوك الشهر الماضي أشرت بوضوح على المرحلة التي وصلت إليها القيادة الكردية في إنضاج وتنفيذ مشروع “الاستقلال” التام عن العراق وتأسيس دولة “كردستان”، وهي قائمة فعلا بجميع عناصرها (الأرض والثروة والشعب) ولم يبق سوى الاعتراف بها من الأمم المتحدة وهو أمر ليس صعبا إذا ما سمحت أميركا.
شكلت سارية العلم الكردي الرمح الذي غرس في خاصرة العراق الدولة والشعب. الرغبة الكردية في التعجيل الانفرادي بفرض الاستفتاء في كركوك ترتبط بغاية الاستفتاء الكردي العام على الاستقلال عن العراق، وأوضح هذا أن مبررات الخطوة الكردية الأخيرة ليست بسبب نفاد صبر الأكراد بعدم تنفيذ المادة الدستورية 140، وإنما لشعورهم بأن الظروف قد أصبحت ملائمة وأهمها الواقع السياسي الضعيف لحكومة بغداد والارتباك الإقليمي والدولي في معالجة الأزمات المحلية في المنطقة ومن بينها العراق.
رغم وهن الموقف الحكومي العراقي إلا أن القوى السياسية أصبحت أكثر قدرة على مواجهة المخاطر التي ستقود إلى تقسيم العراق، لكن الرفض لن يعيق المشاريع الخطيرة المقبلة المحيطة بكيان العراق الواحد، ولن تغرنا التصريحات الدولية والإقليمية القائلة بوحدة العراق، فبعد الأكراد سيأتي دور العرب السنة ومشاريع بعض سياسييهم الجاهزة للذهاب إلى الإقليم السني القريب من الانفصال. ويعتقد شيعة السلطة أنهم غير قلقين لأنه في نهاية المطاف سيظلون حاكمين وسط وجنوب العراق الغني بالنفط ولا ينازعهم عليه أحد، لكن أي عراق ذاك الذي سيقتطع منه ثلاثة أرباعه.
فهل انتظار ما ستؤول إليه الأمور هو الموقف العملي لإبطال تلك المشاريع دون المساس بالحق التاريخي للأكراد بقيام دولتهم؟ فعلى أي من الأسس الدستورية يحق للأكراد الاستحواذ على كركوك؟ ألم تقل الوقائع التاريخية بأن كركوك مدينة عراقية متنوعة الأجناس وليست كردية؟ وإذا كانت السياقات التي فرضها الأكراد عام 2006 في بنود الدستور هي المرجعية لأخذ رأي الشعب في كركوك، أليست هناك مراحل متتالية حددتها المادة الـ140؟
مثل التطبيع في المدينة وقيام إحصاء لديموغرافيتها السكانية من الأكراد والعرب والتركمان، ثم قيام الاستفتاء حول مصير كركوك إلى حضنها العراقي أم حضنها الكردي، علما بأن التطبيع متعثر وهناك عمليات تهجير متواصلة للعشائر العربية من كركوك منذ عام 2003.
وخلال المعركة ضد داعش تم طرد القوات العراقية العسكرية النظامية من كركوك إضافة إلى منع دخول قوات الحشد الشعبي، وحصول مصادمات عسكرية في بعض مناطق محافظة كركوك مثل طوزخرماتو، وعدم حسم تحرير قضاء الحويجة من داعش، وأدت عمليات “تكريد” كركوك إلى الحالة التي كشفتها أخيرا حالة فرض الأمر الواقع في مجلس المحافظة الذي أصبحت فيه نسبة الأكراد هي الغالبة أمام الممثلين العرب والتركمان. لماذا لا تتم العودة إلى الإحصاءات السكانية السابقة ما بين عامي 1947 و1997 حيث أظهرت الأرقام أن كركوك مدينة مشتركة ولا يشكل الأكراد غالبيتها بل يدعي التركمان أن نسبتهم فيها كانت عام 1960، 95 بالمئة، ولم تتمكن السلطات العراقية بعد 2003 من إجراء إحصاء سكاني لكركوك أو غيرها من مدن العراق.
إن التلويح بأساليب القوة سيعيد الأكراد إلى نقطة الصفر وسيتضرر الشعب الكردي قبل شعب العراق. ويبدو أن القيادة الكردية قد تلقت تطمينات إقليمية معروفة ليست بينها كل من إيران وتركيا الرافضتين للمشروع الكردي، ولو كانت في بغداد حكومة قوية صارمة ستفشل تلك المشاريع.
وهنا لا بد من العودة إلى السبب السياسي الذي حصل قبيل وبعد الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، ذلك أن الأميركان لم يكونوا على علاقات وطيدة مع فصائل المعارضة العراقية التي كانت لديها مرجعيات إيرانية وسورية مثلما كانت عليه مع الأكراد الذين كانوا “ورقة” بيد تلك المشاريع قبل الفصائل السياسية العربية، وتهيأت الظروف في حينها لبناء “تحالفات طائفية” كطريق لقيام حكومة جديدة بعد إنهاء نظام صدام.
