مثلُ معدمٍ، كساهُ الفقر والعوز والفاقة جلداً، تربكه بحبوحةُ عيشٍ وقعت عليه مصادفة، يصيبنا الفرح بالرعب من مقبل أيامٍ قد تخبئ حزناً وشقاءً وتعاسةً. وكما يعجز لصّ، تتربّص به أعين ترقب حركاته وسكناته، عن إنفاق مال سرقته يداه، نكتمُ أيّ ضحكةٍ تباغت خزين دمع لا ينضب في مآقي العيون. الحزن والبكاء وشلالات الدموع ـ عبر التاريخ ـ ماركة تشير إلينا، والسبب الذي جعل بلاداً شحيحة المطر تجري في وديانها كلّ هذه الأنهار. لهذا لم تكن بالسيّاب حاجة لإجابة حين سأل بويب: أغابة من الدموع أنت أم نهر؟ لأنّه يدرك ما نعرفه منذ الأزل.. يعي أنّ أنهار الوطن غابات من دموع الأرامل واليتامى.
عدا عن المواظبة على أعمال توفر أسباباً للعيش، نحرص حرصاً بالغاً على حضور مآتم لم تعد تستوعب أعداد معزّين يجد بعضهم نفسه خارج سرادقها. في سرادق المآتم جوّ أليف اعتدنا طقوسه وحفظناها عن ظهر قلب، فطره الكمد والحزن.. لا حاجة بنا لبطاقات دعوة، ولا يوقفنا مَثَل قرّر أنّ من يأتي من دونها سيجد نفسه على الأرض المغبرة بلا فراش.. بطاقات الدعوة ابتكرت في الأعراس لإحراج مدعوين ليست بهم قدرة على الفرح، ولإسقاط أيّ عذر لغياب محتمل.. في سرادق المآتم لا يعاني المعزّون قلق (دفّان) تمنّى لو لبس وجه شاعر وسمته الكآبة، في حين يعجز المدعوون إلى الأفراح عن اقتناء وجه ينبض بالبِشْر والحبور!!
في بلاد أخرى غير بلادنا، يندر أن تجد مكتئباً حزيناً، فالمقدرة على كبح الأحزان والاستمرار بالحياة رباطة جأش وصلابة يحثّ عليها مجتمع موقن أن دوران الأرض لا توقفه سحب الهموم.. مجتمع يبتدع أفراده كلّ يوم أعياداً وأسباباً للفرح. وفي حين تمتلئ تقاويمنا بتواريخ الوفيات وذاكرتنا بصور الفواجع والمآسي، فإنّ ذاكرتهم لا تنسى تاريخ ولادة أو موعداً لعيد. السيّاب وجد نهره غابة دموع، وتشارلي شابلن أيقن أن يوماً بلا ضحك، هو بكلّ بساطة وإيجاز، يوم ضائع!!
نهدر الحياة بحزن نرثه ونشربه مع حليب الأمهات وشقاء الآباء، ونضيّع العمر ترحالاً في تذكّر الراحلين.. أقصى ما نأمله مأتم يحتفي بموتنا، حتى إذا باغتنا عيد، طمرنا فرحه وبهجته في قبور أحبتنا!!
[email protected]