كانت القيادة الكردية ومازالت العمود الفقري لذلك التحالف الطائفي الذي صنعه الأميركان قبيل اجتياحهم للعراق عام 2003 ولولا الضلع الكردي لما نجح مشروع اليمين الأميركي في تغيير النظام السابق بالقوة.
أتذكّرُ أن سفير الرئيس الأميركي جورج بوش لدى المعارضة العراقية حينذاك، زيلماي خليل زادة، خاطبني قبل يومين من انعقاد مؤتمر لندن للمعارضة “يجب أن تدخلوا كعرب سنة لهذا المؤتمر”، وحين رفضنا المعادلة الطائفية ذهب وكوّن الفريق السني المطلوب تقدمه الحزب الإسلامي العراقي الذي كان مسؤوله في لندن حينذاك أسامة التكريتي ومسؤوله التنفيذي إياد السامرائي ودخل إلى جانبه حاجم الحسني الذي كان عضوا في الحزب الإسلامي، وأصبح رئيسا للبرلمان ثم انقلب على حزبه، وأشخاص آخرون من العرب السنة دخلوا المؤتمر المذكور بطلب من مسعود البارزاني نفسه، لكنهم أكلوا الطعم في مؤتمر أربيل قبيل الاجتياح العسكري بأيام قليلة، وتم إقصاؤهم بعد تثبيت قواعد “التحالف الشيعي الكردي”ما عدا الحزب الإسلامي الذي طرح نفسه كممثل للسنة.
وظلت هذه الأضلاع الثلاثة أساس استمرار العملية السياسية طيلة السنوات الأربع عشرة الماضية. وفشلت جميع محاولات التيار الليبرالي العراقي لتغيير تلك المعادلة التي أدت إلى ما أدت إليه من خراب للبلد. لكن ما آل إليه ذلك التحالف الطائفي العربي الشيعي السني الكردي هو طغيان المصالح وانعدام الثقة بين أطرافه، ووجدت قيادات التحالف الشيعي الحاكم بعد سنوات من عمر التحالف الشيعي الكردي أنها قد أعطت الكثير للقيادة الكردية خصوصا في قضية كركوك التي فرضها الأكراد في حينها لكي يتم تضمينها بالدستور، فهل يعقل أن ينظر إلى العراق كوطن واحد، ثم يتم التثبيت بأن هناك مناطق متنازعا عليها وهو مصطلح متعارف عليه بين الدول وليس داخل الوطن الواحد.
ووفقا لمجريات التحالف الطائفي الثلاثي فقد أُهمل الضلع العربي السني من قبل التحالف الشيعي، بل مورست بحق عرب العراق السنة سياسات الظلم واتهموا بالكثير من اتهامات الولاء للنظام السابق أو “الإرهاب القاعدي والداعشي” في ما بعد، وكان هذا سببا في استقواء الأكراد ولعبهم في ما بعد بورقة العرب السنة. كانت الأحزاب الشيعية واهمة في تحالفها الطائفي مع الأكراد، لكنها اكتشفت ذلك متأخرا وإن كثيرا من الأمثلة الواقعية أعطت الدلائل على أن مبررات ذلك التحالف الشيعي الكردي لم تعد قائمة، وأن القيادة الكردية وصلت إلى مرحلة الانفصال النهائي عن العراق ومن ضمنه كركوك. وما يثار من أزمة رفع العلم الكردي على المباني الحكومية لهذه المدينة ليس سوى خطوة على الطريق مما وضع حكومة حيدر العبادي أمام إحراج كبير، خصوصا أنه يعتقد أن أسلوب التهدئة وعدم المواجهة قد ينفع في ظل ظروف عدم الحسم التام لمعركة الموصل.
إن أحزاب التحالف الشيعي غير قادرة على إعلان موت التحالف الشيعي الكردي والذهاب إلى خيار التحالفات السياسية الجديدة لأسباب تتعلق بعدم الثقة بين السياسيين الشيعة والسنة. أسباب هذا التهاون هي طبيعة العلاقات المصلحية بين بعض تلك الأطراف والقيادة الكردية، ومسعود البارزاني يستثمر هذا التباين في المواقف لصالح مشروعه المستقبلي معتقدا أنه يحتفظ بعلاقات جيدة مع زعامات سنية تروم الذهاب إلى مشروع الإقليم السني.
لم يعد أمام الأحزاب الشيعية سوى تقديم رؤية وطنية عراقية جديدة لتحمل أعباء المرحلة الجديدة من دون الأكراد أي من دون التحالف الطائفي الشيعي الكردي الذي انتهى عمره وقد يكون ذلك من حسن حظ عرب العراق. والسؤال المطروح لماذا لا تبادر أحزاب الحكم والقوى خارج العملية السياسية إلى طرح مبادرة تحالف سياسي عربي لا طائفي بعيدا عن المصالح الحزبية الضيقة، وهي فرصة للقطع مع التحالفات الطائفية، والدخول في معادلة العراق العربي وستجد هذه القوى أن الأبواب ستنفتح لبناء بيئة سياسية جديدة تتذلل من خلالها مشكلات ما بعد داعش، وستجد جميع القوى العراقية أن هناك عمقا عربيا واسعا سيقدم الدعم للعراق الجديد، للخروج من مأزق العزلة.
نقلا عن العرب